مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

فَصْلَة، في الفَضْلَة

لأبي الفتح ابن جني نظر في العربية دقيق، إلاَّ يشِفّ، يصف، فتراه يعمد للمعنى المطروح، ثم يكسوه ويشيه من حوك لسانه، فإذا هو ءاية تسر الناظرين، تتخطفه الأيدي بعد أن كان لَقىً لا يُعبأ به، ومن هذا توجيهه -في كتابه المحتسب- قراءة يزيد البربري: (وَعُلِّمَ ءَادَمُ الْأَسْمَآءَ كُلَّهَا)، وتلطفه لبيان عناية العرب بالفَضْلة، وأنَّ اسمها المؤذنَ بالاستغناء عنها، هو نوع من التجوز في الإعراب، والاتساع في العبارة…

قال رحمه الله: «ينبغي أن يُعلم ما أذكره هنا؛ وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلةً وبعد الفاعل؛ كضَرَبَ زيدٌ عمرا، فإذا عناهم ذِكرُ المفعول قدموه على الفاعل، فقالوا: ضرب عمْراً زيدٌ، فإن ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصبَةِ، فقالوا: عمْرا ضرب زيدٌ، فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رب الجملة، وتجاوزوا به حدَّ كونه فضلة، فقالوا: عمرٌو ضربه زيد، فجاءوا به مجيئا ينافي كونه فضلة، ثم زادوه على هذه الرتبة فقالوا: عمرٌو ضرب زيدٌ، فحذفوا ضميره ونوَوْهُ ولم ينصبوه على ظاهر أمره؛ رغبة به عن صورة الفضلة، وتحاميا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة، ثم إنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغوا ذكر الفاعل مظهرا أو مضمرا، فقالوا: ضُرِب عمرو، فاطُّرح ذكر الفاعل ألبتة.

نعم، وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل ألبتة، وهو قولهم: أُولِعت بالشيء، ولا يقولون: أَوْلَعَني له كذا، وقالوا: ثُلِج فؤاد الرجل، ولم يقولوا: ثَلَجَه كذا، وامتُقِع لونُه، ولم يقولوا: امتَقَعه كذا، ولهذا نظائر..، فرُفض الفاعل هنا ألبتة، واعتمادُ المفعول به ألبتة دليل على ما قلناه، فاعرفه.

وأظنني سمعت: أولَعَني به كذا، فإن كان كذلك فما أقلَّه أيضا!

وهذا كله يدل على شدة عنايتهم بالفضلة؛ وإنما كانت كذلك لأنها تجلو الجملة، وتجعلها تابعة المعنى لها، ألا ترى أنك إذا قلت: رغبتُ في زيد، أُفِيد منه إيثارك له، وعنايتك به، وإذا قلت: رغبت عن زيد، أُفِيد منه اطَّراحك له، وإعراضك عنه، و”رغبت” في الموضعين بلفظ واحد ، والمعنى ما تراه من استحالة معنى “رغبت” إلى معنى “زهدت”، وهذا الذي دعاهم إلى تقديم الفضلات في نحو قول الله سبحانه: (وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ كُفُؤاً اَحَدٞ)، وإنما موضع اللام التأخير؛ ولذلك قال سيبويه: (إن الجفاة -ممن لا يعلم كيف هي في المصحف- يقرؤها: “ولم يكن كفوا له أحد”)(1).

فإن قلت: فقد قالوا: زيدا ضربته، فنصبوه، وإن كانوا قد أعادوا عليه ضميرا يشغل الفعل بعده عنه حتى أضمروا له فعلا ينصبه، ومع هذا فالرفع فيه أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه ربَّ الجملة ومبتدأَها في قولهم: زيد ضربته !

قيل: هذا وإن كان على ما ذكرته فإن فيه غرضا من موضع آخر؛ وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت، فإنه لا يعدم دليل العناية به، وهو تقديمه في اللفظ منصوبا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدا مع تفسيره، فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذي نصبه، وكذلك يقول الكوفيون أيضا.

فإذا ثبت بهذا كلِّه قوة عنايتهم بالفضلة -حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد- حسُنَ قوله تعالى: (وَعُلِّمَ ءَادَمُ الْأَسْمَآءَ كُلَّهَا) لما كان الغرض فيه أنه قد عرفها وعلمها، وآنس أيضا علم المخاطبين بأن الله سبحانه هو الذي علمه إياها بقراءة من قرأ (وَعَلَّمَ ءَادَمَ اَ۬لَاسْمَآءَ كُلَّهَا)، ونحوه قوله تعالى: (إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعاً)، وقوله تعالى: (وَخُلِقَ اَ۬لِانسَٰنُ ضَعِيفاٗ)، هذا مع قوله: (خَلَقَ اَ۬لِانسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ)، وقال سبحانه: (خَلَقَ اَ۬لِانسَٰنَ عَلَّمَهُ اُ۬لْبَيَانَ)، وقال تبارك اسمه: (خَلَقَ اَ۬لِانسَٰنَ مِن صَلْصَٰلٖ كَالْفَخّ۪ارِ).

فقد عُلم أن الغرض بذلك في جميعه أن الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرب زيد، إنما الغرض منه أن يُعلم أنه مُنضرب، وليس الغرض أن يُعلم مَن الذي ضربه، فإن أريد ذلك ولم يدل دليل عليه، فلا بد أن يُذكر الفاعل فيقال: ضرب فلانٌ زيدا، فإن لم يُفعل ذلك، كُلِّف علمَ الغيب»(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 (1) الذي في مطبوعة الكتاب: 1/56: «والإلغاء والاستقرار -يقصد التأخير والتقديم- عربي جيد كثير، فمن ذلك قوله عز وجل: (وَلَمْ يَكُن لَّهُۥ كُفُؤاً اَحَدٞ)، وأهل الجفاء من العرب يقولون: “ولم يكن كفوا له أحد”، كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقرة».

(2) المحتسب: 64-66.

Science

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق