قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه مع تُجَّار المدينة عام الرَّمادة

أيَّام خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي
إنه ذو النورين...وصاحب الهجرتين...وزوج الابنتين([1])...عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
في خلافة الفاروق رضوان الله عليه، أصابت النَّاس سَنَةٌ مُجْدِبَةٌ أهلكت الزَّرْع والضَّرْع([2]) حتَّى دُعِيَ عامُهَا لشِدَّة قَحْطِهِ بعام الرَّمَادة([3]).
ثمَّ إنَّ الكَرْبَ ما فَتِئَ يشتدُّ على النَّاس حتَّى بَلَغَتِ الأرواح الحناجر([4])...فأقبلوا ذات صباح على عُمَر وقالوا:
يا خليفة رسول الله، إن السماء لم تُمْطِر، وإن الأرض لم تُنْبِت...وقد أَشْفَى([5]) النَّاسُ على الهلاك...
فما نصنع؟!.
فنظر إليهم عمر بوجه عَصَرَهُ الهمُّ عَصْراً، وقال:
اصبروا، واحتسبوا([6])...
فإنِّي أرجو ألاَّ تُمْسُوا حتَّى يُفَرِّجَ الله عنكم.
فَلَمَّا كان آخر النَّهار؛ وردت الأخبار بأنَّ عِيراً([7]) لِعُثمان بن عفان جاءت من الشَّام، وأنَّها ستصل المدينة عند الصَّباح.
فما إن قُضِيَتْ صلاة الفجر حتى هبَّ([8]) النَّاس يسْتَقبلون العِير جماعةً إثر جماعة...
وانطلق التُّجَّارُ يتلقَّوْنها؛ فإذا هي ألْفُ بعيرٍ قد وُسِقَتْ([9]) بُرّاً...وزيْتاً...وزَبِيباً...
أناخت العير([10]) بباب عثمان بن عفان رضوان الله عليه، وطَفِقَ الغِلمانُ يُنْزِلُون عنها أحمالها...
فدخل التُّجَّار على عثمان وقالوا:
بِعْنَا ما وصل إليك يا أبا عمرو.
فقال: حُبّاً وكرامة([11])، ولكن كم تُرْبِحُونَنِي على شِرائي؟.
فقالوا: نُعطيك بالدِّرهم درهمين.
فقال: أُعطيتُ أكثر من هذا...فزادوا له...
فقال: أُعطيت أكثر ممَّا زِدْتموه...فزادوا له.
فقال: أُعطيتُ أكثر من هذا...
فقالوا: يا أبا عَمْرو، ليس في المدينة تجَّارٌ غيرنا...
وما سَبَقَنا إليك أحدٌ...فمن الذي أعطاك أكثر مما أعطينا؟!.
فقال: إنَّ الله أعطاني بكلِّ درهم عَشَرَةً([12])...
فهل عندكم زيادة؟.
قالوا: لا يا أبا عمْرٍو...
فقال: إنِّي أُشْهِدُ الله تعالى أنِّي جَعَلْتُ ما حمَلَتْ هذه العِيرُ صدقةً على فُقَرَاءِ المسلمين...لا أبتغي من أَحَدٍ دِرْهَماً ولا ديناراً...
وإنَّما أبتغي ثواب الله ورضاه([13]).
العبر المستخلصة من هذه القصة:
1- المجاعة من أنواع الابتلاء؛ لقوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين)([14]).
2- الأحْداثُ الجِسَام قد تكون خيراً وقد تكون شرّاً، ولذلك اسْتَحَقَّت أن يُؤَرَّخَ بها.
3- يَلَجَأُ الناس إلى خِيَار الأُمَّة وقادتها عند اشتداد الكُرُوب والأهوال.
4- تَأَلُّمُ الخليفة عُمر رضي الله عنه لنزول القحط والمجاعة، ووصيَّتُهُ بالصَّبر والاحتساب، وانتظار انفتاح أبواب الفَرَجِ؛ لقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً)([15]).
5- صدق إلهام عمر رضي الله عنه بانفتاح باب الفَرَجِ قريباً، وعمر رضي الله كان مُحَدَّثاً؛ أي: مُلْهَماً، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «قد كَانَ يَكُونُ في الأُمم قَبْلكُم مُحَدَّثُون([16]) فَإِنْ يَكُنْ في أُمَّتِي مِنْهُمْ أحدٌ، فإنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ مِنْهُم»([17]).
6- تَلَهُّفُ الناس وتَسَابُقُهُم لاقتناء الطَّعَام وخاصَّة عند حُدُوث المجاعات.
7- من عادة التُّجَّار التَّسابق نحو شراء البضائع بُغْيَةَ الرِّبح الوافر.
8- الأخيارُ لا تُغْريهم المساومة على الرِّبح، وَيَرَوْن ما عند الله هو خيرٌ للأبرار؛ لأنه يُثيبُ على الحسنة بِعَشْرِ أمثالها؛ لقوله عزَّ وجل: (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)([18]).
9- من أعظم صِفات المؤمنين: الإيثارُ والصَّدَقة على فقراء المسلمين ابتغاء مرضاة الله؛ لقوله عزَّ وجل: (وَيُوثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة)([19])، وقوله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ واللهُ وَاسِعٌ عَلِيم)([20]).
والحمد لله رب العالمين.
([1]) أي: ابنتيْ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهما: رُقَيَّة، وأمُّ كُلثوم رضي الله عنهما .
([2]) الضَّرْعُ: كناية عن الماشية.
([3]) عام الرَّمَادة: عام أجْدَبَت فيه الأرض حتى صار لونها كالرَّمَاد، وجاع النَّاسُ، فَسُمِّي عام الرَّمَادة.
([4]) بلغت الأرواح الحناجر: كناية عن شدة الضَّيق.
([5]) أَشْفَى النَّاس على الهلاك: قاربوا على الهلاك.
([6]) احتَسَب الشَّيء: نوى به وجه الله.
([8]) هَبَّ النَّاس: نهضوا وبادروا.
([10]) أَنَاخَتِ العير: بركت الجمال.
([11]) حُبّاً وكرامة: قبلت قولكم بكل الحب والتكريم.
([12]) أعطاني بكل درهم عشرة: أي ضاعف الله ربحي عشر مرات.
([13]) من كتاب: «صور من حياة الصحابة»؛ للدكتور: عبد الرحمن رأفت الباشا. ص: 544- 546.
([14]) سورة: البقرة، آية: 155.
([15]) سورة: الشَّرْح، الآيتان: 5، 6.
([16]) قال ابن وَهْب- في روايته عند مسلم- تفسير: (مُحَدَّثُون)؛ أي: مُلْهَمُون. صحيح مسلم: 4/ 1864، وقال الحُمَيْدِي: المحدَّث: المُلْهَمُ للصَّواب. فضائل الخلفاء الراشدين؛ لأبي نعيم الأصبهاني: 1/ 42.
([17]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه، رقم: (23): 4/ 1864. والحديث فيه روايات.