مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

فوائد إعمار أوقات الغفلة وهو شهر شعبان بالطاعات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الذي جعل الدنيا مزرعة للآخرة، ووفق مَن شاء لاغتنام أوقاتها قبل فواتها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المعتال، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليماً.

وبعد:

   فيعد شهر شعبان من الأشهر المباركة التي يغفل عنها كثير من الناس؛ لأنه اكتنفه شهران عظيمان وهما: شهر رجب المحرم، وشهر رمضان المبارك؛ فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”([1]) .

ولأهمية هذا الموضوع أحببت أن أكتب حوله مقالا أذكر  فيه بعض  الطاعات التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها في هذا الشهر المبارك وبعض فوائد ذلك، مكتفية  بإيراد أربعة منها وهي: الصيام، والدعاء، والاستغفار ،وقراءة القرآن الكريم  ،وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق:

الإكثار من صيام النافلة فيه وفائدة ذلك:

    إن شهر شعبان، مقدمة لشهر رمضان؛ ولذلك فكل أعمال البر المرغب فيها في شهر رمضان مستحبة كذلك في شهر شعبان. وفي مقدمة تلك الأعمال الإكثار من الصيام فيه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر منه ، ولنا فيه الأسوة والقدوة الحسنة، عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان”([2]) .

ولما كان شهر شعبان شهر غفلة يغفل الناس عنه؛ فعمارته بالطاعة “محبوب عند الله تعالى كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة، …فكذلك من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام” ([3])، فهو “كالتمرين على صيام رمضان ، لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة ؛ بل قد تمرن على الصيام واعتاده ، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط”.([4])

ثم إنه الشهر الذي تعرض فيه أعمال العبد؛ لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه قال: ” وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم “.([5])

الإكثار من الدعاء فيه وفائدة ذلك:

     من الأمور المستحبة التي ينبغي للمسلم فعلها في هذا الشهر المبارك: استغلاله بكثرة الدعاء ؛ لعموم الآيات والأحاديث النبوية التي تدل على عظم شأنه فقال سبحانه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ([6])،وقوله تعالى: (أدعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) ([7])،وقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ” ليس شيء أكرم على الله – عز وجل – من الدعاء” ([8])، وقال كذلك: “ما على الأرضِ مسلم يدعو  الله تعالى بدعوة، إلا آتاه اللَّهُ إياها، أو صرف عنه منَ السوء مثلها، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحمٍ، فقال رجلٌ من القوم: إذًا نُكثر ،قال: اللَّه أكثر”([9]).

فالدعاء هو: العبادة؛ وهو من أسباب انشراح الصدور ، وتفريج الهموم، وزوال الغموم، وهو مستحب للمسلم في كل وقت وحين؛ ولكنه في شهر الغفلة شعبان أكثر استحبابًا؛ لكونه في الأوقات الفاضلة التي يكون الدعاء فيها أرجى للاستجابة، فعلى المسلم أن يكثر منه ، وأن يجتهد في الالتجاء إلى الله تعالى.

الإكثار من الاستغفار  وفائدة ذلك:

من العبادات المستحبة التي يستحب للمسلم الإكثار منها:  الاستغفار ، وقد حث عليه الله تعالى ودعا إليه في العديد من آياته  فقال: ﴿واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ([10])، وقال: ﴿وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين([11]) ، كما حث النبي صلى الله عليه وسلم  على ملازمته في العديد من أحاديثه فقال: “من قال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غُفر له وإن كان فر من الزحف”([12])، وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك، ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة “([13]).

ولما كان شهر شعبان المعبر إلى شهر رمضان، فهو فرصة لتجديد العهد مع الاستغفار وملازمة ذلك ، لعموم فعل النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان وغيره من الشهور  عن أبي هُريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ﷺ يقول: “والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”([14])

وذلك لما للاستغفار من فوائد، وهي كثيرة في الدنيا والآخرة، ومن فوائده في الدنيا:  ما ورد في قوله تعالى: ﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا([15])، كما أن في كثرة الاستغفار والتوبة إليه تتنزل الرحمات الإلهية، فتدفع البلايا والآفات عن العباد والبلاد، قال الله عز وجل: ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون([16])،وقال تعالى: ﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما([17])، ومن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب؛ وأما ما يناله يوم القيامة من الجزاء والثواب والأجر العظيم ، فأمر لا يحصيه إلا الله تعالى: مصداقا لقول عائشة رضي الله عنها: “طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا”([18]).

الإكثار من تلاوة كتاب الله تعالى وفائدته

إن من أجل القربات التي ينبغي للمسلم الحرص عليها في هذا الشهر الكريم: الإكثار من تلاوة   القرآن الكريم وختمه، وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنة بالحث عليه والترغيب فيه؛ وذلك ببيان فضله وفضل من يقرؤه قال الله تعالى:  (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور  ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) ([19])، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه”([20])، فحري بالمسلم أن يغتنم هذا الشهر الفضيل، بملازمة القرآن الكريم، والإكثار من قراءته، وتدبر معانيه، وختمه، قال ابن رجب (795هـ) في لطائف المعارف: “و لما كان شعبان كالمقدمة لرمضان، شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام، و قراءة القرآن؛ ليحصل التأهب لتلقي رمضان، و ترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن”([21])

لقد وعى السلف الصالح عظمة القرآن الكريم وفضله، فتعلقوا به، وازداد ذلك عندهم في شهر شعبان؛ الذي يعد معبرا لشهر رمضان، ومن يقف على سير هؤلاء ليجد ذلك، فهذا حبيب بن أبي ثابت (119هـ) كان إذا دخل شعبان يقول : “هذا شهر القراء”([22])، وقال الحسن بن سهل (236هـ): “قال شعبان : يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين، فما لي ؟ قال : جعلت فيك قراءة القرآن يا من فرط في الأوقات الشريفة، و ضيعها و أودعها الأعمال السيئة، و بئس ما استودعها “([23])، لما في ملازمة كتاب الله من فوائد عدة ،من أجلها وأعظمها: السكينة، والطمأنينة، وحصاد  الأجر  والثواب الجزيل، ومضاعفة الحسنات. 

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى:

1-أن شهر شعبان يعد من الأشهر المباركة التي يغفل عنها كثير من الناس؛ لأنه اكتنفه شهران عظيمان وهما: شهر رجب المحرم، وشهر رمضان المبارك.

2-أنه موسم عظيم يستحب فيه الإكثار من الطاعات والعبادات استعداد لشهر رمضان المبارك، وقد اكتفيت في هذا المقال بإيراد أربعة منها وهي: الصيام، والدعاء، والاستغفار ،وقراءة القرآن الكريم، ثم ذكرت بعض فوائد ذلك.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

 ******************

هوامش المقال:

([1]) أخرجه أحمد في مسنده (36 /85-86)، برقم: (21753).

([2]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /50)، كتاب: الصوم، باب: صوم شعبان، برقم: (1969)، ومسلم في صحيحه (1 /513) كتاب: الصيام، باب: صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، واستحباب أن لا يخلي شهرا عن صوم برقم: (1156) واللفظ للبخاري .

([3]) لطائف المعارف (ص: 251).

([4]) لطائف المعارف (ص: 258).

([5]) تقدم تخريجه.

([6]) سورة البقرة، الآية: (186).

([7]) سورة الأعراف، الآية: (55).

([8])  أخرجه أحمد (14/ 63) برقم: (8748).

([9]) أخرجه الترمذي في سننه (5 /533)، كتاب: الدعوات، باب: في انتظار الفرج وغير ذلك، برقم:(3573)، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”.

([10]) سورة النساء الآية: (106).

([11]) سورة آل عمران الآية: (133).

([12]) أخرجه الترمذي في سننه (5 /536)، كتاب: الدعوات، باب: في دعاء الضيف، برقم: (3577).

([13]) أخرجه الترمذي في سننه (5/ 509)، كتاب: الدعوات، برقم: (3540).

([14]) أخرجه البخاري في صحيحه (4/ 154)، كتاب: الدعوات، باب: استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة، برقم: (6307)، ومسلم في صحيحه (2/ 1243)، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب:  استحباب الاستغفار والاستكثار منه  ، برقم: (2702) واللفظ للبخاري.

([15]) سورة نوح الآيات: (10إلى 12).

([16]) سورة الأنفال من الآية: (33).

([17]) سورة النساء الآية: (110).

([18]) أخرجه ابن ماجه في سننه (4 /293-294) كتاب: الأدب، باب: الاستغفار، برقم: (3818) .

([19]) سورة فاطر، الآيتان (29-30).

([20]) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 361)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة، برقم: (804).

([21]) لطائف المعارف (ص: 258).

([22]) لطائف المعارف (ص: 258-259).

([23]) لطائف المعارف (ص: 259).

*************************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ.

الجامع الكبير. لمحمد بن عيسى الترمذي. تحقيق: بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي. ط1/ 1996.

سنن ابن ماجه. لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني. تحقيق: محمود محمد محمود حسن نصار. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (د.ت).

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج لمحمد بن محمد مرتضى الزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ.

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي. تحقيق: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير  دمشق – بيروت. ط5/ 1420هـ – 1999مـ

مسند أحمد. لأحمد بن حنبل..  تحقيق: مجموعة من الباحثين. (ج 14)ط 1/ 1417هـ- 1997مـ (ج 36) ط1/ 1421هـ- 2001مـ.مؤسسة الرسالة بيروت لبنان.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق