مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

ثمرات التربية الصوفية وأثرها في حياة الفرد والمجتمع.. ثمرة حب الخير للخلق أجمع وكراهية الشّر لهم..(2)

من المؤكد أنّ التربية الصوفية تسعى إلى التربية على مكارم الأخلاق ومحاسنها، وتنوير القلوب وصرفها عن الكراهية والحقد والبغض والغفلة عن الله، ولذلك جعل الصوفية أنّ من علامات صفاء القلوب نبوغ ثمرة محبة الخير للخلق كافةً وكراهية الشر لهم، مؤكدين أن هذه المنزلة لا تدرك إلا بعد مجاهدة النّفس وتخليصها من قيود الأنا، وحملها على فعل الخير، حتى تكون على الصراط المستقيم الذي هو آدب القرآن والنبوة المقتبسة من شمائله صلى الله عليه وسالم، قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [سورة المائدة، الآية: 2]. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (وهو أمرٌ لجميع الخَلْق بالتعاون على البر والتقوى، أي ليُعِن بعضكم بعضاً، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه)[1]. وعن أنس رضي الله عنه، عن النّبي صلى الله عليه وسلم، قال: )لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) [2]، بمعنى أنّه لا كمال للإيمان في قلب المسلم إلاّ بعد أن يحب الخير للناس وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، من حلول النعم وزوال النقم، ويكره لهم ما يكره لنفسه. أما التباغض والحسد والكراهية فهذا سبب من أسباب تنافر القلوب، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان الحقيقي متوقف على محبة الخلق فقال: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)[3].  

    فكلما كان السالك لطريق أهل التصوف محباً الخير للناس يفرحُ لفرحهم، ويحزن لحزنهم، فالله سبحانه وتعالى يجازيه بالخير الكثير والفضل العميم، مصداقاً لقوله تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [سورة الرحمن، الآية: 60]، فأهل الإحسان هم أهل الصفاء الروحي لأنهم لم يصلوا إلى هذه المنزلة إلّا بصحبتهم لأهل الله الواصلين الموصلين لحضرة الله تعالى الذين تحققت فيهم شروط الولاية ومهمة التربية الباطنية.

   ونظرا لأهمية محبة الخير للخلق أجمع في السلوك العرفاني، فإنّ الصوفية جعلوا هذه المنزلة من أهم مقامات وثمرات التربية الصوفية معتبرين هذه الصفة من صفات المحبين الصادقين المخلصين، وهي صفة لا تنال إلاّ بمجاهدة النفس والرياضة الباطنية وصحبة أهل التحقيق الذين تشربوا قيم المحبة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله العطرة.

  واشترط الصوفية كذلك في المحبة أن يطبعها التواضع والتحلي بالقيم الفضلى، والتخلي عن الأمراض الباطنية؛ كالعجب والكبر والرياء والكراهية والحقد والضغينة… لأنّ هذه الأمراض تمنع فعل الخير، فإذا تطهر القلب تجوهر بأنوار معرفة الله وأصبح منبعاً للخير والمحبة والتعاون والرّحمة وما إلى ذلك من مكارم الأخلاق وحسن الصفاة.

أدلة وجوب حب الخير للخلق أجمع في القرآن الكريم

   يزخر القرآن الكريم بجملة من الآيات التي تحث على فعل الخير وتبين فضله وما يترتب عليه من الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله تعالى. ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّـهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة البقرة، آية: 148].

وقوله جلت قدرته: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). [سورة آل عمران، آية: 104].

 وقال تقدست أسماؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). [سورة الحج، آية: 77].

 وقال جلت قدرته: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَـٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ). [سورة آل عمران، آية: 133-136].

 وقال تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ). [سورة الأنبياء، آية: 89-90].

أدلة النهي والتحدير من ترك فعل الخير والامتناع عنه

  وبالمقابل حذر الله تعالى من المناعين من فعل الخير ومحبة الخير للناس ومن ذلك قوله تعالى: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ). [سورة ق، آية: 24-25].

وقال جلت قدرته: (مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ). [سورة القلم، آية: 12].

وقال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). [سورة المعارج، آية: 21].

أحاديث نبوية عن حب الخير للخلق أجمع

    لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى والقدوة الحسنة في قيم التعاون ومحبة الخير للناس سواء كان هذا التعاون يخص عائلته أو أصحابه أومجتمعه الذي يعيش فيه، وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة حول أهمية محبة الخير للناس وكراهية الشر لهم ومن ذلك:    ما أخرجه الامام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا. ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض. وكونوا، عباد الله! إخواناً. المسلم أخو المسلم. لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره. التقوى ههنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام. دمه وماله وعرضه) [4]، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم، قال: (المؤمن لِلْمؤْمن كالبُنْيان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضاً، ثُمَّ شَبّك بين أَصابعه)[5]، قال ابن بطال في شرح الحديث: (تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً في أمور الدنيا والآخرة مندوب إليه بهذا الحديث، وذلك من مكارم الأخلاق) [6]. وعَنْ أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكَنْ قَنِعاً تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحْسِنْ مُجَاوَرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً) [7]. وروى الامام أحمد بن حنبل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنّه سأل النّبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان؟ فقال: (أفضل الإيمان أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله، قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: أن تحب للنّاس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، وأن تقول خيراً أو تصمت)[8].

   وقد بشَّر النّبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة الكِرام بالجنة ثلاث مرات، وعندما سُئل عن سبب هذه البشارات قال: (إِنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي غِلًّا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَحْسُدُهُ عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ) [9]. ومُعظم ما أشارت إليه الأحاديث النبوية الشريفة تصب في كون محبة الخير للناس من علامات كمال الإيمان، ولا تنبع هذه الخصال الطاهرة إلا من قلب خالص بلغ درجة الاحسان، فمحبة الخير لناس تظهر علاماتها عندما يتعامل الانسان مع أقرانه بمحبة صادقة يحبهم ويحبونه ويخفف عنهم مصيبتهم في وقت الشدة ويفرح معهم في وقت فرحهم، ويقدم لهم ما يحتاجون إليه عند الحاجة، أما كراهية النّاس وبغضهم والقسوة عليهم، فكل هذه الصفات تتنافى مع مبادئ التصوف وقيمه وأسسه الاخلاقية.

مقاصد التربية الصوفية في مجال الاحسان إلى الناس وحب الخير لهم

   التربية على القيم الحميدة المقتبسة من مشكاة النبوة الداعية إلى فعل الخير والتضامن والتكافل ومحبة النّاس، وعدم كراهيتهم، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [سورة فصلت، الآية: 34].

  التربية على قيم التدين الوسطي المعتدل والاحساس بالآخر وتبادل المنافع لما فيه الخير للناس قاطبة، والعيش المشترك ونبذ الكراهية، وجعل التقوى وحسن المعاملة هي الأساس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).[سورة الحجرات، الآية: 13]. وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى..) [10].

  التربية على المحبة والمودة والأخوة مصداقاً لقوله تعالى: (وَالْمُومِنُونَ وَالْمُومِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [سورة التوبة، الآية: 71]، وقال عز وجل (إِنَّمَا الْمُومِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [سورة الحجرات، الآية: 10].

  خلاصة القول في هذا المضمار أنّ مفهوم محبة الخير للناس يسجل حضوره بقوة في عمق التجربة الصوفية التي تتمر جملة من التمرات والقيم الفضلى، ومن جملة هذه التمرات محبة الخير للناس، وترسيخ قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، وهذا يُعتبر أحد المبادئ الأساسية في الشريعة الاسلامية.

—————

  1. الجامع لأحكام القرآن، المؤلف: للقرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384 هـ-1924م.
  2. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، ج: 4، ص: 980. رقم الحديث: 2564.
  3. صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، ج: 1، ص: 35. رقم الحديث: 54.
  4. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، ج: 4، ص: 986، رقم الحديث: 2564.
  5. صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً، ج: 8، ص: 12، رقم الحديث: 6023.
  6. شرح صحيح البخاري لابن بطال، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، دار النشر: مكتبة الرشد – السعودية، الرياض، الطبعة: الثانية، 1423هـ -2003م.ج: 9، ص: 227.
  7. مكارم الأخلاق ومعاليها ومحمود طرائقها، أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن سهل بن شاكر الخرائطي السامري، تقديم وتحقيق: أيمن عبد الجابر البحيري، الناشر: دار الآفاق العربية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1419هـ -1999م. باب ما جاء في حفظ الجار وحسن مجاورته من الفضل، ص: 93. رقم الحديث: 242.
  8. مسند أحمد بن حنبل، تتمة مسند الأنصار، حديث معاذ بن جبل، ص: 445، ج: 36، رقم الحديث: 22130.
  9. السنن الكبرى، للنسائي، حققه وخرج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، (بمساعدة مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة)، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم له: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ-2001م. كتاب عمل اليوم والليلة، ج: 9، ص: 318، رقم الحديث: 10633.
  10. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ج: 4، ص: 99 رقم الحديث: 2586.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق