مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

لمْح من أوجه الاختلاف في القراءة وكيفيات التلاوة وتأويل الحكم في ذلك

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين، وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين

وبعد؛

فموْئل الخلاف في هذا الباب بين الأئمة ومرجعه إلى تأويل الإشكال الواقع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف)، وتفنّن الناس في تأويله ورفع ما انسدل من حجب الفهم في تقريبه وتدميث ظلاله وإبراز معانيه، ولكن نورد أَوْجَه الأقوال من ذلك وأسعدها بالمتابعة والشهادة وموافقة الآثار وما إليه، مما أفاده أئمة العربية والقراءة المتقدمين.

قال ابن قتيبة (ت‍ 276ه‍) في (تأويل مشكل القرآن) [ص 27 تح السيد أحمد صقر]: [إنما تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: (نزل القرآن على سبعة أحرف)؛ على سبعة أوجه من اللغات متفرقة في القرآن، يدلك على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاقرأوا كيف شئتم)، … فمن قرأ قراءة عبد الله فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة أُبيّ فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة زيد فقد قرأ بحرفه … وقد تدبرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة أوجه:

أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها، نحو قوله تعالى: (هؤلاء بناتي هنَّ أطهرُ لكم) و(أطهرَ لكم)، (وهل نُجازي إلا الكفورَ) و(وهل يُجازى إلا الكفورُ)، … والوجه الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها، ولا يزيلها عن صورتها في الكتاب، نحو قوله تعالى: (ربَّنا باعِدْ بين اسفارنا) و(ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا)، و(إذ تلقَّونه بألسنتكم) و(تَلِقونه)، والوجه الثالث: أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغير معناها ولا يزيل صورتها، نحو قوله تعالى: (وانظر إلى العظام كيف نُنشِزُها) و(ونَنشُـرُها) و(حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم) و(فُرِّغَ))، والوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو قوله: (إن كانت إلا زَقْية) و(صيحةً)، و(كالصوف المنفوش) و(كالعِهْن)، والوجه الخامس: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها، نحو قوله: (وطلع منضود) في موضع (وطلح منضود)، والوجه السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله: (وجاءت سكرة الموت بالحق) وفي موضع آخر: (وجاءت سكرة الحق بالموت)، والوجه السابع: ان يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو قوله تعالى: (وما عملتْ أيديهم)، (وما عملتْهُ أيديهم)، ونحو قوله: (إن الله هو الغني الحميد) و(إنَّ الله الغني الحميد).

قال ابن قتيبة: وكل هذه الحروف كلام الله تعالى، نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام، وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن، فيُحدث الله إليه من ذلك ما يشاء وينسخ ما يشاء وييسِّر على عباده ما يشاء، فكان من تيسيره أن أمره بان يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم … ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا؛ لاشتدَّ ذلك عليه وعظمت المحنة فيه ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه أن يجعل لهم متسعات في اللغات ومتصرفات في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين حين أجاز لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر دينهم.

على أنه من بديع صنع الله في الخلق وتمام منته عليهم؛ أن قد تقع خواطر الناس على ساق اتفاق، وتقف أفهامهم على قدم التوارد في اتساق، فتْحا من الله وفيْضا، فقد وجدنا خاتمة القراء المحققين الشمس ابن الجزري (ت‍ 833ه‍) يعرب عن مكنون صدره إزاء تأويل حديث الأحرف السبعة، إذ يقول: (ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأُمعن النظر من نيّف وثلاثين سنة؛ حتى فتح الله عليَّ بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله، وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها ) النشر 1/26، فعدَّد رؤوسا سبعة من الاختلاف مصورة بأمثلتها وشواهدها (لفظا ومعنى) بما يجعلها متفقة مع ما ذكره ابن قتيبة رحم الله الجميع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق