مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

سرية عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة في شهر رجب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آل بيته الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فإن شهر رجب من الشهور التي حدثت فيه وقائع في السيرة النبوية؛ ومن تلكم الوقائع: “سرية الصحابي الجليل عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة”.

ولأهمية هذا الموضوع أفردته بهذا المقال الذي سأتناول فيه:

أولا: التعريف بنخلة التي وقعت فيها أحداث السرية.

ثانيا: تاريخ وقوع السرية.

ثالثا: أحداث ووقائع السرية.

رابعا: ما يستفاد من هذه السرية من دروس وعبر.

فأقول وبالله التوفيق:

أولا: التعريف ببطن نخلة التي وقعت فيها أحداث السرية.

قال الواقدي (207هـ):  “ونخلة : واد بستان ابن عامر “[1]،  وزاد تلميذه ابن سعد (230هـ): “الذي قرب مكة”[2] ، وقال البكري (487هـ): “موضع على ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بطن نخلة، وهي التي ورد فيها الحديث ليلة الجن”[3]،وقال ابن منظور (711هـ): “وبطن نخلة بالحجاز: موضع بين مكة والطائف، ونخل : ماء معروف”[4].

ثانيا: تاريخ وقوع الغزوة:

ذكر ابن سعد في كتابه الطبقات أن تاريخ وقوع هذه الغزوة كانت: “في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم”[5].

ثالثا: أحداث ووقائع السرية:

بعث -رسول الله صلى الله عليه وسلم -عبد الله بن جحش الأسدي إلى نخلة في رجب، على رأس سبعة عشر شهرا من الهجرة، في اثني عشر رجلا من المهاجرين، كل اثنين يعتقبان على بعير ،فوصلوا إلى بطن نخلة يرصدون عيرا لقريش ، وفي هذه السرية سمى عبد الله بن جحش أمير المؤمنين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له كتابا ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه ،ولما فتح الكتاب، وجد فيه ” إذا نظرت في كتابي هذا ، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا ، وتعلم لنا من أخبارهم” فقال: سمعا وطاعة، وأخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم ،فمن أحب الشهادة، فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فمضوا كلهم، فلما كان في أثناء الطريق، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه، وبعد عبد الله بن جحش حتى نزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا، وأدما، وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي ، وعثمان، ونوفل، ابنا عبد الله بن المغيرة ، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة  فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام؛ فإن قاتلناهم، انتهكنا الشهر الحرام ، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم ، ثم أجمعوا على مُلاقاتهم ، فرمى أحدهم عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان والحكم، وأفلت نوفل، ثم قدموا بالعير والأسيرين، وقد عزلوا من ذلك الخمس؛ وهو أول خمس  كان في الإسلام، وأول قتيل في الإسلام، وأول أسيرين في الإسلام، وأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ما فعلوه، واشتد تعنت قريش وإنكارهم ذلك، وزعموا أنهم قد وجدوا مقالا ، فقالوا : قد أحل محمد الشهر الحرام، واشتد على المسلمين ذلك، حتى أنزل الله تعالى : (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ؟ قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل )[6]،[7] حاسما هذه الأقاويل، وأن ما عليه المشركون أكبر وأعظم مما ارتكبه المسلمون” [8].

وأنشد في ذلك أبو بكر الصديق، وقيل: عبد الله بن جحش[9]

تعدون قتلا في الحرام عظيمة  ***  وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عما يقول محمد   ***   وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله   ***   لئلا يرى لله في البيت ساجد

فإنا وإن عيرتمونا بقتله    ***  وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا   ***   بنخلة لما أوقد الحرب واقد

وابن عبد الله عثمان بيننا   ***    ينازعه غل من القد عاند

وقالت يهود تفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله، عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبدالله: وقدت الحرب ،فجعل الله ذلك عليهم لا لهم.

 فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى: (يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل)[10] ففرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا نفديكما حتى يقدم صاحبانا يعني: سعد بن أبى وقاص، وعتبة بن غزوان، فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات في بئر معونة شهيدا، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا.

فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا: يا رسول الله، أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين، فأنزل الله فيهم (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) [11] فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء ….. ثم قسم الفيء بعد ذلك[12].

رابعا: ما يستفاد من هذه السرية من دروس وعبر:

ومما يستفاد من هذه السرية الآتي:

1-السرية أظهرت ما اتصف به الصحابة رضوان الله عليهم من أخلاق عظيمة تتمثل في إيثارهم بعضهم على بعض؛ حينما يتعاقب كل رجلين منهم على بعير واحد.

2-جواز تسمية قائد السرايا بأمير المؤمنين، وأول من تسمى به : الصحابي عبد الله بن جحش قائد هذه السرية المباركة.

3-شدة أمانة الصحابة، وعظيم طاعتهم لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يطلع عبد الله بن جحش على كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يسير يومين بالجيش الإسلامي كما أمره نبي الله صلى الله عليه وسلم.

4-جواز استشارة القائد لجنوده في شأن الأمور الحربية، وعدم إكراههم على القتال دون رضاهم.

5-جواز قطع الطريق على تجارة المشركين المحاربين وأخذ أموالهم وأسراهم.

6-سعي المشركين والمناقين واليهود إلى استغلال أي هفوة من المسلمين لإداعة الإشاعات بأنهم انتهكوا الحرمات حين تم قتالهم في الشهر المحرم.

7-صرح الوحي بأن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها؛ فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام، واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر سلب أموالهم، وقتل بنيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟ [13].  

8-وقوع هذه السرية على حدود مكة دليل على أن المسلمين قادرون أن يصلوا إلى المشركين في أي مكان، قال المباركوري: ” وبعد وقوع ما وقع في سرية عبد الله بن جحش تحقق خوف المشركين وتجسد أمامهم الخطر الحقيقي، ووقعوا فيما كانوا يخشون الوقوع فيه، وعلموا أن المدينة في غاية من التيقظ والتربص، تترقب كل حركة من حركاتهم التجارية، وأن المسلمين يستطيعون أن يزحفوا إلى ثلاثمائة ميل تقريباً، ثم يقلتوا ويأسروا رجالهم، ويأخذوا أموالهم، ويرجعوا سالمين غانمين، وشعر هؤلاء المشركون بأن تجارتهم إلى الشام أمام خطر داهم” [14].

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى:

1-شهر رجب وقعت فيه أحداث كبرى في السيرة النبوية ومن ذلك : سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة.

2-تضمنت أحداث هذه السرية المباركة دروسا وعبرا، وقد ذكرت بعضا منها في صلب المقال.

والحمد لله رب العالمين.

*******************

هوامش المقال:

[1]  – المغازي (1 /12).

[2]  – الطبقات الكبرى (2/ 9).

[3]  – معجم ما استعجم (4/ 1304)

[4]  – لسان العرب (11 /652) مادة: “نخل”.

[5]  – الطبقات الكبرى (2 /11).

[6]  – البقرة (217).

[7]  – زاد المعاد (3 /150-151).

[8]  – الرحيق المختوم (ص: 200).

[9]  – السيرة النبوية لابن هشام (ص: 228).

[10]  – البقرة (217).

[11]  – البقرة 218.

[12]  – عيون الأثر (1 /360-362).

[13]  – الرحيق المختوم (ص: 201).

[14]  – الرحيق المختوم (ص: 201).

*******************

لائحة المصادر والمراجع:

الرحيق المختوم . لصفي  الرحمن المباركوري. وزارة الأوقاف . قطر 1428هـ- 2007مـ.

زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم الجوزية. ت: شعيب وعبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة. ط3/ 1418هـ- 1998مـ.

السيرة النبوية لابن هشام. دار ابن حزم ط2/ 1430هـ- 2009مـ.

الطبقات الكبرى. لمحمد بن سعد. ت: د علي محمد عمر مكتبة الخانجي. القاهرة ط1/ 1421هـ- 2001مـ.

عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير. لأبي التح ابن سيد الناس اليعمري. ت: د محمد العيد الخطراوي، ومحيي الدين مستو. دار ابن كثير. دمشق . بيروت. (د. ت).

لسان العرب، لابن منظور، دار صادر، بيروت، ط1، 1410-1990.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع. لأبي عبيد البكري. عالم الكتب. بيروت ط3/ 1403هـ.

المغازي . لمحمد بن عمر الواقدي. ت: مارسدن جونس. عالم الكتب (د.ت).

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق