مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

من تضرعات القوم (13)

    يا إلهي، لو لم أر عملي مع علمي بجلالك الذي توحد في الأزل، وعزك القاهر الذي تفرد بالأبد يتلاشى عند المعرفة بك، لرأيت اجتهادي في الطاعة شفيعا لي إليك، ولَصُمت حتى رَقَّ جلدي، ووهن عظمي، وغاض لحمي ودمي، ولقمت حتى كَلَّت قُواي، وبَلِيَت أعضائي، ولكنك يا إلهي رفعت لمن تشاء أعلام المشاهدة، ووضعت عمن تشاء آلام المجاهدة، فشهدوا لك بالوحدانية المقدسة عن الشَّوب، والوحدة المتفردة بالعُلاء والعظمة، والأَحَدية الغنية عن العالمين، يا إلهي ما ذا أقول في عبادتك وتضرعي بين يديك وأنت مُوجِدي من العدم، والمحسنُ إليَّ من القدم، وفي عِلمي أنه لا شيء يقابلك فتوصَفُ حَق وصفك، ولا فهم ينالك فتُعرف حَقَّ معرفتك، أقصى معرفتي دلالتي عليك بك، وأبعدُ غايتي رجوعي منك إليك، فأنا عبد في الربوبية وصف في الرحمانية فَانٍ في الألوهية، فبأي سؤال أُقدِم عليك، وبأي خطاب أتضرع لديك وأنا بين يديك، وجملتي منك وإليك، يا إلهي وكيف أخاطب من هو غائب عني، وبماذا أَفُوهُ في حضرة من هو أقرب إليَّ مني، وبأي شيء أتوسل في العبادة وقد حسَّنتَ صورتي، وأَنَرت بصيرتي، وجَمَّلت عافِيَتي، وطيَّبت رزقي، وكرمتني بين أوليائك، وبغّضتني إلى أعدائك، وأفضت عليَّ من جودك، وجعلتني من جملة عبيدك مسلما مؤمنا موقنا، ديني محمدي، ولساني عربي، وحميتني من هَمَزَات الشياطين، ونزوات السلاطين، فأنجز ما وعدتني من نصرك على القوم الكافرين، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين، فإنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

    سبحان من علا بمكانته، ودنا بخالقيته، وظهر بقدرته، وبطن بحكمته، وتفرد بملكه، وتوحد في قلوب أوليائه، وتنزل أمره في عقول أصفيائه، واحتجب بجلاله، وبهر الألباب بجماله، وتجلى للصالحين من خلصائه وأحبائه، فهو المرئي بالعين الخفي عن العين، الفاصل بين الاثنين، والفرد التالي للزوجين، الأحد، الغني عن الشريك والولد، خلق الصورة البشرية الآدمية، وصَيَّره خليفة عنه بدار مملكته الكونية، وعلَّمها كل الأسماء لتكون فاروقا بين عالم الأرض والسماء، ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [سورة النساء، الآية:1] وجعل المبثوث كالذَّر، وفي الزوجين الجمعية والمستقر، فأيُّ ذَرة استشرقت رقت، وأي ذرة حبِطت هبَطت، اللهم فاجعلني ممن استخلصته من الذرية الآدمية، واختصصته لأسرارك الخفية، وأفضت عليه من أنوار كرامتك، وصرَّفته في أطوار حكمتك، وأسكنته في أعلى جنتك، وأدخلته في عالم عنايتك، فَلَحِق بأهل السماع، وساح في رياض الإبداع، وانغمس في كوثر قدسك، ووجد رَوْحَ أنسك، وأنقذته من كرب الوهم بالفهم فصار من السابقين المقربين إليك، ومن أهل الدلالة بك عليك، فامتحنته واستخلصته وخصصته، فصار بعنايتك نجيبا، وبعلمك نقيبا، يَأْتَمُّ إليك طائعا لأوامرك، واقفا بباب كرمك وعلمك، لائذا بك، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، تعاليت يا من له الكبرياء على كل كبير، والقدرة على كل قدير، صل على محمد وآل محمد، واجعلني ممن وصل إليك بمحمد وآل محمد إنك حميد مجيد.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق