مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

من مكونات المنهج النقدي في القرآن الكريم: التصديق والهيمنة

الكلمة المفتاح

فيما يلي سوف نرصد منهجية عمل آلية الهيمنة في القرآن الكريم باعتبارها من مكونات منهجه النقدي من خلال كلمة مفتاح هي كلمة (الربّ).

إن القرآن عبارة عن ترتيل، وهو الترتيل الذي يشبه بيت الرُتيلاء التي تنضُد وتنسّق وتُحسّن البناء بطريقة تقوم على التفاضي والاتصال المطلق بين كل مكوناته (Web)؛ بحيث يكون المتعامل مع القرآن المجيد وفق هذا النموذج من المقاربة، حالاّ مرتحلا في كل حين منتقلا بين أرجاء القرآن المجيد كما قال عليه الصلاة والسلام: «أحب العمل إلى الله تعالى الحالّ المرتحل»، قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال: «الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حلَّ، ارتحل» رواه الترمذي والدارمي.

وهذا المفهوم هو الذي ركّز عليه المفسرون حين قالوا: «ويفسر بعضه بعضا»، ذلك أن أول تفسير للقرآن المجيد هو عين تفسيره لذاته.

حين نأخذ كلمة (الرب) في القرآن الكريم سوف نجد أنها تنفتح على أبعاد كثيرة. فالقرآن قد نزل على العرب وهم يستعملون كلمة الرب إزّاء هبل واللات والعُزّى، وقد عدّ العادّون حوالي ستين وثلاثمائة صنما حول الكعبة. وكلمة الرب كانت تنسحب على هذه الآلهة بشكل (أتوماتيكي)، وإذا كانت كلمة الرب مشتقّة من ربَّ يَرُبُّ، أي باشَر يُباشر، وأَشرف على المصالح يُشرف، واعتنى يعتني إلى غير ذلك من المعاني كما فصّله المصريون القدامى عمليا من خلال اتخاذ ربّ للحرب، وربّ للمحبة، ورب للحياة وآخر للممات وكأنّ هناك تخصّصات في الإشراف والرعاية، فإننا نجد أنّ مفهوم الربوبية يَبرز في القرآن المجيد باعتباره أيضا من الأمور التي تقوم بدور اللّحمة والسدى في مجتمع معين وإن بباطل، فرعون مثلا حين يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ (النازعات:24) يبرز باعتباره يمثل لُحمة المجتمع من خلال توحيده لهذه الأمة من الناس، ولكن بشكل ضال بفعل هذه الربوبية المدعاة، ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ (طه:79)، وهو مثال قد أعمل فيه القرآن المجيد آلية الهيمنة في اتصال بمفهوم الربّ لتوسعته وتجاوز واقعه في الأذهان نحو ما هو عليه حقيقته، أي نحو التوحيد، فبعد ادعاء فرعون أنه رب المصريـين الأعلى، نجده ينتقل بفعل اللقاء المستأنف مع موسى عليه السلام إلى السؤال عن رب العالمين ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء:23) فيجاب: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ (الشعراء:24)، لكي يختم مساره الجحودي بالاعتراف ـ ولات حين مناص ـ بما قرره نبي الله موسى عن الربوبية حين قال وهو يغرق: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ (يونس:90)، كل ذلك يتم في إطار من الهيمنة المتصاعدة، ليصل في أمِّ القرآن سورة الفاتحة، إلى هذا المفهوم العظيم الذي هو ﴿رَبّ الْعَالَمِينَ﴾، لدرجة أنّ هذا الذي يبرز ـ وإن في سياق الضلال ـ باعتباره توحيداً ولُحمة وسَدى في هذه المجتمعات، نَجده لا يُفقد بل نجده يصحّح ويُنّمى إلى درجة يُصبح معها مفهوم الربوبية )ربّ العالمين( قابلا لاستيعاب الكائنات كلها والأمم كلها، والشعوب كلّها، ويدخل في منظومة قرآنية بامتياز، هي منظومة التعارف: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات:13). ولكن قبل أن يصل القرآن المجيد بهؤلاء ـ وبالعالمين من خلالهم ـ إلى هذه الدرجة وإلى هذا المستوى نرى سيرورة تجاوز الأرباب الزائفة المرصوصة حول الكعبة بالردّ إلى رب هذه الكعبة والذي هو صاحب المنن والنعم على أم القرى وما حولها من خلال قوله تعالى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ (قريش:3-4)، ثم يكون الاستيعاب تدريجيا بحيث نجد التصديق والهيمنة بعد أن تمّا في هذه الاتجاهات كلها يتناميان عبر الآيات لكي يوصلانا إلى هذا المفهوم البارز الواضح المستوعب الكبير والشامل، مفهوم (ربّ العالمين) الذي يستقطب هذه الأبعاد كلّها ولكن بطريقة بنائية وتدريجية، حتى يصل بالإنسان إلى حيث يريد أن يوصله منـزّل القرآن المجيد ﴿أَحْسَن الْحَدِيثِ﴾ (الزمر:23)، ﴿أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (الزمر:55).

إن البحث في مسألة الهيمنة في القرآن يُفضي بنا إلى آفاق في غاية السعة والجمال، وقد قمنا الآن بالبحث في كلمة واحدة ومصطلح واحد: (الربّ)، ورأينا كيف أن القضية اتسعت إلى أن وصلت إلى مفهوم سام هو (ربّ العالمين)، لكي ينفسح المجال بعد ذلك إلى (الرحمن الرحيم)، انسيابا نحو المصور، الباري، والقدوس إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والتي كلها تُلقي إضاءات على مفهوم (الربّ)

وبالتتبع سوف نجد أنّ كل البنائية التي في القرآن المجيد سوف تُنسج حول هذا المفهوم بسعته ومداه الجديدين كما برزا في أمّ القرآن ثم في سائره، لكي تُمنح الأمة قِبلتها وتُمنح وِجهاتها المتعددة التي تُفضي بها هذه القبلة بطريقة متجددة وغير متناهية.

منهجية التصديق

وجبت الإشارة هنا إلى أنّ ثمة خمسة شروط لابد من مراعاتها في أفق إعمال أوفق لمنهجية التصديق والهيمنة واستكشافٍ أدقَّ لمعالمها:

الشرط الأول: والأساس هو شرط اعتقاديّ بامتياز؛ اعتقادي بحيث يعتقد الباحث اعتقادا جازما أنّ القرآن المجيد كلام الله عز وجل ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ (فصلت:42)، ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:38)، ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل:89)، فتتوفر عنده ضمن هذا الشرط مجموعة من المنطلقات التي تُلزمه بالجدّية القصوى وهو يبحث في القرآن المجيد، وتُلزمه بأن يحشد كل طاقاته وكل نباهته، وأنْ يتوفز كل توفز قبل أن يدخل إلى عالم القرآن المجيد، فيكون توفزه أكبر من توفز الباحث الذي يدخل إلى مختبره، ومن توفز الطبيب الذي يدخل إلى عملية جراحية مما من شأنه أن يجعل نتائج البحث أبرك إن شاء الله.

الشرط الثاني: إنْ أردنا أنْ نبحث في قضية الهيمنة بطريقة تأسيسية، وجب أن ننظر في القرآن المجيد باعتباره بناء، وأن لا يتم إغفال هذه البنائية أوالذهول عنها، إذ هما إغفال وذهول مُدخِلان في اللوم الموجّه إلى ﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾ (الحجر:91)؛ وإسقاط في التعضية والتفريق والتمزيع في القرآن المجيد وفي عدم الدخول إليه باعتباره بناءً متماسكا، ترتيلا ﴿وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ (الفرقان:32) ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ (المزمل:4) أي اعتبر أيها المتعامل مع القرآن المجيد هذه البنائية ولا تُهمل منه كلمةً ولا حرفا.

وهنا أريد الإشارة إلى نموذج مفاهيمي معرفي قد تسرب إلى عقول بعض علمائنا فأصبحوا بمقتضاه ينظرون إلى القرآن باعتبار أن آياته التي تحتها عمل لا تتجاوز الخمسمائة آية على أكثر تقدير، ويسمّونها آيات الأحكام، من مجموع عدد آياته الستِّ وثلاثين ومائتين وست آلاف (6236)، فأين ذهبت الآيات الأخر؟ وما هي تجلياتُ ربانية مصدرها؟ وما هو الهدى الموجود فيها؟

مقابل هذا المنظور التي يستبطن ـ بدون وعي ـ الكثير من الانتقاء ومن الإقصاء المسبق، نجد أنّ كل حرف من القرآن المجيد فيه هدى وفيه رشاد وفيه نور، ولعل هذا من الحكم الكامنة وراء وجود الحروف المقطعة في فواتح بعض السور. وبالتالي فحين نؤمن ونسلّم بأنّ القرآن بناء، سوف نراجع وننقد مناهجنا القائمة في أفق المواءمة المنهجية مع هذه البنائية المباركة.

الشرط الثالث: وهو فرع عن الثاني، ومفاده وجوب تتبع المصطلحات قيد الدراسة في كل مواطن ورودها، واعتبار السياقات التي يتم فيها هذا الورود قبل أي تعريف لهذه المصطلحات.

الشرط الرابع: ضبط الضمائم، فإذا تم الذهول عن حقيقة أنّ الكلمة في القرآن المجيد تكون لها ضمائم كما تكون لها نظائر تلقي عليها أضواء إضافية، وإنْ لم يتم النظر في كل هذه المرافقات والمحتوشات التي تُحيط بالكلمة المصطلح فإن الباحث وإن اعتبر السياق ونظر في كل الشروط التي سلفت قد يفوّت الشيء الكثير.

الشرط الخامس: أن يكون لدى الباحث وضوح في القضايا التي يريد أن يستنطق بخصوصها القرآنَ المجيد في علاقته بالهيمنة، إذ حين اتضاح هذه القضايا فإنها تكون بمثابة التضاريس الفكرية والنفسية والوجدانية التي من شأنها أن تمكّن الدارس من التقاط ما يتعلق بالمواضيع المبحوث فيها من إشارات، وإلا فسوف تغلب على البحث العموميةُ والسطحية.

فالإنسان الذي قد اشتغل في التربية مثلا ووقف على بعض إشكالاتها وأدرك الأمور التي تقتضي الحل، ووقف على حيثيات التربية، يكون أكثر استعدادا لتلقي الإشارات والآيات الموجودة في القرآن المجيد بخصوص هذه المسألة. أما إذا دخل خالي الذهن فإنّه سوف يتخطّف بقضايا كثيرة ومتعددة، ولن يكون الاستنطاق للقرآن المجيد بخصوص الهيمنة في مضمار التربية كما هو مرجو، بمعنى أنّ بناء هذه التضاريس التي سوف تلتقط الآيات المتعلقة بالقضية المدروسة لابد منه بين يدي الدخول إلى عالم القرآن الرحيب لبحثها.

الشرط السادس: وهو مسألة النماذج المعرفية، أو الأنساق القياسية، أو الأطر المرجعية التي ينطلق منها الباحث؛ فإن كانت مُغلَقة فاته الكثير، بخلاف الأمر إنْ دخل وهو مُطَّرِحٌ بين يدي كتاب الله عز وجل، مستعد لأنْ يتجاوز ما في ذهنه من الأطر المرجعية والأنساق القياسية والنماذج المعرفية وأبنية أخرى جديدة بحيث ـ وهو يبحث ـ تكون هناك هيمنة ذاتية.. مع ضرورة استدامة الانفتاح والحفاظ على الوعي التّام بأنّه إنسان محدود وبأن هذه المحدودية تقتضي التكملة.

الشرط السابع: الذي لابد منه أثناء بحث قضية الهيمنة في القرآن المجيد، هو أن تكون مستحضرا في كل لحظة كونكَ إنساناً تنتمي إلى الأسرة الآدمية الممتدة عبر الزمان والمكان وأنك تشكل معها وحدة وتعيش معها تحديات مشتركة لابد من العمل المتظافر لرفعها، مما يجعل منك كائنا كونيا يتبنّى هموم العالمين في كافة امتداداتهم، وهذا تنتج عنه حالة من المشاركة الوجدانية تساعد على تَلقِّي إشارات القرآن الكريم بخصوص الهيمنة، إشارات لا سبيل إلى تلقيها في غياب هذا الشرط النفسي والوجداني.

وهذا الشرط يعدّ ـ في اعتباري ـ بمثابة الإطار العام المحدّد للوجهات التي سوف ينطلق فيها الباحث حين يكون منفتحا على هموم العالمين، ويكون عنده كل الافتقار وكل الإدراك اللذين مضت إليهما الإشارة.

فإذا تدبرت ـ على سبيل المثال ـ  مفهوم الطلاق وكيف تمّ التصديق والهيمنة بخصوصه في القرآن على ما سلف، ثم نظرت في سياقات دينية وحضارية حُظر فيها الطلاق سوف تتجلى أمامك الهيمنة على هذه المفاهيم المستقرة، وسوف تكتشف كيف أنّ القرآن المجيد قد قوّى هذا الرباط المبارك المتصل بصناعة الحياة؛ رباط التزويج، بفتحه لإمكان مفارقة الرفيق متى ما أصبحت الحياة المشتركة متعذرة لسبب أو لآخر، درءا لدواعي اللجوء إلى ما لا يحل، وهو لجوء عادة ما تفضي إليه التدينات التي لا تتيح هذه المكنة باليسر وكذا الاحتراز الموجودين في شرعة الإسلام، وهذا مما يؤهل الباحث لأن يكون أقرب نفعا للعالمين من خلال إفاضة وتعدية هدى كتاب الناس إلى الناس.

منطق الظاهر الحضاري

مسألة أخرى بهذا الخصوص تتجلى إن نحن انتقلنا بالبحث إلى الجوانب الفكرية وإلى الأفكار السائدة التي هي بمثابة البراديغمات المسيطرة المنتجة لما يسمى بـ(النسق المفاهيمي المؤطر) لحضارة معينة، سوف نتبيّن من مدخل استحضار هذا الإدراك أن المنطق العام المهيمن على الحضارة الراهنة منطق يدور في فلك ما أسماه الله تعالى: ﴿ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ في قوله سبحانه: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم:7)؛ أي إنّ النسق المفاهيمي التصوري في هذه الحضارة منحسر ومنحبس في هذا الإطار الذي هو ظاهر الحياة الدنيا أي الحجب الثلاثة حجاب الدنيا والمادة، وحجاب النفس، ثم حجاب الخلق. فإذا تم الدخول إلى القرآن المجيد في استحضار لهذا الإشكال الكبير الموجود في هذه الحضارة (الانحسار في ظاهر من الحياة الدنيا)، سوف تبرز مجموعة من المعطيات الجديدة المهيمنة والمخلِّصة، كالميزان والمعاد والجزاء القائم على الحساب، والسعي إلى الرضوان، والتجانف عن الغضب والإبعاد، والتنعم بالنعيم، والفرار من الجحيم، مما يعتبر هيمنة محررة من سجن هذا الاعتقاد المحجّم لأبعاد الحياة وأبعاد الإنسان.

وإذا انضاف إلى هذا استحضارُ الانتماء إلى الأسرة الآدمية الممتدة في انتشارها الزماني والمكاني، والاعتقاد بوجوب تبنّي همومها لما يقارفه من الأجر والرضوان، سوف يستطيع الباحث أن يرى أوجه الهيمنة في القرآن الكريم على هذا الضرب المنحسر من التفكير، ومن ثم سوف يتمكن من تجاوزه في ذاته ثم في الآخرين من خلال إبرازه لهم، وكما قال ابن خلدون: «في حلَّة قوية البنيان ومتينة الأركان» بحيث تتقبّله العقول ويكون رحمة للعالمين.

فهذه سبعة شروط متصلة بقضية التصديق والهيمنة وآليات عملهما في القرآن الكريم أردتُ الإسهام بها من أجل استئناف فتح ملف هذه القضية التي أعتقد أنها لم تُعط حقّها كما يلزم ضمن الأبحاث المنتمية إلى دائرة معارف الوحي.

 

الصفحة السابقة 1 2
Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق