وحدة الإحياءشذور

موقعية الجمال في الرؤية المعرفية للقرآن الكريم

 أبعاد في الجمالية القرآنية

ليس مبالغة القول إن “الإنسان كائن جمالي”، ودليل ذلك أنه ميال، فطريا، إلى الشعور بالجمال وتذوقه وممارسته، ويكفي دليلا على ذلك ملاحظة أن القرآن الكريم اشتمل على ثلاثة أبعاد في التعامل مع الجمال: تمثل البعد الأول في أن لغة القرآن وبيانه مثلتا القيم الكبرى للجمالية الفنية، قيما سحرت ألباب العرب وغيرهم، ونشأت، لأجلها، علوم وفنون لإبراز تلك القيم وتحديد عناصرها الجمالية ووظائفها الفنية. يقول الإمام الباقلاني: “فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه، وطرقه وأبوابه، من تعديل النظم وسلامته، وحسنه وبهجته، وحسن موقعه في السمع، وسهولته على اللسان، ووقوعه في الأنفس موقع القبول، وتصوره تصور المشاهد، وتشكله على جهته حتى يحل محل البرهان ودلالة التأليف، مما لا ينحصر حسنا وبهجة وسناء ورفعة…”[1].

وإن القمم العالية للبيان القرآني لتعد أحد المداخل الأساسية التي ولج منها الإنسان العربي، عند نزول الوحي، ليتزود من جمال القرآن في مبانيه ومعانيه وأساليبه، يقول د. مصطفى بن حمزة: “وأحسب أن ملاحظة الجمال قد كانت أكبر المداخل وأوسعه إلى الإسلام منذ أن أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته في الناس، وقد كان في قمة الجمال بيان القرآن الكريم الآسر الذي لم يتمالك العرب إذ سمعوه أن أعلنوا انصياعهم له، إذ كانت الكلمة الواحدة تأخذ بمجامع القلوب، فقد سمع الأعرابي قول الله تعالى: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ (الحجر: 94)، فذهب به الفكر كل مذهب في استحضار جوانب الروعة في فعل “اصدع”، فلم يتمالك أن سجد، فقيل: لم سجدت؟ قال: سجدت لجماله”[2].

أما البعد الثاني، فيظهر في أن مضامين القرآن الكريم وتوجيهاته لفتت نظر “هذا الإنسان” إلى الجمال الذي يبدأ من أعماق داخله، ويمتد إلى مختلف العناصر الطبيعية التي تحيط به في عالم النبات والجماد والحيوان، وفي محيطه الأرضي وملكوت السموات.

والاستقراء هاد إلى تبين هذا الملحظ في الخطاب القرآني، منها قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4)، ومنها ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ (النمل: 60)، ومنها: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ… وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ (النحل: 5-8)، ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ (الملك: 5)، و﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ (الصافات: 6) و﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ﴾ (الأنعام: 99)، و﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ (النور: 31).

وقد لخص عماد الدين خليل هذين البعدين في قوله: “إن التعامل القرآني مع الجمال يأخذ اتجاهين: فأما أولهما فيقوم على المضامين الجمالية التي يطرحها كتاب الله، بدءًا من حديثه عن خلق الكون والعالم والطبيعة والحياة والخلائق والإنسان.. مرورا بلفت الأنظار والسماع إلى حشود الجماليات التي تنتشر في أمداء السموات والأرض، وانتهاء بالتأكيد على الجمال والزينة كعناصر ضرورية متممة، لتجربة الحياة المؤمنة المستقيمة.

وأما الاتجاه الثاني فيقوم على الأسلوب، وقد قيل في معجزة القرآن ( الأسلوبية) الكثير”[3].

أما البعد الثالث، فيتجلى في أن من توجيهات القرآن وآدابه ما يتعلق بتجميل الحياة والحرص على التمتع بزينتها وبهجتها استرواحا بها، وإظهارا للحمد والشكر المتوجب من الإنسان إلى الله المنعم بفيوضاتها التي لا تعد ولا تحصى. ويظهر هذا البعد في التوجيهات القرآنية التي تمثل قواعد حاكمة في هذا الميدان، من مثل قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ (الأعراف: 29)، وقوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 30).

القادح الجمالي في الفطرة الإنسانية

بل يمكن للدارس أن يذهب إلى أبعد من ذلك، فيلمح أن السياق القرآني لفت إلى ما يمكن تسميته بالقادح الجمالي في المحيط الإنساني، ذلك القادح الذي أنار بداخل الإنسان المسلم القدرة على تمثل الجمال في سياق وصف القرآن لمعجزة إنزال الماء وإنبات النجم والشجر والزهر، وتحويله إلى واقع معيش عبر تجميل المنزل والمدينة والفضاء العام بمختلف أنواع الحدائق والبساتين، يقول يحي وزيري: “إن وجود الحدائق بالمساكن والمباني الخاصة أو وجود المناطق الخضراء بالمدن اتجاه حضاري وجمالي نبه إليه القرآن الكريم في العديد من آياته، حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَءلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ (النمل: 62).

من هذا المنطلق يجب ألا ينظر إلى محاولات إنبات الحدائق على أنها رفاهية، بل هي إحدى نعم الله على البشر، ويتأكد ذلك من قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 30)، ومن هنا تتأكد الدعوة الصريحة لإيجاد الحدائق التي تدخل تحت كلمتي الزينة والطيبات اللتين وردتا في الآية السابقة”[4].

والتأمل في الأبعاد المذكورة آنفا يهدي إلى أن القرآن الكريم كان يؤسس، في الوسط العربي والإنساني، أبجديات ثقافة الانتفاع الجمالي، بعد أن أحكم الإنسان ثقافة الانتفاع المادي والخدماتي بمفردات الكون، وصارت محددا من محددات العلاقة التي تحكمه بمحيطه.

وإذا كان الانتفاع المعرفي العلمي وسيلة الإنسان للانتفاع المادي والخدماتي من عناصر الكون المختلفة، فإن الانتفاع الجمالي وسيلته إلى الارتقاء الروحي، وهذا ما يفسر عناية القرآن الكريم بهذا الجانب.

يقول بركات حمد مراد: “وإذا كان الانتفاع المعرفي بالكون متوجها بالترقية إلى الملكات الروحية ذات الصفات التقديرية أو المعيارية، وعلى رأسها العقل، فإن مجالا آخر للانتفاع الروحي بالكون كان مناط اهتمام التحضر الإسلامي، وهو الانتفاع الجمالي، فمن الملكات الإنسانية التي احتفل بها الإسلام عامة والقرآن خاصة، ملكة الإحساس الجمالي، وهي التي بها يتنعم الإنسان بمظاهر الجمال المتنوعة المبثوثة في الكون، ويرتقي من خلال ذلك التنعم إلى آفاق رحبة من الحياة الروحية.

 وقد جاء القرآن الكريم يوجه الإنسان إلى مباشرة الكون مباشرة انتفاع جمالي، وذلك ما يبدو في عرض مشاهد لا حصر لها من مشاهد الطبيعة عرضا تصويريا يبرز مسحة الجمال فيها، فيثير في الإنسان حاسته الجمالية، ويستدعيها كي تتفاعل مع تلك المشاهد”[5].

وقد استطاع الإنسان، باهتدائه بهدي القرآن، أن يستوعب هذه الأبعاد، فصارت له معيارا يتذوق به الجمال، كما أضحت له فلسفة تتفجر من خلالها إبداعاته الفنية في الشعر والقصص والحكمة والخط والزخرفة والعمارة والتصوير وغيرها من الفنون.

ويمكن القول إن الحضارة الإسلامية، في كسبها الإبداعي الفني، تمثلت هذه الروح، وانطلقت ببذورها لتتلاقح مع الكسب الإنساني المنتمي إلى حضارات أخرى وفق حركية “التعارفية الحضارية” التي جعلها القرآن الكريم علة وسببا في تكون الشعوب والقبائل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).

وإذا كان من مهمات علماء الأمة وفقهائها السعي إلى حسن تنزيل أحكام القرآن على الواقع، أفرادا وأسرا ومجتمعات ومؤسسات، فإن المطلوب،اليوم، أن يسعوا إلى حسن تنزيل التوجيهات الجمالية والفنية القرآنية في ذلك الواقع، وأن يجعلوا من ضمن قواعدهم الأصولية والفقهية ما له تعلق بوجوب تنزيل التمثل الجمالي القرآني في مناشط حياة الناس الذوقية والجمالية.

الجمالية السليمانية في القرآن الكريم

لم يقتصر القرآن على تحريك وجدان الإنسان نحو تلك الأبعاد الجمالية الثلاثة، وإنما استثمر القصص القرآني لترسيخ القيم الجمالية وتأكيد أهميتها في حياة الناس، وقد اقتطفت من حديقة القرآن ثلاثة مشاهد كلها تتصل بشخصية سليمان، عليه السلام، ومع اختلاف سياقاتها، إلا أنها تشكل جميعها لوحة دالة على الإحساس الجمالي وتذوقه وتمثله لدى نبي الله سليمان، وكيف لا؟ وهو الذي ينتمي إلى بيئة جمالية جلالية، بيئة داوود، عليه السلام، الذي قال عنه القرآن: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (سبأ: 10-11).

المشهد الأول

يقول الحق، سبحانه وتعالى، عن سليمان عليه السلام: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سب: 12-13)، في هذه الآيات الكريمة التفات إلى جوانب من العمران الجمالي والوظيفي في عهد سليمان، عليه السلام، انخرط في رفع قواعده نفر من الجن بناء على رؤى تخطيطية وتوجيهات دقيقة (ما يشاء) من هذا النبي الكريم.

وقد وقف المفسرون على معاني تلك المكونات المعمارية والعمرانية، غير أنهم تعاملوا معها وفق رؤية فقهية لم تتح لهم فرصة السؤال عن بعض الأسرار الكامنة خلف توجيهات سليمان للجن على أن يشيدوا له تلك المآثر العمرانية. يقول السخاوي، مثلا: “المحاريب: المساكن والمنازل الشريفة، وقيل هي المساجد، والتماثيل: الصور من الملائكة والنبيين والصالحين، كان يعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوها، وإنما أمر سليمان عليه السلام بعمل الصور، وهي حرام في شرعنا؛ لأنه كان مباحا في شرعهم، ويجوز أن يراد أنهم كانوا يعملون تماثيل الأشجار وما لا روح فيه”[6].

ومع أن الآيات المذكورة ليست بصدد التحليل أو التحريم، وإنما سيقت لمقصدية الإشادة بملك سليمان وازدهار العمران المساوق للصلاح في عصره، فقد ظل الخطاب التفسيري ينطلق من هذه الرؤية الفقهية إلى عصرنا الحديث، وهذا ما يلمسه الدارس في قول الإمام الطاهر بن عاشور: “ولم تكن التماثيل المجسمة محرمة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإسلام لأن الإسلام أمعن في قطع دابر الإشراك لشدة تمكن الإشراك من نفوس العرب وغيرهم. وكان معظم الأصنام تماثيل فحرم الإسلام اتخاذها لذلك، ولم يكن تحريمها لأجل اشتمالها على مفسدة في ذاتها، ولكن لكونها كانت ذريعة للإشراك.

واتفق الفقهاء على تحريم اتخاذ ما له ظل من تماثيل ذوات الروح، إذا كانت مستكملة الأعضاء التي لا يعيش ذو الروح بدونها، وعلى كراهة ما عدا ذلك مثل التماثيل المنصفة، ومثل الصور التي على الجدران وعلى الأوراق والرقم في الثوب ولا ما يجلس عليه ويداس، وحكم صنعها يتبع اتخاذها، ووقعت الرخصة في اتخاذ صور تلعب بها البنات لفائدة اعتيادهن بأمور البيت”[7].

وهي استنباطات جليلة في بنيتها الفقهية، لكنها تقيم حجبا بين يدي تدبر الآيات وتذوق معانيها في سياق امتداح القرآن لنبيه سليمان عليه السلام الذي استطاع الجمع والتوفيق بين الملك والصلاح والعمران والجمال، وهي مكونات شهدت، وما تزال، تنافرا وتعارضا واختلالا في العديد من التجارب التاريخية والمعاصرة.

ولعل أخطر ما في نص السخاوي قوله: “والتماثيل: الصور من الملائكة والنبيين والصالحين، كان يعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوها..”، ووجه الخطورة أنه يعلل صناعة تلك التماثيل باتخاذها معبودات، وهذا لا ينسجم مع الطبيعة التوحيدية للأنبياء، ويفرغ معنى الابتلاء والامتحان من محتواه القرآني إلى موقف ترصدي للإيقاع بالناس في شرك الشرك والانحراف العقدي، بل وينافي السياق النصي للآية وسياق السورة والسياق المقاصدي للقرآن الكريم.

وأما منافاته للسياق النصي للآية، فلا يستقيم اعتبار تلك الأعمال مما يستدعي شكر الله عليها، إذ الشكر يكون على حميد الأفعال، ومادام عبادة الأصنام من دون الله عملا مشينا، فهو غير داخل في صنف الأعمال الحميدة، وغير مطلوب فيه شكر الله. وأما منافاته لسياق السورة، فقد ورد في سورة سبأ آيات عديدة تضعف التعليل الذي ذهب إليه الإمام السخاوي، وتنفي أن يسمح سليمان لنفسه بأن يأمر الجن بصناعة التماثيل ليعبدها الناس اختبارا لهم وابتلاء، فقد ورد في تلك السورة قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ (سبأ: 22)، فالزعم كائن من المشركين وليس من الأنبياء. وورد في السورة قوله سبحانه: ﴿قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (سبأ: 27)، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا﴾ (سبأ: 33)، وهو قول منصف من قبل المستضعفين يكشف، حين تنزيله على حال سليمان، أنه لا يستبعد، في ظل تفسير الإمام السخاوي، أن يقوم من مملكة سليمان نفر من الناس يحتجون عليه بأنه كان سببا في الشرك لأنه أمر الجن بصناعة التماثيل للعبادة.

وكيف يجوز للإمام السخاوي قول ذلك وهو يتلو في سورة سبأ نفسها قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ (سبأ: 40-41).

وإذا انتفى ما يذهب إليه بعض المفسرين في توجيه تلك الآيات، لم يبق، إذن، إلا القول بمقصدية الجمال في صناعة سليمان للتماثيل، وكنا نأمل من الخطاب التفسيري أن يتوسع في تحديد ملامح تلك المقصدية وأبعادها، ويبرز كيف أن سليمان، الذي آمن بالجمال وتمثله وجعله سلوكا يوميا، يرى، بحسه الجمالي وتربيته الذوقية، أن تتزين الفضاءات بجمال التماثيل والمحاريب والجفان…

المشهد الثاني

ورد في القرآن الكريم مشهد دال ضمن قصة سليمان مع ملكة سبأ بلقيس، يقع في خاتمة أحداث القصة. يقول سبحانه وتعالى: ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ. قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (النمل: 45-46).

لقد أنشأ سليمان لبلقيس قصرا ذا مواصفات جمالية بهيجة، وذلك من أجل استقبال هاته الملكة القادمة من فضاء الملك والثراء والمتشبعة بثقافة الجمال والذوق الملوكي المدني. ونظرا إلى مقصدية التأثير في نفسيتها ووجدانها، فقد حرص نبي الله سليمان على أن يكون القصر آية في الجمال، إيمانا منه بأن الجمال مدخل من مداخل الإيمان بالواحد الأحد والابتعاد عن الشرك، ولم يأت هذا الفهم منه عرضا، وإنما هو ثمرة التنشئة الذوقية والجمالية التي ربي عليها في بيت النبوة والملك، تنشئة لم تعرف التباعد والتباين بين القيم الجمالية والقيم الدينية، ولم تقم حواجز نفسية بين التلقي الجمالي والتربية القيمية، ولم يتسلل إلى منظومتها عناصر التزهيد والتنفير والتحقير، فاستطاعت أن تجعل الجمال شعبة من شعب الإيمان.

فكانت أرضية القصر مصنوعة من الزجاج، تجري المياه تحته، وقد قال بعض المفسرين إن النهر بأسفله يحتوي على الحيتان، وللمتأمل أن يتخيل جدران القصر وسقفه والعناصر المتضافرة في إحداث التمثل الجمالي المفضي إلى الاستجابة الإيمانية من نبات وأزهار وأشجار وعناصر إيقاعية مصاحبة.

ولذا، فبمجرد ما رأت بلقيس جمال القصر، وبعد أن استوعبت الصدمة القوية للتلقي الجمالي أعلنت مباشرة تخليها عن العقيدة الشركية وتفيؤ ظلال التوحيد.

ومن المؤسف أن الخطاب التفسيري لم يول هذه المعاني ما تستحق من عناية تأصيلا لمقصدية الجمال في القرآن، ولم يكلف نفسه التساؤل عن أسرار إيراد القرآن لذلك المشهد، مع أنه مشهد قد لا تتأثر بنية القصة ومعانيها بحذفه، وفي المقابل فقد اشتغل بعض المفسرين بمرويات خرافية من مثل أن سليمان شيد القصر بأرضيته الزجاجية وبمواصفاته الموهمة بوجود الماء على تلك الأرضية من أجل أن يصل إلى الخبر اليقين في ما يروج حول طبيعة جسم بلقيس التي اختارها زوجة له؛ لأن بعض الإشاعات كانت تقول إن نصفها العلوي بشر ونصفها السفلي جني، فتأكد له، بعد دخول بلقيس القصر وكشفها عن ساقيها، أن ساقيها ساقا بشر. وشتان بين الأفق الجمالي الذي رصده القرآن في ذلك المشهد وبين التوجيه التفسيري المتأثر بالمرويات الغريبة.

المشهد الثالث

وهو مشهد مرور الخيل على نبي الله سليمان واستغراقه في تأمل منظرها. يقول القرآن الكريم في هذا المشهد: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ (ص: 29-32).

وهو مشهد يعكس الخلفية الجمالية لسليمان عليه السلام، فهو يحرص على أن يمر بين يديه قطيع الخيل كل عشي، يتأملها ويستشعر نعمة الله عليه من خلال تمثل جمال هيئتها وشكلها، إلى درجة أنه يكرر التجربة مثلما يكرر ذكر الله، المعادل اللساني للأوبة القلبية التي امتدحه الله بها (إنه أواب).

لكن خطاب المفسرين كاد أن يغيب هذه الروح، واستحضر بعض المفسرين مرويات لا يمكن أن يقبل السياق القرآني بها، من مثل ما يروون من أنه لشدة فتنته بمنظر الخيول وهي تعرض بين يديه نسي صلاة العصر، وعندما أدرك أنها فاتته، شعر بالندم فانتقم من الخيل التي كانت سببا في انشغاله عن أداء الصلاة في وقتها، واندفع نحو قطع أعناقها وسوقها بالسيف.

وهذا المذهب التفسيري ينطلق من ثنائية الجمال والجلال، ويتوهم إمكانية التعارض بينهما، ويزهد في كل جمال يمكن أن يؤدي إلى تعطيل التمثل الجلالي لرب الجمال.

ومن المؤسف القول إن هذا المذهب ما يزال يسيطر على بنية التفكير الإسلامي في الجماليات، ففي آخر كتاب حول “علم الجمال: رؤية في التأسيس القرآني” للدكتور عبد العظيم صغيري، نلحظ سيطرة هذه الرؤية، يقول: “إن منظر الخيل، وهي مهيأة للاستعراض في أبهى صور وأجمل منظر، يأخذ بالألباب، ومشهدها الجميل يشغل ويلهي، لكن ليس إلى الحد الذي يفتن صاحبه عن الواجب؛ إذ المتعة المتحققة في مناجاة الله تعالى، والقيام بين يديه بالواجب، أعظم وأجل من كل المتع والملذات…

لذلك، لما أحس نبي الله سليمان، عليه السلام، وهو مأخوذ بجمال الخيل، مفتون بروعتها وتألقها، لما أحس بخروج تجربته الجمالية هاته عن حدود قصد الشارع، آب إلى ربه، عز وجل، ورجع إليه تعالى، وغاب عن رؤية جمال الخيل في رؤية جمال محبوبه وربه”[8].

إن هذه الرؤية ثمرة تحكيم للمرويات في الموضوع، وهي مرويات يتوجه إليها العديد من الاستدراكات المفضية إلى تهوينها، مما يكر على ثمراتها بالضعف والتهوين.

فلم يثبت، أولا، أن الأقوام قبل الإسلام كانوا يعرفون صلاة باسم صلاة العصر، فضلا أن يستصحبوا معهم أهميتها وخطورة تأخير وقتها وتمثل الوعيد الشديد لمن يتهاون في أدائها في وقتها. ثم هل يعقل أن يعمد سليمان عليه السلام إلى إتلاف ثروة حربية تقدر بأموال طائلة، لا لشيء إلا لأن تلك الثروة فتنته وشغلته عن الصلاة، وكيف يجوز لسليمان أن يفعل ذلك على مرأى ومسمع مستشاريه وقواده وولاته دون أن ينكروا عليه فعله وهم يعلمون أن إتلاف تلك الثروة مضعف للأمة وكاشف عن غياب الحكمة؛ لأن العاقل يدرك أن لا جريرة تلحق الخيل بسبب سلوك الإنسان؟

ثم إن تلك الرؤية ثمرة للنظر الأصولي الفقهي الذي، بعد تقسميه لمقاصد الأحكام والسلوكات إلى ضرورات وحاجيات وتحسينيات، وجد نفسه مضطرا إلى إدراج الجماليات ضمن التحسينيات التي لا تتضرر الحياة بفقدها، ولا يمس الناس حرجا بفقدانها، وبالتالي جعلها من المنافع غير الضرورية، يقول ابن عادل في تفسيره “اللباب..” وهو بصدد الحديث عن منافع الخيل والبغال في السياق القرآني: “… ولما ذكر الأنعام، اتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية، فقال: “لكم فيها دفء”… وأما المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام، فأمور، وعد منها قوله تعالى: “ولكم فيها جمال..”[9].

وهذا يستدعي مراجعة دقيقة لمشمولات التحسينيات في التصنيف الأصولي المشهور، وإدراك أثر السياقات الثقافية والاجتماعية والحضارية للعصور، فقد يصبح ما هو تحسيني في مرحلة أو زمن أو بيئة من الحاجيات أو الضرورات في مرحلة أو زمن أو بيئة أخرى، ومن ثم، فقد يكون مناسبا في بيئات وثقافات القول: “.. على أنه إن أبحنا الغناء والموسيقى بالقيود التي أشرنا إليها، فإننا لا نرى المداومة على ذلك، بحيث يصبح السماع هو ديدن الإنسان وهجيراه، حتى تفسد طباعه إن أساء استعمال هذا الأمر، وإنما يكون سماعه للتخفيف عن نفسه ليثابر في عمله، ويعبر عن فرحه في المناسبات الشرعية”[10]. لكن هذا التقييد قد لا ينفع مع السياق الثقافي والفني العالمي في العصر الحديث، حيث دخلت الموسيقى في حياة الناس اليومية، وامتزجت بمناشطهم في التربية والرياضة والاستشفاء والإدارة ومرافق الترفيه وغيرها… ولم يعد يتصور معها أنها قد تلهي الناس عن أعمالهم، أو قد تفسد طباعهم وهي التي يراد منها أن تهذب الطباع مثلما هو مقرر في مناهج التربية والتعليم وعلم النفس.

إن مما يزيد الإشكال تعقيدا أن البحث الفقهي المعاصر في موضوع الفنون لم يتجاوز الإطار النفسي والمنهجي للنظر الفقهي المواكب لأوضاع وأحوال و ونفسيات ماضية، فجاء تحليله مستصحبا للأفق الذي استقر عليه الفقه قديما من التشدد في حدود الإباحة، وربط الانفتاح على الفنون في حدود الترويح عن النفس المثابرة في الجد، والتحذير من إضاعة تلك الفنون لوقت المسلم، وكأن شأن الفنون ما يزال شأنا خاصا بالأفراد، وكأنه لم يتحول إلى بنية نفسية وسلوكية ضاغطة مهيمنة تصرف عليها ميزانيات، وتدخل في استراتيجيات توجيه الذوق الفني والجمالي والقيمي للبشرية جمعاء.

مع العلم أن التخفيف والتعبير عن الفرحة أمران نسبيان يختلفان باختلاف الذوات، ثم إن الغربيين غارقون في الإبداع الفني، وقد أنشأوا له مؤسسات وهيئات ومعاهد، وعقدوا له ملتقيات وندوات ومؤتمرات، وقدموا له جوائز ومكافآت، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم وأموالهم في التفنن في ذلك، وما يزال التقدم، في الغالب الأعم، ديدنهم، والسبق إلى معالي الإنجازات، إلا قليلا، سبيلهم.

دون إغفال الإشارة إلى أن الاستماع إلى الموسيقى، مثلا، صارت له عادات، فهو يأتي مصاحبا لإنجاز الإنسان لمختلف أعماله، فلا يتصور في الاستماع إليها مضيعة لوقته، فهو يتاجر ويستمع إلى الموسيقى، ويراجع دروسه وهو يستمع إليها، وقس على ذلك بقية أنشطته العلمية والتربوية والرياضية وغيرها.

فالربط الآلي بين الفنون وإضاعة الوقت ربط محتاج إلى استدراك، وجعل الفنون، في منظور الشريعة، مجرد استرواح وتخفيف وتعبير عن فرح في مناسبات شرعية يحتاج إلى لائحة من الاستدراكات؛ لأنه ربط لا يعتد بالنصوص ومقاصدها، وإنما يعتد بأفهام بعض الفقهاء ومواقفهم وطبائع الحياة في عصورهم والسياق الثقافي والاجتماعي في أزمانهم.

إن الفقه المعاصر يستند إلى آراء القدماء في الموضوع، وهي آراء جاءت مطبوعة بالسياق الثقافي والاجتماعي لعصورهم، وهو سياق تحكمت فيه انطباعات لعل أقواها اعتبار الفنون والجماليات شأنا فرديا ونخبويا، فمازال العديد من علماء الأمة وفقهائها يتعاملون مع موضوع الفنون والجماليات باعتبارها قضية جزئية تتصل بآحاد الناس، وما زالوا ينظرون إليها وكأنها سلوك يمكن أن يأتيه الإنسان نادرا أو لماما، وقد يتعاملون معه وكأنه مما يتعرض للإنسان مرة أو مرتين في حياته الخاصة أو العامة، وقد لا يلتفتون إلى أن الفنون والجماليات صارت سمة العصر ولغته وأسلوبه وأبرز مظهر في الحياة الخاصة والعامة للناس على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم. يقول محمد عمارة: “فلم تعد الفنون ترفا إنسانيا ولا امتيازا لشريحة من المترفين المتعطلين، كما كانت لدى البعض في فترات التاريخ، وإنما هي اليوم مكون رئيسي من مكونات الذاتية الإنسانية السوية، وأدلة فاعلة في تحصيل العلم وحفظ المعلومات، وإنها واحدة من ضرورات الوجود والارتقاء بالنسبة إلى الإنسان”[11]، بل صارت مشكلة لرؤى الناس وعواطفهم وأذواقهم.

الجمالية السليمانية بين التوجيه التفسيري الفقهي والكليات القرآنية

إن الهدف من إيراد الآيات والمشاهد المرتبطة بالجمالية السليمان يكمن في إبراز الرؤية الجمالية في القرآن الكريم، وإذا ظهر تعارض بين هذا التحليل وبين ما يذهب إليه بعض المفسرين، فإن الاحتكام يكون للكليات القرآنية، وهذا ما يسوغ المقدمات الموجودة في هذا العرض، فهي تبرز احتفاء القرآن بالجمال في أبعاده المختلفة، وإن كان لنا من خاتمة نمسك بها عن الكلام (المباح أو غير المباح لست أدري)، فإننا نستدعي من الخطاب القرآني الجميل موقفين يؤكدان كليته المحتفية بالجمال والجماليات:

الموقف الأول؛ اعتبار الجمال آية، وهذا واضح في قوله تعالى واصفا حدائق مملكة سبأ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ (سبأ: 15)، فهنا يتحول الجمال، وتخطيط الحدائق يقع في صلب الجماليات فنا ومعمارا وزينة، إلى آية تستدعي الشكر، و لعل القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي طبع علاقة الإنسان بالجمال، ورفع قدره إلى أن جعله آية، فانعكس ذلك في تخطيط الحدائق والبساتين بالمدينة الإسلامية، واحترام البيئة وإيجاد الفضاءات الجمالية في المجال العام.

الموقف الثاني؛ نقيض الجمال قبح قد يصل إلى حد العقوبة، ويعرض القرآن الكريم لنموذج حي يبرز كيف أن أكبر عقاب للجاحدين والمعرضين عن الإيمان يتمثل في أن يزيل نعمة الجمال من محيطهم، مادمت أجهزة الاستقبال الجمالي المفضي إلى الاستجابة الجلالية قد تعطلت بداخلهم. يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ (سبأ: 16).

ومن عجائب الأسلوب القرآني أن الألفاظ، في هذا السياق، تأتي مساوقة للجو العام، فهي ألفاظ ثقيلة في أصواتها، غريبة وحشية في معانيها، توحي بالغلظة والخشونة والقبح، وليس فيها من جمالية سوى أنها انتظمت، في الأسلوب القرآني، وفق مقصدية الاستهجان والتقبيح. فما معنى الخمط؟ وما هي دلالة الأثل؟ وما قيمة هذا النفي في كلمة “سدر” التي لم يكتف بتنكيرها، احتقارا لها، بل حوصرت يمينا بكلمة “شيء” التي تفيد، بتنكيرها ودلالتها على القلة، ضعف قيمتها، كما حوصرت شمالا بكلمة “قليل” التي تفيد القلة التي تكاد تعني لا شيء؟

إن انتماء تلك المفردات إلى غريب اللغة ووحشيها، بالإضافة إلى معانيها الدالة على البشاعة (خمط)، والفاقد للثمر(أثل)، والسدر (شجر النبق)… ذلك كله يرسم صورة قبيحة تساوق صورة الذي أغفل عن تمثل الجمال وتذوقه والاستجابة إلى أنواره وصولا إلى الإيمان بالله وشكره.

إن البحث التفسيري محتاج إلى جمع هذه الآيات، وغيرها، في سلك تفسير موضوعي للجمال والجماليات في الخطاب القرآني، ثم دراستها دراسة تراعي مقاصد القرآن وصلوحيته في الزمان والمكان والأعراف والبيئات، وتستحضر القواعد الحاكمة للعمران الإنساني في الحياة، وتستثمر الكسب الإنساني المعاصر في قضية الفنون والجماليات، وتنزل مقتضيات ذلك تنزيلا حكيما يحقق التوازن والتكامل بين مختلف مناشط الإنسان…

وهذا الاتجاه التفسيري المقترح مطلوب منه أن يستند إلى نظرية يعمل على صياغتها رواد لا يستغرقهم التخصص الفقهي فيَنفرون ويُنفرون من الفنون والجماليات ويَزهدون ويُزهدون فيها، ولا يبتلعهم التخصص الفني فيستنكرون توجيه الدين للجمال والجماليات، رواد يصفهم سيد قطب في كلام جامع بأنهم ” أصحاب الطاقات الروحية الفائقة الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف وينكشف في ضوئها طريق الرحلة مزود بكل هذه الجزئيات قوية بهذا الذات، وهي تغذي السير نحو الهدف السامي البعيد.. الرواد الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في العلم والفن والعقيدة والعمل، فلا يحقرون واحدا منها، ولا يرفعونه فوق مستواه”[12].

هذا الاتجاه محتاج إلى تأصيل العلاقة الحميمية بين الفن والجماليات والقيم الدينية وفق منظور يعبر عنه الأستاذ محمد فتح الله كولن بقوله: “إذا كان هناك طائر فكري يأخذ بيد الإنسان لكي يسبح في السماء الواسعة التي لانهاية لها وفي أعماقها، وفي أجواء السموات الزرق فهو الفن، وبفضل الفن يستطيع الإنسان أن يفتح أشرعته ليسبح في أجواء السموات والأرض فيصل إلى مشاعر ورصد ما وراء الزمان والمكان”[13]، وهو المنظور الذي يؤكد عليه كولن في نص آخر ورد فيه: “ألم يجعل الفن، وهو يرافق الإيمان، هذه الدنيا معرضا للجمال بالمعابد الفخمة وبالمنائر التي تشبه أصابع الشهادة المتوجهة إلى السماء وبفن الحفر على أحجار المرمر وبالألوان والتصاميم الجميلة وفنون الخط والتذهيب والنقوش الجميلة جمال أجنحة الفراش؟”[14].

وهذا الاتجاه التفسيري، حين ينجز هذه المهام العلمية التنموية، يكون قد اهتدى إلى قاعدة جوهرية من قواعد القرآن في العمران الإنساني، نلخصها في العبارة الآتية: “إعمال الجمال أولى من إهماله” . والله أعلم.

الهوامش

[1]. الإمام الباقلاني، إعجاز القرآن، تحقيق: السيد أحمد صقر، مصر: دار المعارف، مصر، ط3، 276-277.

[2]. مصطفى بنحمزة، مقاصد التربية الإسلامية، ص46.

[3]. عماد الدين خليل، مدخل إلى نظرية الأدب الإسلامي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ص28.

[4]. يحيى وزيري، العمارة الإسلامية والبيئة: الروافد التي شكلت التعمير الإسلامي، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، العدد 304، 2004، ص210.

[5]. بركات مراد، الإسلام والفنون، الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، ط1، 2007، ص117-118.

[6]. الإمام السخاوي، تفسير القرآن العظيم، دار الكتب المصرية، ج2، ص138.

[7]. الإمام الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، ج11، ص162.

[8]. عبد العظيم صغيري، علم الجمال: رؤية في التأسيس القرآني، قطر: كتاب الأمة، ص98-99.

[9]. ابن عادل الدمشقي، اللباب في تفسير القرآن، ج10، ص80.

[10]. المكي اقلاينة، الغناء والموسيقى بين الإباحة والتحريم، جمعية البحث في العلوم الإسلامية/المغرب، 1997، ص94.

[11]. محمد عمارة، الإسلام والفنون الجميلة”، بيروت: دار الشروق، ط2، 2005، ص148.

[12]. سيد قطب، أفراح الروح، بيروت: دار ابن حزم، ط1، 2003، ص22-23. وهي الرسالة المطبوعة تحت عنوان: “رسالة إلى أختي المسلمة” القاهرة: دار المختار الإسلامي، ص27–28. مع التذكير بأن بعض الدارسين يشكك في كونها رسالة موجهة، وإنما هي نصوص جمعها بعضهم في شكل رسالة.

وبالمناسبة، أقول، إنه باعتبار أن تلك الرسالة آخر ما كتبه سيد قطب، فالراجح أن يعمد إليها الدارسون لاستخلاص العديد من القيم التي لا تظهر بوضوح في كتاباته الأخرى، وخاصة مع تنامي الدعوات التي تعتبر فكر سيد قطب داعما لنزوع التطرف والإرهاب، وذلك إنصافا لفكر اجتهد اجتهادا كبيرا في سياق غير ملائم. إن الرسالة تزخر بقيم حب الإنسان والدعوة إلى الخير والعطاء والصبر على أخطاء البشرية، والاعتراف بتحمل مسؤولية الأخطاء وغيرها من القيم المؤسسة للوسطية الفكرية والحضارية.

[13]. محمد فتح الله كولن، الموازين، ترجمة: أورخان محمد علي، مصر: دار النيل، ص153.

[14]. المرجع نفسه.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق