مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب؛ توجيه أمر الهداية والضلال في الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الهداية والضلال بيد الواحد الأحد، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، عدلا منه وحكمة؛ يوافق سابق علمه بدواخل النفوس، وما تنطوي عليه مكنونات الصدور، لا يظلم ربك فردا، ولا يحابي في ذلك أحدا، ولو كان لواسى بذلك قلب نبيه المختار، فهذا سيد الخلق، محمد صلى الله عليه وسلم، أكرم الخلق على مولاه، وأشرفهم عنده مقاما، لما رأى منه الحق سبحانه شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبي طالب، وعز عليه تجافيه عن تقبل دعوته، وهو الذي وجد فيه الركن الشديد، والناصر المعين، و قد كان متحفيا بابن أخيه؛ يحنو عليه ويرحمه، ويذوذ عنه أذى قريش، فأشفق صلى الله عليه وسلم على جهالته، و أراد أن يحبوه كفاء ما منحه وأسداه،  فنزل القرآن حاسما في القضية، معلما له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه من أمته أنهم لا يملكون من أمر الهداية شيا،”إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”[القصص:56]، و ما قصة إبراهيم مع أبيه بمجهولة، ولا نوح مع ابنه بغائبة، و أخبار ذلك مبثوثة في تضاعيف الكتاب.

و نجد أن الله سبحانه يحمل مسؤولية الهداية والضلال للمكلف نفسه؛ وذلك بما مكنه من حرية الاختيار، ووهبه من مسكة العقل الذي هو مناط التكليف، وقد تغاير رصف موارد ورودها في الكتاب، وتباين لذلك السبك القرآني، مما جعل مواقعها من المتشابه الذي يشتبه على التالي، وقد أدلفنا قبل هذا أن مما يستعان به على ضبط المتشابه الغوص بالفكر وقوفا على أسرار الكتاب، واستصحاب مساقات الآي كيما يقع الخلط بين متقارب لفظه، وينماز للحافظ عن بصيرة مظان التباسه.

 وجريا على سنننا المعهود في تقريب هذا العلم أورد في هذه البابة كلام ابن الزبير الغرناطي في توجيه موضعين من هذا المعنى؛ أي: ما يشتبه من الكتاب في تحميل تبعة الضلال للعبد،  قال رحمة الله عليه:

    “الآية الحادية عشرة [من سورة يونس][1]

قوله تعالى: “فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ” [يونس:108] وفى سورة النمل: “فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ” [الآية:92] فورد في الأولى عقب قوله: ” وَمَنْ ضَلَّ ” قوله ” فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ” وفى الثانية عقب قوله ” وَمَنْ ضَلَّ ” قوله ” فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ” فللسائل أن يسأل عن الفرق؟

     والجواب أن آية يونس مرتبطة بقوله تعالى فيما قبلها: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” [الآية:99] ” فلما تقدمها هذا ومعناه هو المعنى المراد في قوله تعالى فى سورة الزمر: ” وَمَا أَنتَ عَلَيْهم بِوَكِيلٍ ” فقيل هنا على لسانه صلى الله عليه وسلم: ” وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ” وتناسب ذلك وارتبط ارتباطا لا يلائم الموضع خلافه، والله أعلم.

وأما آية النمل فإنها راجعة إلى قوله تعالى فيما تقدمها: “فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ” [الآية:79-81] فناسب هذا أتم مناسبة قوله تعالى: “وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ” ولم يكن قوله: “فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ ” ليناسب المتقدم في سورة يونس ولا قوله: ” وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ” ليلائم ما تقدم هنا، والله أعلم”.[2]

وهذا التوجيه من الإمام رحمة الله عليه قائم على رصد مساق الآيتين، والجمع بين مثيلاتها في المعنى، وعزو كل سبك لما يلائمه في المعنى، أما عند تتبع موارد وقوعها في الكتاب عامة، فقد وردت في أربعة مواضع،

– الموضع الأول  آية يونس”قل يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحكمين”  [الآية108-109] وفيها إنباء عن تكليف النبي بالإخبار  بما أوحي إليه،  فناسب  ورودها بصيغة  التكلم؛ “وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ”، قال الطاهر ابن عاشور: ” “استئناف ابتدائي هو كذيل لما مضى في السورة كلها، وحوصلة لما جرى من الاستدلال والمجادلة والتخويف والترغيب، ولذلك جاء ما في هذه الجملة كلاما جامعا وموادعة قاطعة. وافتتاحها بـ: “قل” للتنبيه على أنه تبليغ عن الله تعالى فهو جدير بالتلقي[3].

– الموضع الثاني  آية الإسراء، ” اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا[الآية:14-15] ، – استئناف الكلام من منشئه؛ وهو الحق سبحانه بعد فعل الجعل في آيتين سابقتين، “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ” [الإسراء:12]،  بما تحملان من امتنان، وتذكير بالإنعام، فناسب أن يسبك ذلك بأسلوب الإخبار، لينسق الكلام بعدهما في كليتين موجبتين تفيدان استغراق ما ينضوي تحتهما، من الشيئية والإنسانية، لا يشذ عنهما شيء، وَ”كُلَّ شَيْءٍ …وَكُلَّ إِنْسَانٍ”، لتطوى مسيرة التكليف باستحضار مشهد عرض صحف الأعمال، “ونخرج له يوم القيامة”، ليجيء تحمل مسؤولية الاختيار إخبارا من سبحانه عما سلف في دار الابتلاء،

     – الموضع الثالث آية النمل: “إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ  وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ المنذرين” [النمل:91-92].

والآية جهل فيها الآمر، وتولى المأمور الإخبار عن ما كلف به، في أسلوب قصر قائم على دعائم ثلاث، يقوم عليها صرح التدين كله؛ العبادة ، والانخراط في عقد المسلمين، وتلاوة الكتاب، ثم ذيلت الآيات بالكشف عن مآل أحوال المخاطبين، فمن قبل الهداية فهدايته لنفسه، وكرر فيها فعل الاهتداء إشادة برفعة مقامه،  ومن زاغ عنها فليست لك سلطة هدايته، فهو في قوة لست عليهم بمصيطر، وختمت بأسلوب الحصر كما صدرت به، والاضطلاع بمهمة النذارة البريئة من قوة الإلزام “وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ المنذرين”.

الموضع الرابع آية الزمر “إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي منامها”  [الآية:41-42] و فيها مؤانسة وتثبيت لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وإغراء له بالاستمساك بالحق المنزل من عنده، ثم ذيلت بموقف الناس من هداياته قبولا ورفضا، فناسب رصف الكلام أن يوجه الخطاب للموحى إليه بقوله سبحانه:  “وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ”.

هدانا الله مراشدنا، ووقانا غوائل نفوسنا

هدانا المراشد ووقانا الشرور والغوائل

[1] زيادة موضحة لمحل الآية بين السور.

[2] ملاك التأويل،1/251-252.

[3] التحرير والتنوير، 11/308.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق