مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

تقريب دلالة الانتساب إلى المذهب الأشعري

إن مما اتفقت على إثباته أدلة المنقول والمعقول أنّ صحّة العبادات والمعاملات والسُّلوك مُتوقِّفة على صِحّة الاعتقاد، لذلك اعتُبر علم العقيدة أشرف العلوم وأجلها؛ فشرف العلم بشرف معلومه، ويشرُف المتعلِّق بشرف المتعلَّق، قال الناظم:

أيُّهَا الـمُغْتَدِي لِتَطلُبَ عِلْماً كُلُّ عِلمٍ عَبْدٌ لِعِلْمِ الكَلاَمِ
تَطلُبُ الفِقْهَ كَيْ تُصَحِّحَ حُكْماً ثُمّ أغْفَلْتَ مُنَزِّل الأَحْكَامِ

ومن أبرز من أقامهم الله سبحانه وتعالى في مقام تبيان عقيدة السلف وشرّفهم بالمنافحة عنها السّادة الأشاعرة؛ فسلكوا في سبيل ذلك مسالك منهجية متنوعة؛ تنهل من عين الشريعة، منتهجين نهج الإمام المجتهد المُجدد أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعريّ (ت324هـ).

وممّا يؤسف له في هذا الزمان تأثر طائفة  من الناس بما يُطبع ويُنشر ورقيّاً ورقميّاً،  وبما يُبثّ في بعض (المنابر الإعلامية) من افتراءات عن العقيدة الأشعرية حتى أضحى المنتسبُ إلى الإمام الأشعري مُبتدعاً فاسد العقيدة في نظر ضحايا هذه السُّموم الفكريّة التي جرّدت الإنسان من فطرته السليمة التي تميل إلى التسامح والوسطية والاعتدال، وحب الخير للناس، وتجتوي التباغض، والغلو والتطرّف.

ومنشأ الوقوع ضحية هذا التضليل التسليم لمن لا يُعتَدّ بعلمه وتقليدُه، وكذا ضعف إقبال الناس على المطالعة وتحصيل العلوم، فمن قلّ علمه سَهُل انقيادُه، ومن قلّ علمه كثرت اعتراضاته وفسد تصوّره، والحكم على الشيء فرع عن تصوّره.

وعليه، يحاول هذا العرض رتق هذا الفتق الخطر الذي فرّق الأمة الإسلامية، وجعل الدهماء من الناس يسيئون إلى علمائهم وينقصون من أقدارهم، وذلك بتصحيح تصور الانتساب إلى مذهب الإمام أبي الحسن الأشعري في العقيدة؛ الانتساب الذي شرف به غير واحد من أئمة الإسلام كالقاضي عياض المالكي، والعز بن عبد السلام الشافعي، وجمال الدين الحصيري الحنفي، وابن عادل الحنبلي. وكذا بتبيان دواعي اختيار جمهور علماء المسلمين الانتساب إلى مذهبه، لتتضح للمُتلقِّي أهمية المذهب الأشعري في ترسيخ مُعتَقَد السّلف والذّود عنه وضمان وحدة الأمة الإسلامية، فيتبيّن بذلك جدوى الانتساب إليه على غرار الانتساب في العمليّات إلى المذاهب الفقهية المشهورة.

أولاً- دلالة الانتساب إلى المذهب الأشعري وبيان اعتزاز جهابذة من العلماء بذلك

المراد بالانتساب إلى المذهب الأشعري في اصطلاح علماء الشريعة؛ الانتماء إلى طريقة الإمام أبي الحسن الأشعري في إثبات عقيدة السّلف والذّبِّ عنها، فهو لم يُنشئ مُعتقَداً جديداً، وكذلك المنتسبون إلى مذهبه، فهم بمثابة المنتسبين في الفروع إلى الإمام أبي حنيفة أو الإمام  مالك أو الإمام الشافعيّ أو الإمام أحمد.

وإذا رجعت إلى مُصنفات كثير من الأعلام ألفيتها طافحةً بما قرّرناه؛ فمن ذلك قول القاضي عياض (ت 544هـ): “وصنّف–أي الإمام أبو الحسن الأشعري- لأهل السنّة التصانيف، وأقام الحُجَج على إثبات السُّنة، وما نفاه أهل البدع من صفات الله تعالى، ورؤيته، وقِدَم كلامه، وقُدرته، وأمور السّمع الواردة؛ من الصراط، والميزان، والشفاعة، والحوض، وفتنة القبر التي نفت المعتزلة، وغيرِ ذلك من مذاهب أهل السُّنّة والحديث، فأقام الحُجج الواضحة عليها من الكتاب والسّنّة، والدّلائل الواضحة العقليّة، ودفع شُبهة المبتدعة ومَن بعدهم مِن المُلحِدة والرافضة، وصنّف في ذلك التصانيف المبسوطة التي نفع الله بها الأمة…”[1].

ثم قال –رحمه الله- : “…فلمّا كثُرت تواليفُه –أي الإمام أبو الحسن الأشعري-  وانتُفِع بقوله، وظهر لأهل الحديث والفقه ذبّه عن السُّنَنِ والدّين، تَعلَّقَ بكُتُبه أهلُ السُّنّة، وأخذوا عنه، ودرسوا عليه، وتفقّهوا في طريقه، وكثُر طلبته وأتباعه لِتَعلُّم تلك الطُّرق في الذّبّ عن السُّنة، وبَسطِ الحُجج والأدلّة في نَصْرِ المِلَّة، فسُمُّوا بِاسْمِه، وتلاهم أتباعُهم وطلبتُهم، فعُرِفوا بذلك، وإنّما كانوا يُعرَفون قبل ذلك بالمُثبِتة؛ سِمةٌ عرّفتهم بها المعتزلة، إذ أثبتُوا من السُّنّة والشّرع ما نفوه.

فبهذه السِّمة أولا كان يُعرَف أئمة الذَّب عن السُّنّة مِن أهل الحديث، كالمُحاسِبيّ، وابنِ كُلاّب، وعبدِ العزيز بن عبد الملك المكيّ، والكَرَابِيسِيّ، إلى أن جاء أبو الحسن وأشهر نفسَه فنُسِب طلبتُه والمتفقّهةُ عليه في علمه بِنَسَبه، كما نُسِب أصحابُ الشافعيّ إلى نسبه، وأصحابُ مالكٍ وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة إلى أسماء أئمتهم الذين درسوا كُتُبهم، وتفقّهوا بطرقهم في الشريعة، وهم لم يُحْدِثُوا فيها ما ليس منها.

فكذلك أبو الحسن، فأهل السُّنة من أهل المشرق والمغرب بحُججه يحتجون، وعلى مناهجه يذهبون، وقد أثنى عليه غيرُ واحد منهم، وأثنوا على مذهبه وطريقه”[2].

ومن ذلك كذلك قول الإمام تاج الدين السُّبكي (ت771هـ): “اعلم أن أبا الحسن لم يُبدع رأيا، ولم يُنشئ مذهباً، وإنّما هو مُقرِّر لمذاهب السلف، مُناضلٌ عمّا كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتِساب إليه إنّما هو باعتبار أنّه عَقَد على طريق السَّلف نِطاقاً وتمسَّك به، وأقام الحُجَج والبراهين عليه فصار المُقتدي به في ذلك السّالكُ سبيلَه في الدّلائل يُسمَّى أشعريّاً”[3].

ثم قال –رحمه الله- : “وقد ذكر الشيخ شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام (ت660هـ) أن عقيدته اجتمع عليها الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة، ووافقه على ذلك من أهل عصره شيخ المالكية في زمانه أبو عمرو بن الحاجب (ت646هـ)، وشيخ الحنفية جمال الدين الحَصِيريّ (ت636ه)”[4].

وقال متعجّباً ممّن يذمون الإمام الأشعريّ وموضّحاً منهجه التقريبيّ المنتهِل من كلام الله تعالى : “والعجب أنهم يذمون الأشعريَّ بقوله: إنّ الخبزَ لا يُشبِع، والماءَ لا يَروِي، والنّارَ لا تُحرق، وهذا كلام أنزل الله معناه في كتابه؛ فإن الشِّبَع والرّيَّ والإحراق حوادث انفرد الربّ بخلقها، فلم يخلُق الخبزُ الشِّبعَ، ولم يخلُق الماءُ الرِّيّ، ولم تَخلُقِ النّارُ الإحراقَ، وإن كانت أسباباً في ذلك فالخالق هو المسبِّب دون السّبب كما قال تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ﴾[5]، نفى أن يكون رسوله خالقاً للرّمي وإن كان سبباً فيه، وقد قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ* وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾[6] فاقتطع الإضحاك والإبكاء، والإماتة والإحياء عن أسبابها وأضافها إليه، فكذلك اقتطع الأشعري رحمه الله الشِّبَع والرِّيّ والإحراق عن أسبابها وأضافها إلى خالقها لقوله تعالى: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[7]، وقوله سبحانه: ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾[8][9].

فتحصل من ذلك أن الإمام أبا الحسن الأشعري –رحمه الله- اجتهد في  إقامة الحُجَجِ القطعيّة من القرآن والسُّنّة، ونصب الدلائلِ العقليّة المفحمة من أجل إثبات عقيدة السَّلَف الصّالح، والمنافحة عنها ودفع شبهات المخالِفين، فبلغت رئاسته في هذا الشأن الآفاق فكثر طلبته وأتباعه فنُسِبوا إليه –رحمه الله- وهي نِسبَة شريفة، على شاكلة النِّسبة إلى أحد أئمة المذاهب الفقهية المشهورة، وجميع هؤلاء الأئمة لم يُحْدِثوا في الشريعة ما ليس منها.

واستمرّت صولة مذهب الإمام الأشعري واجتمع على طريقته كبار علماء المذاهب الفقهية بالمشرق والمغرب واعتز بذلك غير واحد منهم، وكفى بمقالة  أبي المواهب الحسن بن مسعود اليوسي (ت1102هـ) خرّيج المدرسة المغربية الأصيلة حجة؛ إذ قال رحمه الله: “…ولا خفاء أن بقاء طريق الأشاعرة إلى آخر الدهر، واضمحلال غيرها من الطرق من أقوى الأمارات على أنها الحق، وأنها التي عليها النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثبّتنا الله عليها حالا ومآلا وجميع المؤمنين بها بمنه ورأفته”[10].

1 2الصفحة التالية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق