مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

تقريب دلالة الانتساب إلى المذهب الأشعري

ثانيا: دواعي الانتساب إلى مذهب الإمام الأشعري في العقيدة

إن انتساب كثير من علماء الأمة إلى مذهب الإمام الأشعري في العقيدة مردُّه إلى وسطيته –رحمه الله- في التعامل مع النصوص الشرعية العقدية بما يحفظ منزلتها وقدسيتها، وبما يُقدّر ملكة العقل التي كرّم الله جل وعلا بها الإنسان وحثّه على إعمالها على النحو الصحيح، لينآى عن التقليد الرديء، ومدح المتعقِّلين المتمكنين من حسن استثمارها، وآي القرآن الكريم يعسر حصرها في هذا الشأن، من ذلك قوله تعالى:

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الاَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ* رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[11].

     ومن ذلك كذلك قوله جل وعلا: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ اِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾[12]، فدلّت الآية عقلاً على استحالة تقدير إلهين مدبّرين لنظام الكون، ولو قُدّر ذلك لَفسد هذا النظام ولَاخْتلّ، وهذه الآية الكريمة عُمدة الأشاعرة في صياغة دليل التمانع لإثبات وحدانية الباري تعالى.

وبذلك تعلم أنّ السادة الأشاعرة إنما نهلوا من عين الشريعة ناشدين إقامة البراهين والحُجج اليقينية لتحصين مُعتقد السّلف، وتذليل عقبات تعقُّل مضامينه وإكساب القدرة على الذَّبّ عنه في سياق فكري يُنتَصر فيه للمثبتات والمفحمات العقلية، وهو ما تنشّأ عنه استعمال اصطلاحات جديدة بقصد الإفهام على غرار ما أُحدث للغرض نفسه في سائر العلوم الشرعية كأصول الفقه وعلم الحديث وهلم جرّاً.. وفي هذا السياق يقول الإمام السّنوسي: “…فجميع ما تعرَّض له أهل الحق من الأدلة، وقرّروه في كتبهم نقطة من بحر ما ذُكِر من ذلك في القرآن العظيم، غاية الأمر أنهم بدّلوا العبارة، ووضعوا ألفاظاً اصطلحوا عليها لقصد التّقريب تعلُّماً وتعليماً، وذلك لا حَجْر فيه في جميع العلوم باتّفاق العلماء المعتدّ برأيهم”[13]. وقال العلامة الحسن اليوسي: “…فإذا تفهّت ما أشرنا إليه، وتبصّرت ما نبهناك عليه، علمتَ أنّ التوصُّل إلى الحقِّ بكل ما أمكن سُنَّة فعلها كُلٌّ من الخلفاء رضي الله عنهم، بل وكُلُّ الصحابة، ولم يخطر ببالك أن يكون وجه لتحريم شيء من هذه العلوم، ولا أن يُقال إنه مذموم، إذ هي كلها وسائل إلى المقصود وحائمة على الوِرد المورُود…[14].

وقد أسفر منهج الإمام الأشعري الذي يروم تحقيق التكامل والتعاضد بين النقل والعقل عن مواقفه العقدية التي توسطت آراء الفِرق المتطرفة؛ من ذلك توسطه –رحمه الله- بين الجهمية[15] القائلين: إن العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء، وبين المعتزلة القائلين: إن العبد قادر على الإحداث والكسب معاً.  فسلك الإمام الأشعري طريقاً بينهما فقال: العبد لا يقدر على الإحداث ويقدر على الكسب، فنَفَى قدرة الإحداث وأثبت قُدرة الكسب[16].

وقالت الحشوية[17] المشبهة: إن الله سبحانه وتعالى يُرى مُكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات. وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية[18]: إنه سبحانه لا يُرى بحال من الأحوال. فسلك الإمام الأشعري -رضي الله عنه- طريقاً بينهما فقال: يُرى من غير حُلُول ولا حُدُود ولا تَكْيِيف، كما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مُكيّف، فكذلك نراه وهو غير محدود ولا مكيّف[19].

وقالت النجارية: إن الباري سبحانه بكل مكان من غير حُلُول ولا جهة. وقالت الحشوية والمجَسِّمة: إنه حالٌّ في العرش وأنّ العرش مكان له وهو جالس عليه. فسلك الإمام الأشعري طريقا بينهما فقال: كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج إلى مكان، وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه.

وقالت المعتزلة: كلامُ الله مخلُوق مُختَرَعٌ مُبتَدَعٌ، وقالت الحشوية المجسمة: الحروف المقطعة والأجسام التي يكتب عليها والألوان التي يكتب بها وما بين الدفتين كلها قديمة أزلية، فسلك الإمام الأشعري طريقة بينهما فقال: القرآن كلام الله قديم غير مغير ولا مخلوق ولا حادث ولا مبتدع، فأما الحروف المقطعة والأجسام والألوان والأصوات والمحدودات وكل ما في العالم من المكيفات مخلوق مبتدع مخترع.

وقالت المرجِئَة: من أخلص لله سبحانه وتعالى مرة في إيمانه لا يكفر بارتداد ولا كفر ولا يكتب عليه كبيرة قط، وقالت المعتزلة: إن صاحب الكبيرة مع إيمانه وطاعته مائة سنة لا يخرج من النار قط. فسلك الإمام الأشعري –رحمه الله- طريقة بينهما وقال: المؤمن الموحد الفاسق هو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عاقبه بفسقه ثم أدخله الجنة، فأما عقوبة مؤبدة فلا يجازى بها منفصلة منقطعة[20].

وختاماً:

إن انتساب علماء المغرب على وجه الخصوص إلى مذهب الإمام الأشعري في العقيدة لم يكن تشهياً أو تبعية عمياء، وإنما عن دراية وتمحيص لكتاباته وآرائه ومواقفه المستندة إلى قواطع المنقول والمعقول، التي تحترم النّص الديني وتقدر العقل الإنساني، وذلك في سياق تاريخي عصيب ظهرت فيه اتجاهات عقدية خطرة؛ يمكن حصرها إجمالا في اتجاه مُغرقٍ في إعمال العقل إلى درجة إهمال النص، وآخر مُغال في العمل بظاهر النص إلى درجة إقصاء العقل.

ولعل ما ذكرناه في هذه الورقات كافٍ لتقريب أبعاد مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري الإفهامية ودلالة الانتساب إليه، وإزالة اللَّبس عن متعلقات ذلك، وشحذ همم الباحثين لبذل مزيد جهود في سبيل تأمين حصن المغاربة العقدي وتأهيله ليصد مختلف محاولات الاختراقات الفكرية المتطرفة التي أضحت رقمية سريعة الوصول إلى هدفها وشديدة الفتك به.

************************************

المصادر المعتمدة:

القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.

  • التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، لأبي المظفر الإسفراييني. تحقيق: كمال يوسف الحوت. عالم الكتب، بيروت- لبنان، ط.1: (1403هـ-1983م).
  • تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، لابن عساكر، دار الفكر، دمشق- سورية، ط.2: 1399هـ.
  • ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض بن موسى السّبتي. تحقيق: علي عمر. مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة- مصر، ط.1: (1430هـ- 2009م).
  • حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي، لأبي المواهب الحسن بن مسعود اليوسي، تحقيق: حميد حماني اليوسي، دار الفرقان، الدار البيضاء، المملكة المغربية، ط.1: 2008.
  • حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي، لأبي المواهب الحسن بن مسعود اليوسي، تحقيق: حميد حماني، مطبعة دار الفرقان، ط.1: 2008.
  • شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، لنشوان الحميري (ت573هـ). تحقيق: د. حسين بن عبد الله العمري، وآخرون. دار الفكر المعاصر، بيروت –لبنان، دار الفكر، دمشق –سوية، ط.1: (1420هـ-1999 م).
  • طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي. تحقيق: محمود محمد الطناحي، و عبد الفتاح محمد الحلو. دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط.2: (1413هـ-1992م).
  • الكليات، لأبي البقاء الكفوي، تحقيق: عدنان درويش ومحمد المصري، نشر مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان.
  • لسان العرب، لمحمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (ت711هـ)، دار صادر – بيروت، ط.1.
  • مختار الصحاح، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر الرازي (ت666هـ)، تحقيق: يوسف الشيخ محمد، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، ط.5: (1420هـ-1999م).
  • مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت395هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل – بيروت، ط.2 : 1420هـ
  • الملل والنحل، لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني تحقيق: محمد سيد كيلاني. دار المعرفة، بيروت- لبنان، ط.2: (1395هـ-1975م).
  • المنهج السديد في شرح كفاية المريد، لأبي عبد الله السنوسي. تحقيق: مصطفى مرزوقي، دار الهدى، عين مليلة –الجزائر.

الهوامش:


[1]– ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض بن موسى السّبتي. تحقيق: علي عمر. مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة- مصر، ط.1: (1430هـ- 2009م). ج.2، ص. 524.

[2] – المصدر نفسه، ج.2، صص. (525-526).

[3] – طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي. تحقيق: محمود محمد الطناحي، و عبد الفتاح محمد الحلو. دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط.2: (1413هـ-1992م). ج.2، ص.365.

[4]– المصدر نفسه، ج.3، ص.365.

[5]– سورة الأنفال، الآية: 17.

[6]– سورة النجم، الآيتان: (33-44).

[7]–  سورة غافر، الآية: 62.

[8] – سورة فاطر، الآية: 3.

[9] – طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين السبكي، ج.2، ص. 227.

[10] – حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي، لأبي المواهب الحسن بن مسعود اليوسي، تحقيق: حميد حماني، مطبعة دار الفرقان، ط.1: 2008، ج.1، ص. 231.

[11]  – سورة آل عمران، الآيتان: 190-191.

[12]  – سورة الأنبياء، الآية: 22.

[13] – المنهج السديد في شرح كفاية المريد، لأبي عبد الله السنوسي. تحقيق: مصطفى مرزوقي، دار الهدى، عين مليلة –الجزائر. ص.71.

[14] – حواشي اليوسي على شرح كبرى السنوسي، لأبي المواهب الحسن بن مسعود اليوسي، ج.1، ص. 278.

[15]– هم أتباع جهم بن صفوان (ت128هـ)، وكان من مذهبه أن لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم فإنهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال، وأن كل من نسب فعلا إلى أحد غير الله فسبيله سبيل المجاز، وهو بمنزلة قول القائل سقط الجدار، ودارت الرحى، وجرى الماء، وانخسفت الشمس. انظر: التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، لأبي المظفر الإسفراييني، ص 107.

[16]– تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، لابن عساكر، دار الفكر، دمشق- سورية، ط.2: 1399ه، ص. 149.

[17]– هو وصف يُطلقه المتكلمون على كل من يتمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة في العقل، فيفضي به ذلك إلى الوقوع في التشبيه والتجسيم والجهة عملاً بظواهر النصوص. انظر: الملل والنحل، لمحمد بن عبد الكريم الشهرستاني،ج.1، ص. 105. الكليات، لأبي البقاء الكفوي، ص 766.

[18] – هُم أَتبَاع الحُسَين بن مُحَمّد النّجار، وهؤلاء يوافقون أهل السّنة فِي بعض أصولهم مثل: خلق الأفعال والاستطاعة والإرادة وأبواب الْوَعيد. ويوافقون القَدَرِيَّة فِي بعض الأصول مثل: نفي الرؤية، ونفي الحَيَاة والقدرة، ويقولون بحُدُوث الكلام. انظر: التبصير، ص.101.

[19] – انظر المصدر نفسه، صص. (149-150).

[20] – انظر: تبين كذب المفتري، بتصرف يسير، صص. (150-151).

الصفحة السابقة 1 2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق