مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

ثمرات التربية الصوفية وأثرها في حياة الفرد والمجتمع حلول محبة الله تعالى ومحبة الرّسول صلى الله عليه وسلم في القلب..(1)

تهدف التربية الصوفية إلى تصفية القلوب وتطهيرها من الأمراض القلبية المهلكة، كالحسد والكبر والحقد… وتوجيهها إلى حضرة الله طاهرة من الحجب الظلمانية لتحل محلها القيم الجمالية القادرة على صلاح القلوب ومنحها طاقات نورانية تسعى في فعل الخيرات وزرع قيم المحبة والود والسلام، ونبذ كل الصراعات والخلافات بين الأفراد. ومحاولة تجاوز المشاكل التي تتخبط فيها المجتمعات الإنسانية، خاصة في هذا العصر الذي طغت فيه المادة على الروح وصرفت الانسان عن بوصلة الحق والطريق المستقيم من حروب وخلافات وصراعات وتجاذبات كلها راجعة إلى فساد القلوب وبعدها عن الله وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم،

    وكل هذه المعضلات لا يمكن التخلص منها إلا بالرجوع إلى الطريق المستقيم طريق التربية الصوفية الذي يعيد للحياة التوازن المادي والروحي، ويمد السالك لطريق أهل التصوف بالوقود الحيوي من أجل تحقيق هذا التوازن وتجاوز كل الاضطرابات الاجتماعية المستعصية.

    فلا غروا أنّ القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلائها ذكر الله، فالقلوب الغافلة عن ذكر الله أضحت منبعاً لجملة من الأمراض الباطنية المهلكة وأضحى لزاماً أهمية التخلص منها بطهارة القلوب منها، لأن الله جلت قدرته قد حذر المنافقين والكافرين والغافلين والقاسية قلوبهم الذين يحملون الشر والغل والضغينة والحقد والكبر ومختلف الأمراض الباطنية في قلوبهم بالهلاك في الدنيا والآخرة، ومن ذلك قوله تعالى في حق المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [سورة البقرة:10]. وقال تقدست أسماؤه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) [سورة النساء، الآية: 143]. وقال جلت قدرته: (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) [سورة المدثر، الآية:31] وقال عز من قال: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) [سورة الحج، الآية: 53]. ومنه قوله تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]. وقال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10]. وقال جلت قدرته: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران: 159].

    فهذه إشارات قرآنية وضحت جملة من الأمراض التي تصيب القلوب وتغرس فيها الغفلة، والقسوة، والتقلب، والرياء، والنفاق، والكبر… وغيرها؛ فإذا لم تطهر هذه القلوب وتتوجه إلى حضرة الله بمجاهدة النفس والهوى والنفس والشيطان باعتبارها من أشد أعداء الإنسان، فإن هذه القلوب تتعرض للطبع والختم والموت، وبالتالي فإذا مرِض القلب، وهو ملك الأعضاء، أثَّر ذلك على مختلف الأعضاء والجوارح؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألَا وإنّ في الجسد مضغةً، إذا صلَحت صلَح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) [1].

    وبالتالي فالتربية الصوفية وبما تحمله من إرث روحي ومدد نوراني هي الطريق الأمثل لإنقاذ البشرية وإصلاح المجتمعات وتطورها وازدهارها اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وفق قيم جمالية تطبعها الوسطية والاعتدال ونبذ الغلو والتشدد، لأنّ التربية الصوفية تعتمد على أهمية صلاح القلوب وطهارتها من مختلف الأمراض الباطنية.

    ذلك أن صلاح المعاملات بين الأفراد مرتبط بصلاح القلوب، لأنّ القلب عندما يكون صالحاً طاهراً إلاّ وكان لذلك الصلاح والطهارة انعكاساً إيجابياً على مختلف الأعضاء والجوارح، ومن تم يعود هذا الصلاح بكل الخيرات للمجتمع وإذا فسد القلب، فإن هذا الفساد يهدم المجتمع، يقول الإمام محي الدين بن عربي: (أن كل كرامة ومنزل ذكرناه فيما تقدم للأعضاء، فإنما ذلك كله راجع إلى القلب وعائد عليه، ولولاه لم يكن من ذلك شيء لتلك الأعضاء، فإن كل عمل صدر عنها إن لم يؤيده الإخلاص الذي هو عمل القلب وإلا فذلك العمل هباء منثوراً لا يصح له نتيجة أصلاً ولا يورث سعادة، فإن الله تعالى يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنّما الأعمال بالنيات…الحديث) فتبين بهذا أنّ الأعمال الظاهرة والباطنة كلها يزكيها عمل القلب أو يجرحها..).

   ويذكر ابن العربي المفسر في شرحه لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [سورة الأنفال، الآية: 29]. أن هناك مجموعة من الجوارح كالعين والأذن واللسان والقلب تصدر عنها مجموعة من المعاصي، إذا لم تتقي الله تعالى، فيذكر مثلا أنّ العين رائد القلب وربيئته فما تطلع عليه أرسلته إليه..فإذا جللتها بالتقوى لم ترسل إلى القلب إلا ما يجوز، فيستريح من شغب ذلك الإلقاء..أما القلب فهو البحر الخضم، وفي القلب الفوائد الدينية والآفات المهلكة، والتقوى فيه حجاب يسلخ الآفات عنه وشحنه بالنية الخالصة وشرحه بالتوحيد.. فإذا انتهى العبد على هذا المقال مهد له في قبوله مكانا ورزقه فيما يريده من الخير إمكانا وجعل له بين الحق والباطل والطاعة فرقانا..)[2].

   ومن أهم وأشرف الثمرات التي تنتجها التربية الصوفية في قلوب السالكين المحبة والاخلاص في العبادات والمعاملات والتقوى والورع، والكرم والصبر والصدق والرحمة الجود والكرم، وحسن المعاملة وتتمثل في صلاح قلوبهم وصفاء سرائرهم، وهذه الثمرات يظهر أثرها الرباني الذي أودعه الله تبارك وتعالى في قلوب عباده المتوجهين إلى حضرته.

الفصل الأول: ثمرة حلول محبة الله تعالى ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في القلب

   لا غرو أنّ من المهام العظمى للتربية الصوفية هو التزكية والتخلية ثم التحلية ثم التحقق بجملة من الثمرات العرفانية التي تهب على القلوب وتغرس فيها القيم الجمالية النابعة من الحضرة الربانية سلوكاً وفكراً ووجداناً، بحيث أضحت هذه القيم مقصدا للقوم من خوض غمار هذه التجربة الصوفية التي وجدوا فيها الراحة والطمأنينة القلبية، ومن جملة هذه التمرات حلول محبة الله تعالى ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في القلب، وهي محبة نورانية يهيجها الشوق الكبير إلى معرفة الله تعالى، وهي كذلك نفحة من النفحات الربانية التي تهب على القلوب الطاهرة في ساعة القرب والوصول.

  وبما أنّ المحبة ثمرة من ثمار التربية الصوفية، فإنّ الصوفية رضوان الله عليهم قد جعلوها من الأصول المهمّة في مباني التّصوّف ومرتكزاته واعتبروها من أعلى الثمرات التي يجنيها، السالك لطريق أهل التصوف باعتبارها مقاما تتبادل فيه المحبة بين الحبيب والمحبوب، مصداق لقوله تعالى: (يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ) [سورة المائدة، الآية: 54]. ويتبادل فيها الرضى، ومن ذلك قوله تعالى: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ورَضُوا عنْهُ) [سورة البينة، الآية: 8]. ويتبادل فيه كذلك الذكر: (فاذكروني أذكُرْكُم) [سورة البقرة، الآية: 152]. وفيه كذلك شدة المحبة للمحبوب وهذه المحبة تظهر صدق التوجه الحقيقي للمحبوب ومن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) [سورة البقرة، الآية: 65]. وقوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [سورة آل عمران، الآية:31].

  ونظراً لأهمية تمرة المحبة في مقامات التربية الصوفية والتي حظيت بمكانة سامية في الشريعة الاسلامية، فإنّه من الأهمية بمكان أن نبين في هذا المضمار ماهية المحبة في الاصطلاح الصوفي، مع ذكر تأصيلها في الكتاب والسنة مراتبها ودرجاتها وحقيقتها في السلوك العرفاني.

2-1. ماهية المحبة في الاصطلاح الصوفي

   من تعريفات علماء التربية الصوفية للمحبة الالهية:  قول الجنيد: (المحبّة دخول صفات المحبوب على البَدَل من صفات المحبّ) [3]، وقال الشبلي: (سميت المحبّة محبة لأنّها تمحو من القلب ما سوى المحبوب) [4]. وقال الشيخ إبراهيم بن أدهم: (المحبة إيثار المحبوب على جميع المصحوب، فيكون محبوبه مؤنسه في خلوته، وعوضاً من جميع راحاته) [5]. ويقول الشيخ داود الطائي: (المحبة: هي دوام ذكر المحبوب) [6]. وقال الشيخ حاتم الأصم: (المحبة: التزام طاعة المحبوب، مع شدة الخوف من فوات المطلوب) [7]. وقال الشيخ معروف الكرخي (المحبة: هي الأنس بالمحبوب، وبذل النفس في هوى المطلوب، وأن لا تنظر إلى سواه مخافة أن تضل فلا تراه، لأنّ من نظر إلى سواه ضل عن طريق هداه) [8]. وقال القشيري: (إن المحبة وبإجماع الصوفية هي الموافقة، وأشدّ الموافقات هي الموافقة بالقلب والمحبة توجب انتفاء المباينة)[9]. وقال الحارث المحاسبي: (المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، وموافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه) [10]. ويقول الإمام أبو طالب المكي أنّ المحبة من أعلى مقامات العارفين وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين ومعها نهاية الفضل العظيم) [11].

 ومن خلال جملة هذه التعريفات نخلص إلى أنّ المحبة مقام ودرجة عرفانية بل هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات، ونعمة من الله تعالى ينور بها قلوب عباده الصالحين، فلما جاهدوا أنفسهم عن اتباع الهوى بأن وجهوها إلى طريق الله رسخ الله تبارك وتعالى أنوار محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم وبفضلها يحصل للسالك الرقي المعنوي والسمو الأخلاقي والأنس المعنوي.

3-1. المحبّة الإلهيّة في القرآن الكريم

   إن المتأمل في كتاب الله العزيز يجد الكثير من الآيات القرآنية تحدثت عن أهمية وفضيلة المحبة لله سبحانه وتعالى ووجوب محبة العباد لخالقهم ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم. واعتبرت هذه المحبة من مكملات الايمان، ومن ذلك قوله تعالى: )وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) [سورة البقرة، الآية: 165]، وقوله جلت قدرته: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [سورة المائدة، الآية: 54]، وقال عزّ من قال: (قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتْبَعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [سورة آل عمران، الآية: 31].

  وفي سياق آخر ذكر الله سبحانه وتعالى صفاة عباده الذين يحبهم نظراً لاتصافهم بمجموعة من الصفاة الحسنة التي يحبها الله في عباده النتقين كالإحسان والصبر والتوكل والتقوى والطهارة والصلاح، ومن ذلك قوله تعالى: (واللهُ يُحِبُّ الصَّابِرينَ) [سورة آل عمران، الآية: 146]، وقوله تقدست أسماؤه: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [سورة البقرة، الآية: 222]، وقوله: (واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [سورة لقمان، الآية: 18]، (وقوله جلت قدرته: (واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [سورة آل عمران، الآية: 134]، وقوله: (والله يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ) [سورة الممتحنة، الآية: 8]، وقوله تعالى: (والله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [سورة آل عمران، الآية: 146]، وقوله تعالى: (والله يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ) [سورة آل عمران، الآية: 159].

4-1. المحبّة الإلهيّة في السنّة النبوية

  وردت في السنة النبوية الشريفة جملة من الأحاديث تناولت مقام المحبة وفضلها وأهميتها في نيل مرضاة الله، والقرب منه والانس بذكره، ومن ذلك الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) [12].

   وعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: (وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ) [13]. وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ) [14]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ) [15]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (كَانَ مِنْ دُعاءِ دَاوُدَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْألُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي، وَأَهْلِي، وَمِنَ المَاءِ البَارِدِ) [16].

   وقد بشّر النبي صلى الله عليه وسلم المحبّين بالمعيّة مع محبوبهم، في الحديث الذي رواه: أنس بن مالك رضي الله عنه: (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: مَتَى السَّاعَةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ) [17].

5-1. علامات المحبة عند الصوفية

   من علامات المحبين الصادقين أنّهم يحبون الله كثيراً بحيث لا تسبق محبته على محبة غيره عندهم، فلما أحبوه أحبهم وصفى سرائرهم وطهر قلوبهم لعلو همتهم وقوة إيمانهم، وقد بين الإمام أبي حامد الغزالي بأنّ المحبة من علامات موافقة المحبوب واجتناب خلافه) [18]. ويضيف الغزالي: (أنّ من ادعى حب النبي ولن يحب العلماء والفقراء فهو كذاب، ومن ادعى الخوف من النار ولم يترك المعاصي فهو كذاب، ومن ادعى حب الله تعالى وشكا البلوى فهو كذاب وفي هذا المضمار تقول ربيعة العدوية  رضي الله عنها:

تعصي الإله وأنت تظهر حبه       هذا لعمري في القياس بديـــــــع

   ولو كان حبك صادقاً لأطعـته       إن المحب لمن يحــب مطـيــع [19]

ومن علاماتها كذلك يذكر الإمام أبو طالب المكي: (المجاهدة في طريق المحبوب، بالمال والنفس، ليقرب منه ويبلغ مرضاته) [20]. وفي هذا السياق يوضح المحاسبى: (أنّ علامة المحبين كثرة الذكر للمحبوب على طريق الدوام، لا ينقطعون ولا يملون ولا يفترون، وقد أجمع الحكماء على أن من أحب شيئا أكثر من ذكره، فذكر المحبوب هو الغالب على قلوب المحبين لا يريدون به بدلا ولا يبغون عنه حولا، ولو قطعوا عن ذكر محبوبهم لفسد عيشهم، وما تلذذ المتلذذون بشيء ألذ من ذكر المحبوب) [21].

   فالمحبة الصادقة تستوجب الوقوف عند حدود الله ظاهراً وباطناً وفي السر والجهر، لذلك قال المحاسبي عندما عرف المحبة هي: (موافقتك له سرًّا وجهراً) [22]، وقال يحيى بن معاذ الرازي: (ليس بصادق من ادعى محبته ولم يحفظ حدوده) [23]. والمحبة لا تنفك عن الالتزام والوقوف عند حدود الله، فالمحب يكون أشد النّاس محافظة على الشريعة والإنقياد للخالق جلت قدرته، وهي مرتبة دوقية شعورية نورانية تظهر ثمراتها في القلوب السالكة إلى حضرة الله تعالى.

6-1. مراتب المحبة عند الصوفية

يذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أنّ للمحبّة عشرة مراتب هي:

أوّلها: العلاقة: وهي تعلّق القلب بالمحبوب.

الثانية: الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.

الثالثة: الصبابة: وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه كانصباب الماء في الحدود.

الرابعة: الغرام: وهي الحبّ اللاّزم للقلب ومنه الغريم لملازمته.

الخامسة: المودّة والودّ: وهي صفو المحبّة إلى شغاف القلب.

السادسة: الشغف: وهي وصول المحبّة إلى شغاف القلب.

السابعة: العشق: وهو الحبّ المفرط الذي يخاف منه على صاحبه ولكن لا يوصف به الربّ تعالى ولا العبد في محبَّة ربِّه تعالى والسبب لأنّ العشق محبّة مع شهوة.

الثامنة: التيمم: وهو بمعنى التعبّد.

التاسعة: التعبد قال ابن القيم في روضة المحبّين: وأمّا التعبّد فهو في غاية الذلّ يقال: عبده الحب أي ذلَّله، وطريق معبّد بالأقدام أيّ: مذلل لمن شاء، فمحبّة العبودية هي أشرف أنواع المحبّة وهي خالص حقِّ الله على عباده.

والعاشرة: الخُلَّة: وهي المحبّة التي تخلّلت روح المحب وقلبه) [24].

   ويقول الإِمام علي رضي الله عنه موضحاً مراتب المحبة ودرجة كل واحد، ومقصوده في توجهه ومحبته: (إِن قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وإِن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإِن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار) [25].

وورد في أحد الأبيات الشعرية الصوفية قول من قال:

      فما مقصــــودُهم جـنـــــاتُ عدنٍ            ولا الحور الحسانُ ولا الخـيـــــــــــامُ

    سوى نظرِ الجـليلِ وذا مناهم               وهــــــذا مقـــــصدُ القــــــومِ الكرامُ [26]

7-1. حقيقة المحبة عند الصوفية

   لا جرم أنّ مقام المحبة عند الصوفية هو من واردات القلوب وهذه الواردات لا يمكن وصفها والتدقيق في معانيها الفياضة باعتبارها أذواق وأشواق لا حدود لها ولا وصف لها، فالمحبة لا تدرك إلا بالتجربة الصوفية والخوض في غمارها هي السبيل إلى التلذذ بمقام المحبة والشعور بوارداتها، لذلك حاول مجموعة من علماء التصوف بوصف حقيقة المحبة، ومنهم الامام أبو عبد الله القرشي الذي قال: (حقيقة المحبة أَن تهب كَذَلِكَ لمن أحببت فلا يبقى لَك منك شَيْء) [27].

 وقال يحيى بن معاذ واصفاً حقيقة المحبة:  (بأنها مالا ينقص بالجفاء، وَقَالَ يَزِيد بالبر، وَقَالَ لَيْسَ بصادق من ادعى محبته وَلَمْ يحفظ حدوده) [28]. ومن جانب قال الجنيد: (إِذَا صحت المحبة سقطت شروط الأدب، وَفِي معناه سمعت الأستاذ أبا عَلِي ينشد:

إِذَا صفت المودة بَيْنَ قوم       ودام وداهم سَمُجَ الثناء [29].

   وقال الحسين بن منصور حقيقة المحبة: (قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك (…) سقوط كل محبة من القلب إلاّ محبة الحبيب) [30].

   ونخلص إلى أنّ المحبة عند الصوفية مراتب وعلامات تختلف باختلاف مقصود السالكين إلى حضرة الله تعالى كل حسب درجته وصدق نيته وقوة إرادته ومبتغاه الكبير من عبادة الله جلت قدرته، والمحبة بهذا المعنى من أعظم التمرات التي تنموا في القلوب، وهي فطرة زكية طاهرة تتكون بفعل قوة التوجه إلى حضرة الله، ويزداد توهجها بازدياد قوة الايمان والتقوى والورع والتوكل والصبر.

————————-

  1. صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه، ج: 1، ص: 20. رقم الحديث: 52.
  2. أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، ج: 2، ص: 319-320.
  3. الرسالة القشيرية، عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري، تحقيق: الإمام الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور محمود بن الشريف، الناشر: دار المعارف، القاهرة (ط/ت) باب المعرفة، ج: 2، ص: 487. مدارج السالكين في منازل السائرين، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، الناشر: – دار ابن حزم (بيروت)، الطبعة: الثانية، 1441 هـ -2019 م.
  4. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 487.
  5. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 487.
  6. المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، لأحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين، الناشر: المكتبة التوفيقية، القاهرة- مصر، (ط/ت). وأجيب بأجوبة: ومنها: أنه على حذف مضاف، ج: 2، ص: 537.
  7. طريق الهجرتين وباب السعادتين، للإمام أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، حققه: محمد أجمل الإصلاحي، خرج أحاديثه: زائد بن أحمد النشيري، راجعه: سعود بن عبد العزيز العريفي – علي بن محمد العمران، الناشر: دار عطاءات العلم (الرياض) الطبعة: الرابعة، 1440 هـ-2019 م. فصل: في المحبة فصل: حدود أخرى للمحبة، ج: 2، ص: 573.
  8. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 489.
  9. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 494.
  10. طبقات الأولياء، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، بتحقيق: نور الدين شريبه من علماء الأزهر، الناشر: مكتبة الخانجي، بالقاهرة، الطبعة: الثانية، 1415 هـ – 1994 م. ص: 175.
  11. قوت القلوب لأبي طالب المكي ج: 2، ص: 50.
  12. صحيح البخاري، كتاب الرقائق، باب التواضع، ج: 8، ص: 105. رقم الحديث: 6502.
  13. جامع المسانيد والسُّنَن الهادي لأقوم سَنَن، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، المحقق: د عبد الملك بن عبد الله الدهيش، الناشر: دار خضر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان، طبع على نفقة المحقق ويطلب من مكتبة النهضة الحديثة – مكة المكرمة، الطبعة: الثانية، 1419 هـ – 1998 م. ج: 7، ص: 483. رقم الحديث: 9585.
  14. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، ج: 9، ص: 20. رقم الحديث: 6941.
  15. صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب المقة من الله تعالى، ج: 8، ص: 14. رقم الحديث: 6040.
  16. رياض الصالحين، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تعليق وتحقيق: الدكتور ماهر ياسين الفحل، الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق – بيروت. الطبعة: الأولى، 1428 هـ – 2007 م. باب الأمر بالدعاء وفضله وبيان جمل من أدعيته – صلى الله عليه وسلم. اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي، وأهلي، ومن الماء البارد، ص: 412. رقم الحديث: 1490.
  17. صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب علامة حب الله، ج: 8، ص: 40، رقم الحديث: 6171.
  18. مكاشفة القلوب للإمام أبي حامد الغزالي، ص: 27. قوت القلوب لأبي طالب المكي، ج: 2، ص: 89.
  19. مكاشفة القلوب، للإمام أبي حامد الغازالي، ص: 27.
  20. قوت القلوب، لأبي طالب المكي، ج: 2، ص: 53.
  21. المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، القسطلاني، وأجيب بأجوبة: ومنها: أنه على حذف مضاف، ج: 2، ص: 537.
  22. طبقات الأولياء، المؤلف: ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، بتحقيق: نور الدين شريبه من علماء الأزهر، الناشر: مكتبة الخانجي، بالقاهرة، الطبعة: الثانية، 1415 هـ – 1994 م. ص: 175 .
  23. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 488.
  24. مدارج السالكين في منازل السائرين، لابن القيم الجوزية، منزلة المحبة مراتب المحبة العشر وأسماؤها ومعانيهاج: 3، ص: 397.
  25. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، الناشر: مطبعة السعادة – بجوار محافظة مصر، عام النشر: 1394هـ – 1974م، ج: 3، ص: 134.
  26. المنح القدوسية في شرح المرشد المعين على الضروري من علوم الدين بطريق …للعلامة عبد الواحد بن عاشر، والشرح للعارف بالله الشيخ أحمد بن مصطفى بن عليوة المستغانمي ضبطه وصححه الشيخ الدكتور عاصم إبراهيم الكيالي، الحسيني الشادلي الدرقاوي، الناشر دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، 1971م، الباب الثامن في ذكر الحسن بن علي بن أبي طالب، ص: 180.
  27. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 487.
  28. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 488.
  29. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 488.
  30. الرسالة القشيرية، باب المعرفة، ج: 2، ص: 489.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق