مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي «مناسبة سورة «آل عمران» لسورة «البقرة» ووجوه التلازم بينهما» الحلقة: الحادية والعشرون

المناسبة لغة واصطلاحا:

المناسبة في اللغة: المقاربة والمشاكلة، وفي الاصطلاح: هي الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه، وفي كتاب الله تعالى تعني ارتباط السورة بما قبلها وما بعدها، وفي الآيات تعني وجه الارتباط في كل آية بما قبلها وما بعدها، [1] وتكمن فائدة التناسب في جعل أجزاء الكلام آخذا بعضها بأعناق بعض حتى يصير الكلام كالبناء المحكم المتماسك الأجزاء، وقد أشار الإمام فخر الدين الرازي إلى أن أكثر لطائف القرآن الكريم مودعة في الترتيبات والروابط؛ [2] فعلم المناسبات ووجه الاتصال فيما بين السور والآيات؛ من العلوم الدقيقة التي تحتاج إلى فهم وتذوق لنظم البيان القرآني، وله علاقة وثيقة بالتفسير حتى قيل: إن نسبة هذا العلم من التفسير، نسبة علم البيان من النحو، [3] حيث يقف على مقاصد السورة الكريمة  من خلال إجلاء العلاقات الرابطة بين الآية والآية، والسورة والسورة، للكشف عن جماليات النص القرآني وتعمق البحث في إعجازه من جانبين: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب، ونظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب[4] وللمناسبة أهمية كبيرة في بيان ارتباط أجزاء الكلام بعضه ببعض، وبيانا لأهميتها قال الزركشي:«واعلم أن المناسبة علم شريف تحزر به العقول ويعرف به قدر القائل فيما يقول، والمناسبة في اللغة المقاربة، وفلان يناسب فلانا أي يقرب منه ويشاكله، ومنه النسيب الذي هو القريب المتصل كالأخوين وابن العم ونحوه، وإن كانا متناسبين بمعنى رابط بينهما وهو القرابة، ومنه المناسبة في العلة في باب القياس الوصف المقارب للحكم، لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم، ولهذا قيل: المناسبة أمر معقول إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها ومرجعها، والله أعلم إلى معنى ما رابط بينهما عام أو خاص عقلي أو حسي أو خيالي وغير ذلك من أنواع العلاقات أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين ونحوه، أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر»[5] وقد لخص البقاعي تجربته فـي الـتـعــرف على علم المناسبة بقوله: «تتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فـيـهـــا، ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها؛ فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة، وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو. [6]

المناسبة بين سورة آل عمران وسورة البقرة ووجوه التلازم بينهما:

وفي هذا المقال سنبين إن شاء  الله تعالى مناسبة سورة «آل عمران» لسورة «البقرة»، ونسعى جهدنا في إبراز ما تتمتع به هاتين السورتين من حسن التناسق وروعة التعانق؛ بذكر ما نستطيع عليه من أقوال العلماء في الربط وإظهار التناسب بين الآيات، حيث تمثل السورة في رأي البقاعي وحدة موضوعية متكاملة، ويأتي اسمها كعنوان دال ومعبر عن ذلك الموضوع، وبما أن السورة لها موضوع واحد فهي مقسمة إلى ما يشبه المقدمة وعرض الموضوع والخاتمة، فكل آيات السورة مرتبط بعضها ببعض، وكل واحدة منها آخذة بحجز الأخرى يربطها موضوع واحد، ويطلق البقاعي على وحدة الموضوع اسم: مقصود السورة [7] وبما أن سور القرآن كلها في نظر البقاعي كالسورة الواحدة من حيث الترابط، فهو يعقد المناسبات العديدة بينها، فها هو في سورة «آل عمران» يربط بينها وبين سورة «البقرة» و«الفاتحة» بكلام طويل يقول فيه:« فلما كانت سورة الفاتحة جامعة لكلية أمر الله سبحانه وتعالى فيما يرجع إليه، وفيما يرجع إلى عبده، وفيما بينه وبين عبده، فكانت أم القرآن وأم الكتاب؛ جعل مثنى تفصيل ما يرجع منها إلى الكتاب المنبأ عن موقعه في الفاتحة مضمناً سورة «البقرة» إلى ما أعلن به، لآلئ  نور آية الكرسي فيها، وكان منزل هذه السورة من مثنى تفصيل ما يرجع إلى خاص علن الله سبحانه وتعالى في الفاتحة، فكانت منزلة سورة «آل عمران» منزلة تاج الراكب، وكان منزلة سورة «البقرة» منزلة سنام المطية؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة، لكل شيء تاج وتاج القرآن سورة «آل عمران» [8] ولهذا فالبقاعي يعتبر كلا من سورة «البقرة» و«آل عمران» سورتين مرتبطتين أشد ارتباط، بناء على الترابط الشديد بين موضوعاتهما، ويؤكد فكرته هذه بما ورد من أنهما غمامتان وغيايتان على قارئهما يوم القيامة لا تفترقان، فأعظم «الم» هو مضمون «الم» الذي افتتحت به هذه السورة ويليه في الرتبة ما افتتحت به سورة «البقرة»، ويليه في الرتبة ما افتتحت به سور الآيات نحو قوله سبحانه وتعالى «الم تلك آيات الكتاب الحكيم» [لقمان: 2] فللكتاب الحكيم إحاطة قواماً وتماماً ووصلة[9] ثم يقول:« وإنما بدىء هذا الترتيب لسورة الكتاب لأن علم الكتاب أقرب إلى المخاطبين من تلقي علن أمر الله، فكان في تعلم سورة البقرة والعمل بها تهيؤ لتلقي ما تضمنته سورة «آل عمران» ليقع التدرج والتدرب بتلقي الكتاب حفظاً، وبتلقيه على اللقن منزل الكتاب بما أبداه علنه في هذه السورة» [10] وهذا من روائع ما أوضحه البقاعي في جانب التناسب بين سورة «البقرة» و«آل عمران» حيث تمثل الإبداع في هذا التفسير بذكر المناسبات بين الآيات والسور التي هي نوع من أنواع الإعجاز القرآني، حيث قال:« في كل آية معنى تنتظم به بما قبلها ومعنى تتهيأ به للانتظام بما بعدها؛ وبذلك كان انتظام الآي داخلاً في معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً»[11]

ولعل من أفضل من تحدث عن مناسبة سورة «آل عمران» لما قبلها هو الإمام السيوطي في كتابه «تناسق الدرر في تناسب السور» حيث فصل كلامه وأجمله في وجوه، يقول:«مراعاة للقاعدة التي قررتها في شرح كل سورة لإجمال ما في السورة التي قبلها، وذلك هنا في عدة مواضع منها: أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه،«ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين»[البقرة:2] وقال في آل عمران«نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل»[آل عمران:3] وذلك بسط وإطناب لنفي الريب عنه» [12] ومنها: أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملا، وقسمه هنا إلى آيات محكمات ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله، ومنها: أنه قال في البقرة:« وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ»[البقرة:4] وقال في «آل عمران»: «وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ»[آل عمران: 4-3] مفصلا، وصرح بذكر الإنجيل هنا، لأن السورة خطاب للنصارى، ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها، وإنما صرح فيها بذكر التوراة خاصة، لأنها خطاب لليهود، ومنها: أن ذكر القتال وقع في سورة البقرة  مجملا بقوله:«وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِين فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم » [البقرة: 190-191-192] وقوله تعالى في سورة البقرة «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم»[البقرة:244] أما في سور ة «آل عمران» فقد فصلت، وفصلت هنا قصة أحد بكاملها [13] بقوله تعالى: «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِين إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيم ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُون وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُون»[آل عمران:152]

ومنها: أنه أوجز في «البقرة» ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله « أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُون»[البقرة:154] وزاد هنا في سورة «آل عمران»: «عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ»[آل عمران:- 169-170] وذلك إطناب عظيم[13] تناسق الدرر ص: 71.

ومنها أنه قال في سورة «البقرة»: «وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم»[البقرة:247] وقال في سورة آل عمران: «قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير»[آل عمران:26] فزاد إطنابا وتفصيلا، [14] وفي سورة «البقرة» حذر تعالى من الربا ولم يزد على لفظ الربا إيجازا بقوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ» [البقرة:275] وقوله تعالى: « يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيم»[البقرة:276] وزاد في سورة «آل عمران»: « أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً» وذلك بقوله تعالى: «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون»[آل عمران:130] وذلك بيان وبسط: [15]

وقال تعالى في سورة «البقرة»«وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ» [البقرة:196] وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالا، وفصله هنا بقوله:«وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»[آل عمران:97]» وزاد بيان شرط الوجوب بقوله: «مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » ثم زاد تكفير من جحد وجوبه بقوله: «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين»[آل عمران:97] ومنها: أنه قال في البقرة في أهل الكتاب «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ»[البقرة:83] فأجمل القليل، وفصله هنا بقوله: «لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين»[آل عمران:113-114]

ومنها أنه قال في البقرة«قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون»[البقرة:139] فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضا لا تصريحا، وكذلك قوله:« وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا»[البقرة:143] في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام، وأتى في هذه بصريح البيان فقال:«كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»[آل عمران:110] فقوله«كنتم»أصرح في قدم ذلك من«جعلناكم»ثم زاد وجه الخيرية بقوله:« تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ» [آل عمران:110] ومنها أنه قال في البقرة:«وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ» [البقرة:188] وبسط الوعيد هنا بقوله:«إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ »[آل عمران:77]، وصدره بقوله: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ»[آل عمران:75]فهذه عدة مواضع وقعت في «البقرة» مجملة، وفي «آل عمران» تفصيلها. [16]

بَيْنَ سورة «البقرة» وسورة «آل عمران» اتحادا، وتلاحما متأكدا لما تقدم؛ من أن «البقرة» بمنزلة إزالة الشبهة، ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب؛ من إنزال الكتاب، وتصديقه للكتب قبله، والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت هنا آية«قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا» [البقرة:136] بكمالها، ولذلك أيضا ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك، أو لازم في تلك، أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده، وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب، وهو عيسى عليه السلام، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور، وآدم أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل، وهذه كالفرع والتتمة لها، فمختصة بالإعراب والبيان، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا، وأنكروا وجود ولد بلا أب، ففوتحوا بقصة آدم، لتثبت في أذهانهم، فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله:«كَمَثَلِ آدَمَ» [آل عمران:59] والمقيس عليه لابد وأن يكون معلوما، لتتم الحجة بالقياس، فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم، [17] ومن وجوه تلازم السورتين؛ أنه قال في «البقرة» في صفة النار: «أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين»[البقرة:24]ولم يقل في الجنة: أعدت للمتقين، مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال ذلك في آخر «آل عمران» في قوله:«وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين»[آل عمران:133] فكأن السورتين بمنزلة واحدة [18] وبذلك يعرف أن تقديم «آل عمران» على النساء أنسب من تقديم النساء عليها،وأنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد، فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد، وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسب لأولها، وآخر «آل عمران» مناسب لأول «البقرة»، ومما يقوي المناسبة والتلازم بين السورتين الكريمتين، أن خاتمة سورة «آل عمران» جاءت مناسبة لفاتحة سورة «البقرة»، وبيان ذلك أن سورة «البقرة» افتتحت بذكر المتقين، وأنهم المفلحون، وختمت «آل عمران» بقوله: «وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون»[آل عمران:200] وافتتحت «البقرة» بقوله: «والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون»[البقرة:4] وختمت «آل عمران» بقوله: «وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ»[آل عمران:199] [19]

ومن وجوه تلازم السورتين أيضا ورد أنه لما نزلت:«مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا»[البقرة:245] قال اليهود: يا محمد، افتقر ربك، فسأل القرض عباده، فنزل قوله تعالى:«لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيق»[آل عمران:181]ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم:«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ» [البقرة:129] ونزل في سورة «آل عمران» قوله تعالى:«لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين»[آل عمران:164] وذلك من تلازم السورتين أيضا[20] وهذه جملة مما ذكره السيوطي في المناسبات والتلازم بين سورتي «البقرة» و«آل عمران»،وهذه الاستقراءات جاءت من غير نسق معين، ولم ترصد باستقراء من زاوية معينة فجاءت منثورة من غير أن ينتظمها منهج معين، ومع كل ذلك فإننا نلحظ وجود مناسبات عدة بين السورتين الكريمتين ولم يكن اقتران رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في تسميتهما ب «الزهراوين أو الغمامتين أو الغيايتين» إلا عن حكمة ووجود علائق تشد إحداهما إلى الأخرى، حيث يقول صلى الله عليه وسلم:«اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا» [21] وهكذا نجد أن علم المناسبات بَيْن الآيات بعضها مع بعض وبين السور؛ يبرز لنا جانبا من إعجاز القرآن الكريم، وأنه كلام الله المنزل وليس من عند البشر، فمن المعلوم أن القرآن الكريم نزل مفرقا منجما لبضعة وعشرين عاما حسب الوقائع المختلفة وفي ظروف متباينة، وإجابة لاستفسارات متنوعة، ثم كان الترتيب المحكم الذي لا نجد فيه آية ينبو بها مكانها من السياق القرآني العتيد، وأن إدراك المناسبات بين مقاطع السورة وافتتاحيتها وخاتمتها وسائر آياتها أمر على جانب كبير من الأهمية لمن أراد تفسير السورة تفسيرا موضوعيا، فوجوه المناسبات هذه تلقي أضواء كاشفة على محور السورة وهدفها، وبالتالي يحدد الزاوية التي ينطلق منها المفسر في بيان معاني الآيات [22] كما نجد أن البقاعي يعقد المقارنات والروابط العديدة بين السور في مواطن عديدة من تفسيره بشكل بديع ومتلاحم ليثبت لنا  بأن القرآن الكريم كله وحدة متماسكة مبنية بناء محكما أشد الإحكام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، دار العلم، دمشق، سوريا ص:58.

[2] مفاتيح الغيب، فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي – بيروت 10/110.

[3] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة1/5.

[4] نفسه 1/7.

[5] البرهان في علوم القرآن، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي،المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه 1/35.

[6] نظم الدرر:1/6.

[7] برهان الدين البقاعي ومنهجه في تفسيره دلالة البرهان القويم على تناسب آي القرآن العظيم، عبد الله عبد الرحمن الخطيب، المجلة العلمية لجامعة الملك الفيصل، المجلد السادس، العدد الثاني، 142هـ-2005م.ص:40.

[8] نظم الدرر4/198-199.

[9] نفسه 4/201.

[10] نفسه 4/200.

[11] نفسه 1/234 .

[12] تناسق الدرر في تناسب السور، ص:70

[13] نفسه، ص: 71.

[14] نفسه، ص: 71.

[15] نفسه، ص: 71.

[16] نفسه، ص: 73.

[17] نفسه، ص: 73-74.

[18] نفسه، ص: 74.

[19] نفسه، ص:74.

[20] نفسه ص: 74-75.

[21] المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري «المتوفى: 261هـ» المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي،دار إحياء التراث العربي- بيروت،1/553.

[22] مباحث في التفسير الموضوعي مصطفى مسلم ص:90-91.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق