مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

عيد الفطر: رمز الصلة والتواصل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده، وبعد فقد قال المنعم جل في علاه:﴿وءاتـيكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها﴾[إبراهيم:36] قال في التحرير والتنوير: «فجملة ﴿وآتاكم من كل ما سألتموه﴾ تعميم بعد خصوص، فهي بمنزلة التذييل لما قبلها؛ لحكم يعلمها الله ولا يعلمونها، ﴿ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير﴾ [الشورى:27] ، وأن الإنعام والامتنان يكون بمقدار البذل لا بمقدار الحرمان.. وجملة ﴿وإن تعدوا نعمــت الله لا تحصوها﴾ تأكيد للتذييل وزيادة في التعميم، تنبيها على أن ما آتاهم الله كثير منه معلوم، وكثير منه لا يحيطون بعلمه، أو لا يتذكرونه عند إرادة تعداد النعم، فمعنى ﴿إن تعدوا﴾ إن تحاولوا العد وتأخذوا فيه، وذلك مثل النعم المعتاد بها التي ينسى الناس أنها من النعم، كنعمة التنفس، ونعمة الحواس، ونعمة هضم الطعام والشراب، ونعمة الدورة الدموية، ونعمة الصحة..» ([1]) وإن من تمام النعمة وكمال التوفيق شهود مشاهد المسلمين الحافلة بمعاني الشكر تكبيرا وتحميدا، تهليلا وتسبيحا وتمجيدا، تذللا لله، وعرفانا بنعمائه، وسكونا إلى كنفه وحماه، بعد مشوار من الصيام والقيام، والذكر وتلاوة القرآن؛ ليكون هذا اليوم يوم الجائزة والجزاء، والتعهد بتجديد وإدامة وتمتين الصلات بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا:

صلة تفضي إلى كمال التعلق به سبحانه: محبة وخوفا ورجاء: محبة فيه إذ خلقنا وهدانا، وكرمنا فعلمنا، ثم سخر كل ما في الكون لنا ﴿وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه﴾ [الجاثية:13] وخوفا ورجاء؛ لعظمته سبحانه وتعالى جزاء؛ إذ هو عظيمٌ في خلقه، عظيمٌ في عزته وقوته، عظيمٌ في جبروته وقهره وعقابه، عظيمٌ في إنعامه على كافة خلقه، عظيمٌ في رزقه وعطائه، عظيمٌ في رحمته، عظيمٌ في كل أسمائه وصفاته وأفعاله، لا حد لعظمته سبحانه وتعالى، ولكن شديد الإلف قد ينبري حاجزا حصيفا عن كثير من التأمل والاعتبار، حائلا كثيفا بينه وبين  تلمس آثار عظمة الله في خلقه، وتجلياتها في جزيئات كونه، ولذلك ذيلت آية الإنعام بوصفي الظلم والكفران فقال سبحانه: ﴿إن الإنسان لظلوم كفار﴾ قال الفخر في المفاتيح: “إن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها، وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضا أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي”([2]) فإذا ما مسه طيف من الذكرى تذكر، من مثل قوله عز وجل: ﴿إن الله يمسك السموت والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا﴾[فاطر:41]

ويكفي الإنسان مدكرا وهو على هذا الكويكب أن يتأمل ما تراه عينه المجردة من فضاء يملؤه ما زين الله به السماء الدنيا من شمس وقمر، وكواكب ونجوم، وما في أرضه من سهول ووديان، وآكام ونجود، وبحار وأنهار، وإنسان وحيوان، وزروع وثمار.. إن ذلك يكفيه؛ ليستحي منه فيطيعه ولا يعصيه، ويخافه فلا يتمرد عليه، ويرجوه فيلح بالدعاء رغبة في خزائنه:

رائع سفر ذي الحياة ولكن *** أين من يفتح الكتاب ويقرا

إن الاتصال بالله مفض يقينا إلا كمال السعادة والهناء، والطمأنينة والرخاء، وذلك معنى قوله سبحانه لنبيه: ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين﴾ [الحجر:97،98،99] فالإنسان خلق هلوعا جزوعا، حريصا منوعا لا يتماسك في حال الرخاء، ولا يملك نفسه عند اشتداد الضراء، يتفطر قلبه خوفا من الشر قبل وقوعه، وينهار تحت وطأته بعد حدوثه، فلا هناء له في الحالتين، ولا قرار له في الصورتين مادام مقطوع الصلة بالله، فإذا ما وطد علاقته بربه، فأكثر من محامده، واتصل خاشعا ضارعا بملكوته، مناجيا ربه في سره وعلانيته، في بيته ومكتبه، في سوقه وبين أسرته،  في حال نومه ويقظته، مراقبا خالقه في حَله وترحاله، ذاكرا له في كل تصرفاته، كان الله سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها: وحينئذ لا يلهج العبد  إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق نطق بالله، وإن سمع سمع بالله، وإن نظر نظر بالله، وذلك معنى قوله سبحانه: ﴿فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي﴾([3]): موفق في أعماله وأقواله، مسدد في كل تصرفاته، محفوظ في ذاته وأحواله، وتلك الولاية لله التي لا تنال إلا بشديد الصلة به سبحانه؛ لهجا بذكره، والتزاما بفرائضه، ووقوفا عند حدوده.

وذلك معناه قوة التعلق بكتابه ترتيلا وتدبرا، فهما وعملا، والتعلق بنبيه تعظيما وتوقيرا، محبة وطاعة، تأسيا ومتابعة، والاتصال بشرعه: فهما وتنزيلا، تحليلا وتحريما: وتلك معاقد أسئلة الملكين: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ ولا إجابة إلا بتمتين الصلة، وإدامة الزلفى، وطول المصاحبة علما وعملا: ﴿يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة﴾[إبراهيم:27].

ومن تتمات الاتصال به صلة ما أمر الله بصلته ـ سيما في أيام الفرح والسرور، أيام التضامن والتآزر والتواصل ـ من الأرحام وذوي القربى؛ حفاظا على تماسك الأسرة ووحدتها، وصيانة لها من التفتت والاجتثات، ففي الأولى قوة للأمة والوطن، وفي الثانية ضعف لها ووهن؛ فالأسرة نواة المجتمع ومركزه، يتماسك بتماسكها، ويقوى بقوتها، ويتلاحم بصلابة لحمتها؛ ولأهميتها شاركت الاسم الأعظم في الأمر بالتقوى في قوله سبحانه: ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام﴾ [النساء:1] قال المراغي: «واتقوا الله الذي تعظمونه وتتساءلون فيما بينكم باسمه الكريم، وبحقه على عباده وبما له من السلطان والجبروت، وتذكّروا حقوق الرحم عليكم فلا تفرّطوا فيها، فإنكم إن فعلتم ذلك أفسدتم الأسر والعشائر، فعليكم أن تحافظوا على هاتين الرابطتين: رابطة الإيمان ورابطة الرحم الوشيجة، والله رقيب عليكم يعلم ما تأتون وما تذرون، ويحاسبكم على النّقير والقطمير ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾..»([4]) واشتق المولى اسمها من اسمه فقال: ﴿أنا الرحمن الرحيم، وإني شققت للرحم من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن بتكها بتكته﴾([5]) ولذات السبب رغب في التواصل والتزاور والتراحم فقال نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿من سرهُ أن يبسط له في رزقه، أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه﴾([6]) ثم رهب في القطيعة والتدابر؛ بعموم قوله سبحانه:  ﴿فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم﴾ [محمد:22] وخصوص قوله صلى الله عليه وسلم: ﴿لا يدخل الجنة قاطع﴾([7]) وقوله: ﴿إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم﴾([8])

 بل إن الله سبحانه أوصى بالصلة للإنسان كله وللخلق برمته: تكريما وإعظاما، رحمة وإحسانا: من خلال بذل المعروف والخير، وكف الأذى والشر، وتحمل الأخطاء والهفوات، والمزالق والزلات: وتلك مجامع الأخلاق: لا يؤذي طيرا ولا بهيمة، لا جنا ولا إنسا، فإن استطاع أن يكون وصالا نافعا لدينه وأمته ووطنه، ولإخوانه فليفعل، وإلا فليمسك شره عن الناس والكون، فإن ذلك نجاة له في الدنيا والآخرة، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ﴿سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال: الإيمان بالله قال: قلت: يا نبي الله، إن مع الإيمان عملا ؟ قال: يرضخ مما رزقه الله، قلت: يا نبي الله، أرأيت إن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ ؟ قال: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان عييا، لا يستطيع أن يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر؟ قال: فليصنع لأخرق، قلت: يا نبي الله، أرأيت إن كان أخرق لا يحسن يصنع ؟ قال: يعين مغلوبا، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مغلوبا ؟ قال: ما تريد أن تدع لصاحبك من خير، قال: فليمسك أذاه عن الناس قلت: يا رسول الله، أرأيت إن فعل هذا أيدخل الجنة ؟ قال: ما من مؤمن يصنع خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده، حتى تدخله الجنة﴾([9]).

 تلك هي معاقد الصلة والاتصال، ومحاسن الأخلاق والخلال: غاية الرسل من إرسالها، ومأمل الكتب من تنزلها، وهي القوة الكامنة لكل مجتمع، والأساس المتين لكل حضارة، والسبيل الأقوم لكل تقدم ونماء في سلم وأمان وهناء:

إنما الأمم الأخلاق مابقيت***فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

 

([1]) التحرير والتنوير:13/136.

([2]) مفاتيح الغيب:19/100.

([3]) نوادر الأصول في أحاديث الرسول للحكيم الترمذي:1/382، وأصله في صحيح البخاري باب التواضع، وفي غيره.

([4]) تفسير المراغي:4/174.

([5]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي باب صلة الرحم وقطعها.

([6]) صحيح البخاري باب من أحب البسط في الرزق.

([7]) صحيح البخاري باب إثم القاطع.

([8]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي باب صلة الرحم وقطعها.

([9]) المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية لابن حجر باب الخصال التي تدخل الجنة وتحقن الدم.

Science

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق