مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

تَناسُق الصرف والمُعْجَم

مِن علاماتِ التناسُق المَنطقيّ في اللغة العربيّة الفصيحَة أنّكَ لا تَكادُ تَجدُ أفعالاً مثلَ: امْتَلَكَ وافْتَقَدَ على وزن افْتَعَلَ بمَعْنى فَعَلَ؛ لأنّ وزنَ افتعَلَ يدلُّ على الاتّخاذِ وجَعْلِ الشّيءِ للنفْسِ؛ فإذا قُلتَ: امْتلكَ فكأنّك قلتَ اتّخذ مِلْكاً، وحُروفُ الزيادةِ في الفعل “مَلَكَ” لَم تَزدْ على معنى المُجرَّدِ “مَلَكَ” مَعْنىً جديداً؛ فزيادة الألف والتاء لا يُقابلُها زيادة في المَعنى، فالزيادَة في الصيغَة الصرفيّةِ حَشوٌ.

وكذلكَ “افْتَقَدَ” لا مَعْنى للزيادَة التي تُفيدُ الاتِّخاذَ، فلا مَعنى لاتخاذِ الفَقْد؛ لأنّ الفعلَ “فَقَدَ” كافٍ بصيغته الثلاثية المُجرَّدة ليدلَّ على مَعنى “عَدِمَ الشَّيءَ”، نَعَم نقولُ: تَفقَّدَ إذا بَحَثَ عَن الشيءِ أو طَلَبَه فلَم يجدْه، ففيه مَعْنى زائدٌ على الفَقْد وهو البحثُ وعدمُ الوجدان.

وسَببُ قلّةِ هذه الأفعالِ المَزيدَة المَبنيةِ على أوزانِ الاتّخاذِ: تَعارُضُ الدّلالَة المُعجميّة في الفعل والدّلالَة الصرفيّة في الصيغَة أو الوزن، فكلاهُما يدلُّ على المَعنى نَفسه أو قَريبٍ منه، ولا يَجتمعانِ لأنّ اجتماعهُما من بابِ الحَشو.

نَعَم، قَد نجدُ “افتقَدَ” و”امتلَكَ” عند المُحدَثينَ من الشُّعراء وعندَ المُعاصرين من الكُتّاب بمَعنى فَقَدَ ومَلَكَ، ولكنّ استعمالَهُم لهذه الصّيغ الصَّرفيّةِ المُحْدَثَة لا يَدلُّ بالضرورةِ على أنّها من نَسَقِ العربيّة الفَصيحَة الصَّرفيّ والمُعجَميّ، وإن جازَ استعمالُها اليومَ ولم يُنْكَرْ.

وهذا البابُ عَقَدَه في الأصل سيبويه في الكتاب(1)، ثُمَّ نَقَلَه المبرِّدُ عنه في المُقتضَب، ثمَّ نَقَلَه ابنُ جنّيّ، ونقَلَه ابنُ يعيشَ عن ابن جنّيّ في شَرح المُلوكيّ في التصريف (2) إلا ناقلٌ أو ناقلٌ عَن ابن جني الذي نقل عَن سيبويه؛ وأمّا سيبويه فقَد فصَّلَ في المسألة قائلاً: «تقولُ: اشتوى القومُ، أي اتَّخذوا شِواءً (لاحظْ الفرقَ بين شَوى أي أنضَجَ لنفسه أو لغيره، واشتوى اتخذَ لنفسه خاصّةً شواءً). وأما شَويتُ فكقولك: أنْضَجْتُ. وكذلك اخْتبزَ (خَبزَ عامةً واختبز لنفسه خاصَّة)، وخبز واطَّبَخَ وطَبَخَ (طبخ بلا قَيد، واطَّبَخ اتخذَ لنفسه خاصَّةً طبيخاً)، واذَّبحَ وذَبَحَ. فأما ذَبَحَ فبمنزلة قوله قَتَلَه، وأما اذَّبَحَ فبمنزلة اتخذَ لنفسه ذبيحةً.

وقد يُبنى على افتعلَ ما لا يرادُ به شيءٌ من ذلك، كما بَنَوا هذا على أفْعَلْتُ وغَيرِه من الأبنية، وذلك افْتَقَر واشْتَدَّ (تفسيرُ افتَقَرَ واشتدَّ أنّ افتَقَرَ استُغْنيَ به عن فَقُرَ وشَدُدَ، فلَم يُقَلْ فيه إِلا افْتَقَر يَفْتَقِرُ واشتدَّ يشتدُّ، فافتعلَ في هذين الفعلَيْن ليسَ للمُطاوَعَة ولا للاتخاذِ والجَعْل، وإنّما هو للاستغناءِ ببناءٍ عن بناءٍ)، فقالوا هذا كما قالوا اسْتَلَمْتُ، فبنَوْه على افتَعَلَ كَما بَنوا هذا على أَفْعَلَ. (أما استَلَمَ فهو مأخوذ من “السِّلام” وهي الحِجارَة، ولَيسَ من التسليم كما يُظنُّ، ويُقالُ فيه أيضاً: اسْتَلأَمَ الحَجَرَ، وهو مِن السِّلام وهي الحِجارة وكأَن الأَصل اسْتَلمْتُ، تَقول اسْتَلَمْتُ الحجر إِذا لَمَسْتَه، مِن السِّلام، كَما تقولُ اكْتَحَلْتُ من الكُحْلِ).

وأما كَسَبَ مَعناه كما ذكَرَ سيبويه: أصابَ (كَسَبَ حسنةً أو كَسَبَ سيئةً أو كسَبَ مالاً)، وأمّا اكْتَسَب ففيه مَعنى التّصرف والطّلب والاتّخاذ والاجتهاد. ومثلُه ضرَبَ واضطرَبَ فهما مُختلفان بناءً ومَعْنىً)

وأما قولك: حبسته فبمنزلة قولك: ضَبطتُه، وأما احتبستُه فقولك: اتَّخذته حَبيساً، كأنه مثل شَوى واشْتَوى. وقالوا: ادَّخَلوا واتَّلجوا (أصلُه اوْتَلَجوا)، يريدون يَتَدَخَّلون ويَتَوَلَّجون. (أيضاً اختلفَ ادَّخَلَ ودَخَلَ لاختلاف البناء والمَعْنى مَعاً، فدَخَلَ بمعنى ولَجَ مُجرَّداً عن كلِّ قيدٍ أو إضافةٍ إلى المعنى، وادَّخَلَ بمعنى تدخَّلَ في الأمر بإرادَة، وفي قوله تعالى: « لَو يَجدونَ ملجأً أومَغاراتٍ أومُدَّخَلاً لَولَّوْا إليه وهُمْ يَجْمَحونَ» والمُدَّخَل مُفْتَعَل اسم مكان للإدّخال والفعلُ منه ادَّخَلَ، أي دَخَلَ مَكاناً بغايةِ العُسر والصُّعوبَة لضيقِه أو لمانعٍ في طَريقِه أو لأنّ قوماً يداخلونَه وإن كانوا خُصوماً أو أعداءً أو مُنافِسينَ، وفيه افتعال الدُّخول والمبالغةُ في اتِّخاذِه)

وقالوا: قرأت واقترأت، يريدون شيئاً واحداً، (لَمْ يُسمَعْ اقْترأَ وإنَّما سُمعَ اسْتَقرأَ يَستقرئُ طَلَبَ من غيرِه أن يقرأ لَه).

ومثله خطف واختطف ونَزَع وانتزع وسَلَبَ واستلَبَ وقَلَعَ واقْتلَعَ وجَذبَ اجتَذبَ، فالفرقُ بين البناءَيْن أنَّ افْتَعَل اتَّخَذ الشيءَ المَعمولَ لنفسه دون غيره.

أمّأ الفعلُ اكْتالَ فليسَ مثل كالَ في المعنى؛ اكتالَ افتعالٌ من الكَيْل، ويُستعمَلُ في تَسلُّم ما يُكالُ كَما يُقالُ: ابْتاعَ، وارتَهنَ، واشتَرى، أيْ أخذَ المَبيعَ وأخذَ الشيءَ المَرهونَ وأخذَ السلعةَ المُشتراةَ، فهو مُطاوعُ كالَ، كما أن ابتاعَ مُطاوِعُ باعَ، وارْتَهنَ مُطاوعُ رَهَنَ، واشترى مُطاوعُ شَرَى، قال تعالى: «فأرسِلْ مَعانا أخانا نَكْتَلْ» أي نأخذْ طَعاماً مَكيلاً، ثُمّ تُنوسِيَ فيه مَعْنى المُطاوَعَة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظُرْ: باب موضع “افتعلْتُ” : الكتاب، لسيبَويه (ت.180هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون

نشر مكتبة الخانجي، القاهرةن ط.3، 1408هـ-1988م، ج:4، ص: 73-74-75.

(2) شرح المُلوكي في التصريف، لابن يَعيش (ت.643ه)، تحقيق د. فخر الدين قباوة، المكتبة العربية بحَلَب، 193-1973، ص: 80-81-82)

Science

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هذا البحث مبني على توهّم أن صيغة (افتعل) موضوعة للاتخاذ فحسب، والمتأمل لهذه الصيغة في العربية يجد أن لها عدة معان كــ : الاجتهاد والطلب والتشارك والمطاوعة والمبالغة والإظهار. والأمثلة الواردة هنا لا تخرج عن هذه المعاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق