مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

حكم الصيام في شهر رجب وبعض أقوال الفقهاء في ذلك

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا يخيب من قصد بابه وأمَّ، ولا يندم من أفنى عمره بطاعته واهتم، كريم إذا جاد بنعمة ساق إليها أخرى وضمَّ، قدر الشهور واختار لنفسه شهر رجب الأصمَّ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الذي اصطفاه كما شاء وأحب.

وبعد؛ فإن شهر رجب من أشهر الله الحرم الذي يتعلق به الكثير من الأحكام، ومن أهمها: الصيام.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أفردته بهذا المقال الذي سأتناول فيه : حكم صيام شهر رجب في المذاهب الفقهية الأربعة، مع ذكر أقوالهم وأدلتهم في ذلك، وفق الخطة الآتية:

أولا : استحباب صيام شهر رجب: القائلون بذلك وأدلتهم.

ثانيا: كراهة إفراد رجب كاملا بالصيام دون سائر الشهور: القائلون بذلك وأدلتهم.

فأقول وبالله التوفيق:

اختلف  العلماء في حكم الصيام في شهر رجب بين القائلين: باستحبابه ، والقائلين بكراهة إفراده بالصيام كاملا دون سائر الشهور، وسأستعرض هنا –إن شاء الله تعالى- أقوال الفريقين مع ذكر بعض من أدلتهم في ذلك:

أولا: استحباب صيام شهر رجب: القائلون بذلك وأدلتهم:

ومن القائلين باستحباب صيام شهر رجب من المذاهب الأربعة: جمهور  الحنفية، والمالكية، والشافعية.

1-الحنفية:

ففي الفتاوى الهندية: “المرغوبات من الصيام أنواع : أولها: صوم المحرم، والثاني: صوم رجب، والثالث: صوم شعبان، وصوم عاشوراء”[1].

2-المالكية:

ذكر العلامة الخرشي في شرحه على مختصر خليل، وهو يذكر الصيام المستحب: “والمحرم، ورجب، وشعبان ” يعني: أنه يستحب صوم شهر المحرم وهو أول الشهور الحرم، ورجب وهو الشهر الفرد عن الأشهر الحرم” [2].

وفي الحاشية عليه: “(قوله: ورجب)”؛ بل يندب صوم بقية  الحرم الأربعة وأضلها: المحرم، فرجب، فذو القعدة، فالحجة” [3].

وفي مقدمة ابن أبي زيد القيرواني: “التنفل بالصوم مرغب فيه، وكذلك صوم يوم عاشوراء، ورجب، وشعبان، ويوم عرفة، والتروية، وصوم يوم عرفة لغير الحاج أفضل منه للحاج “[4].

وفي شرح  العلامة الدردير على مختصر خليل: (و) ندب صوم (المحرم، ورجب، وشعبان)، وكذا بقية الحرم الأربعة، وأفضلها: المحرم، رجب، فذو القعدة، والحجة”[5].

3-الشافعية:

حيث نقل ذلك الإمام النووي في المجموع قال: “قال أصحابنا: ومن الصوم المستحب صوم الاشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وأفضلها المحرم قال الرويانى في البحر :أفضلها رجب”[6].

أدلة الجمهور :

اعتمد الجمهور ي استحباب صيام شهر رجب على:

أ-أدلة الترغيب العام في الصيام.

ب- وأدلة الترغيب الخاص في صيام الأشهر الحرم، ورجب منها باتفاق.

قال الشوكاني في نيل الأوطار: “وقد ورد ما يدل على مشروعية صومه على العموم والخصوص: أما العموم: فالأحاديث الواردة في الترغيب في صوم الأشهر الحرم وهو منها بالإجماع، وكذلك الأحاديث الواردة في مشروعية مطلق الصوم …”[7].

 أ-أدلة الترغيب العام في الصيام.

وهذا بابه واسع وأدلته وافرة جدا من بينها أدلة فضل الصيام؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: “قال الله عز وجل : “كل عمل ابن “آدم له إلا الصيام وهو لي وأنا أجزي به، والذي نفس محمد بيده لخلفة فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”[8].

وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصيام جنة”[9].

وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم” [10].

وكحديث أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا”[11].

وغيرها من الأحاديث التي تدل على فضل من صام يوما في سبيل الله تعالى وكلها أدلة ترغب في الصيام سواء كان ذلك رجبا أو غيره، فهو داخل في معنى هذه الأحاديث المرغبة في الصيام.

ب- أدلة الترغيب الخاص في صيام الأشهر الحرم، ورجب منها باتفاق.

كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل” [12].

بمعنى أنه إذا كان الصيام في شهر الله المحرم مستحب ومرغب فيه، فيقاس عليه غيره من الأشهر الحرم، ومنها شهر رجب للاشتراك معه في علة الحرمة.

وكحديث الصحابية الجليلة مجيبة الباهلية رضي الله عنها، عن أبيها، أو عمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ” صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك وقال بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها”[13].

قال الإمام النووي في المجموع: ” قوله صلي الله عليه وسلم (صم من الحرم واترك) إنما أمره بالترك؛ لأنه كان يشق عليه إكثار الصوم، كما ذكره في أول الحديث، (فأما) من لا يشق عليه فصوم جميعها فضيلة”[14].

ويدل حديث الباهلية على استحباب صيام الأشهر الحرم، وبمفهوم الأولى أن يقاس عليه استحباب صيام شهر رجب ؛ لأنه من الأشهر الحرم أيضا.

ثانيا: كراهة إفراد رجب كاملا بالصيام دون سائر الشهور : القائلون بذلك وأدلتهم:

قال الحنابلة بكراهة إفراد شهر رجب كاملا بالصيام دون سائر الشهور، وتزول الكراهة عندهم بفطر يوم منه، أو يومين ـ أو بصيام شهر  آخر إضافة إليه.

قال ابن قدامة في المغني: “فصل: ويكره إفراد رجب بالصوم قال أحمد : وإن صامه رجل، أفطر فيه يوما أو أياما، بقدر ما لا يصومه كله … قال أحمد: من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصومه متواليا يفطر فيه ، ولا يشبهه  برمضان. “[15].

وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي: “فصل: يكره إفراد رجب بالصوم نقل حنبل: يكره ورواه عن عمر وابنه، وأبي بكرة، قال أحمد: يروى فيه عن عمر أنه كان يضرب على صومه، وابن عباس قال: يصومه إلا يوما أو أياما … ” [16].

وقال المرداوي في الإنصاف: “(ويكره إفراد رجب بالصوم)” هذا المذهب ، وعليه الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وهو من مفردات المذهب، وحكى الشيخ تقي الدين تحريم إفراده وجهين قال في الفروع: ولعله أخذه من كراهة أحمد”[17].

أدلة الحنابلة:

أما الحنابلة فقد استدلوا على رأيهم في كراهة إفراد رجب كاملا بالصيام دون سائر الشهور بالأدلة الآتية: الخبر، والأثر، والنظر.

أ الخبر:

حيث استدلوا بمجموعة من الأحاديث الضعيفة التي تقوم بها حجة، أقتصر منها على حديث واحد، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب”[18].

قال البوصيري: “فيه داود بن عطاء المدني وهو متفق على تضعيفه وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية من طريق داود وضعفه الحديث به وهو ضعيف متفق على ضعفه “[19]، وكذلك قال السندي في حاشيته: “في إسناده داود بن عطاء وهو ضعي متفق على تضعيفه”[20].

ب- الأثر:

حيث استدلوا بمجموعة من الآثار عن بعض الصحابة فيها نهي عن صيام شهر رجب كله، وأن بعض الصحابة مثل : عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يضرب أكف الناس في رجب ويحملهم على إفطاره.

ففي مصنف ابن أبي شيبة: “حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن وبرة، عن عبد الرحمن، عن خرشة بن الحر، قال: رأيت عمر يضرب أكف الناس في رجب، حتى يضعوها في الجفان، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كان يعظمه أهل الجاهلية “[21].

وفي مصنف عبد الرزاق: ” عن بن جريج عن عطاء قال كان بن عباس ينهى عن صيام رجب كله لأن لا يتخذ عيدا “[22].

ت- النظر:

حيث اعتبر الحنابلة إفراد شهر رجب كله بالصيام تشبها بأهل الجاهلية، وفيه إحياء لأعيادهم وشعائرهم، قال الفقيه الحنبلي ابن مفلح في الفروع: “ولأن فيه إحياء لشعائر الجاهلية بتعظيمه”[23].

وفي كشف القناع للباهوتي الحنبلي: “ولأن فيه إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه، ولهذا صح عن عمر أنه كان يضرب فيه ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت الجاهلية تعظمه”[24].

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-شهر رجب من أشهر الله الحرم الذي يتعلق به الكثير من الأحكام ، ومن أهمها: الصيام.

2-انقسم الفقهاء في صيام شهر رجب كاملا إلى قسمين:

أ-استحباب صيامه كاملا، وهو قول جمهور المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية، والشافعية، واستدلوا على ذلك بأدلة الترغيب العام في الصيام، وأدلة الترغيب الخاص في صيام الأشهر الحرم، ورجب منها باتفاق.

ب-كراهة إفراد شهر رجب كاملا بالصيام دون سائر الشهور وهو قول: الحنابلة، واستدلوا على ذلك: بالحديث ، والأثر، والنظر.

*******************

هوامش المقال:

[1]  – الفتاوى الهندية (1 /222).

[2]  – حاشية الخرشي على مختصر سيدي خليل (3 /18).

[3]  – المصدر السابق (3 /19)

[4]  – انظر: الثمر  الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني (ص: 496).

[5]  – حاشية الدردير على مختصر خليل (1 /516).

[6]  – المجموع (7/ 482).

[7]  – نيل الأوطار (4/ 276).

[8]  – أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 285) ، كتاب: الصيام، باب: فضل الصيام، برقم: (1151).

[9]  – أخرجه مسلم في صحيحه (4 /285)، كتاب: الصيام، باب: فضل  الصيام، برقم : (1151).

[10]  – أخرجه مسلم في صحيحه (4 /285-286)، كتاب: الصيام، باب: فضل  الصيام، برقم : (1152).

[11]  – أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 289)، كتاب: الصيام، باب: فضل  الصيام، برقم : (1153).

[12]  – أخرجه مسلم في صحيحه (4/ 311)، كتاب: الصيام، باب: فضل  صوم المحرم، برقم : (1163).

[13]  – أخرجه أبو داود في سننه (ص: 426)، كتاب: الصوم، باب: في صوم أشهر الحرم، برقم : (2428).

[14]  – المجموع شرح المهذب (7 /482).

[15]  – المغني (4/ 129).

[16]  – الفروع (3 /88).

[17]  – الانصاف (1 /547).

[18]  – أخرجه ابن ماجه في سننه (8 /345)، كتاب: الصيام، باب: صيام أشهر الحرم برقم: (1743) .

[19]  – مصباح الزجاجة (1/ 307).

[20]  – حاشية السندي بهامش سنن ابن ماجه (8 /345). 

[21]  – مصنف ابن أبي شيبة (6/ 334) برقم: (9851). 

[22]  – مصنف عبد الرزاق(4/ 225) برقم: (7884). 

[23]  – كتاب الفروع (5 /99) . 

[24]  – كشاف القناع (2/ 340). 

*****************

لائحة المصادر والمراجع:

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي. ت: رائد بن صبري ابن أبي علفة، بيت الأفكار الدولية . لبنان. 2004مـ.

الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني. جمع: صالح عبد السميع الأزهري. دار الكتب العلمية. بيروت . لبنان 2004مـ.

حاشية الخرشي على مختصر سيدي خليل. ت: زكريا عميرات، دار الكتب العلمية. بيروت لبنان. 1997مـ.

حاشية الدردير على مختصر خليل. لمحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي. دار إحياء الكتب العربية. عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. (د.ت).

سنن ابن ماجه بشرح الإمام السندي. تحقيق: حليل مأمون شيحا. دار المعرفة . بيروت لبنان. ط1/ 1416هـ- 1996مـ.

سنن أبي داود . حكم على أحاديثه : محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به: مشهور حسن سلمان. مكتبة المعارف الرياض. ط1(د.ت).

صحيح مسلم بشرح النووي. ت: عصام الصبابطي، وآخرون. دار الحديث القاهرة. ط1/ 1415هـ- 1994مـ.

الفتاوى الهندية.للشيخ نظام الهندي وجماعة من علماء الهند.ت: عبد اللطيف حسن عبد الرحمن، دار الكتب العلمية، بيروت، 2010مـ.

الفروع . لابن مفلح المقدسي الحنبلي. ت: أبي الزهراء حازم القاضي. دار الكتب العلمية. بيروت لبنان. 1997مـ.

كتاب الفروع لمحمد بن مفلح المقدسي. ت: د عبد الله بن عبد المحسن التركي. مؤسسة الرسالة بيروت ودار المؤيد الرياض. ط1/ 1424هـ – 2003مـ.

كشاف القناع عن متن الإقناع. لمنصور بن يونس البهوتي الحنبلي . عالم الكتب. بيروت. 1403هـ- 1983مـ.

المجموع شرح المهذب. لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي. ت: مجموعة من العلماء. دار الكتب العلمية. 2011مـ.

مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه. لأحمد بن أبي بكر البوصيري . ت: كمال يوسف الحوت. دار الجنان. 1986مـ.

المصنف لابن أبي شيبة. ت: محمد عوامة. شركة دار القبلة، ومؤسسة علوم القرآن. جدة دمشق. ط1/ 1427هـ- 2006مـ.

المصنف لعبد الرزاق الصنعاني. ت: أيمن نصر الدين الأزهري. دار الكتب العلمية. 2010مـ

المغني على مختصر الخرقي. لابن قدامة المقدسي. ت:  محمد عبد القادر عطاء دار الكتب العلمية. 2009مـ

نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخبار للشوكاني . مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. 1347هـ.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق