وحدة الإحياءدراسات عامة

المعرفة الصوفية والتأويل: المرجعية، النسق، والسياق

حين اخترت هذا العنوان كنت أطمح في دراسة هذين الموضوعين، المعرفة الصوفية أعني والتأويل، بالتركيز على ثلاثة من أهم روَّاد التصوف الإسلاميّ: الحلاج في طواسينه، والنِّفَّري في مواقفِه ومُخاطباته، وابن عربي في فصوص حِكَمِه وفتوحاته. هذا بالإضافة إلى التقاطعات الكبرى التي تصلهم أو تفصلهم عن صوفية آخرين.

وأذكر أنني كنت أتحدث يوما ما إلى صديق حول جلال الدِّين الرومي، والقصة الشهيرة التي مفادها أن ابن عربي رآه يمشي خلف والده في شوارع دمشق فما كان من الشيخ الأكبر إلَّا أن صرخ قائلا: سبحان الله! محيطٌ يتْبَعُ بُحيرة! فسألني صديقي آنذاك: إذا كان جلال الدين الرومي محيطا، فماذا يكون ابن عربي؟! فأجبته على الفور: ابن عربي مجرَّة! وسبحان الله مَن يدَّعي معرفة بعالَم واحد من عوالم تلك المجرة، فضلا عن إلمامه بكل عوالمها؟! فلقد آمن ابن عربي بالإنسان كونا جامعا لأكمل مجالي الحق، وعدّه خلاصة شريفة لجميع حقائق الوجود بحق، ومن ثم فإن ما صدر عنه لم يكن إلا ترجمة عن الحق الذي أبصر به الأشياء غيبا وشهادة:

إلهي ومولاي تمازَج سرُّكم وسرِّي، يا سُؤلي فعنكم أُترجِمُ

                                  بِكُمْ أُبْصِرُ الأشياءَ غيبًا وشاهِدًا، بكمْ أسْمَعُ النَّجْوَى، بِكُمْ أتكلَّمُ

وأبدأ بالقول:

لقد استغرق المستشرقون، وغيرهم، وقتا طويلا للبحث في التصوف الإسلامي وردِّه إلى أصول غير إسلامية؛ مسيحية ويهودية تارة، وهندية ويونانية تارة أخرى، كما حاول البعض أن يُفسِّر الحياة الباطنية التي يعيشها المتصوفة من دون أن يتفهَّم طبيعة منطِقها الذّاتيِّ وأُسسِها الدّاخلية. ولم يدرك هؤلاء وأولئك أنَّ تلك المعاني لا يبلغها علمُ اللسان، ولا التحصيلُ التاريخيِّ أو الفلسفيِّ، كما أنها لا تُدرَك بالعقل المستدِّل، ولا ترْقى إليها “المعرفةُ التجريبيةُ الحسِّية”. إنَّها معْنًى آخر يقع “وراء الوراء” بحسب تعبير الحلاج. فأفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة، والخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق. والإدراك إلى علم الحقيقة صعبٌ؛ فكيف إلى حقيقة الحقيقة؟!

ولذلك عندما سُئل أبو بكر الشبليِّ عن الفرق بين: لسان العلم، ولسان الحقيقة، أجاب: “لسانُ العلم ما تأدَّى إلينا بواسطة، ولسانُ الحقيقة ما تأدَّى إلينا بلا واسطة”. فالمعنى الصوفيِّ إنما يتحقَّق من حيث كونه يُرى ويُعاش ويُراد عن طريق المحبَّة النَّورانيَّة. وهُنالك يختلط باللحم والدَّم، ويستغْرِقُ الأنفاسَ ويمْتزِجُ بالعبرَات! إنَّه معْنًى آخر يتجاوزُ حدودَ جميع مقولات الفكر؛ إذ مقولاتُه تصِلُ مباشرةً إلى “معنى” العبارة دونَ ما تتضمَّنهُ العبارة.

ومن المعلوم أن التصوف إبان القرنين الثالث والرابع الهجريين أصبح طريقاً للمعرفة بعد أن كان طريقاً للعبادة، فالعارف والصوفي كلاهما تعبيران عن شخصية واحدة تجمع بين صفاء الباطن وزهد في الظاهر؛ وإنما يقال له الصوفي باعتبار تقشفه في الحياة. أما الوصف بالعرفان فلعرفانه الباطني وخُلُوصِه في السير والسلوك إلى الله، ومثابرته في معرفته وقربه إليه. فذاك وصفٌ لظاهر الحال وهذا نعتٌ لصفاء الباطن وعرفانه لمقام الذَّات. يقول الدَّارانِيُّ “إنَّ قلبَ الصوفيِّ يرى الله، وكلُّ ما يرى اللهَ لا يموت”، ويقول النِّفري: “يموت جسم الواقف، ولا يموت قلبُه”، ف   “قلبُ الواقِف على يد الله، وقلبُ العارف على يد المعرفة”.

إنَّ المعنى الصوفيَّ يُفهم عن طريق “القلب” الذي يتم به التواصلُ وراء سائر وسائل الصور والأفكار والانفعالات، والقلب يُعتبَر عندهم عضوا هو محلُ “المعرفة ومحبَّة الله” كما قال ابن عربي، وكلُّ مشاركة وجدانية صامتة مع كلام الله تفوقُ جميع أنواع الخطاب، وكلَّ الطقوس والقواعد المكتوبة من غير أن تتناقض معها، فبهذا الروح يفتحُ الصوفيُّ صدرَه للقرآن. أفلا يضع الوليُّ، بمجرد وجوده، الأشياءَ كافة موضع تساؤل لدى أولئك الذين قصروا حياتهم على هذا العالَم بدل أن يصرفوها إلى الله؟!

وكيف يصل إلى المعرفة من لا يعرف الطريق؟! تروي كتب التصوف أنَّ الكرْخي كان يضع صِمَّتيْنِ من الملح على عينيْه المقروحتيْن كي لا تنام عن ذكر الحبيب! وعلى بُعد مسبحةٍ من جبهته السَّاجدة يقف ابن حنبل بمعية ابن مَعِين، وقد جاءا يستفتيانه في أمور الدُّنيا والدين! يسأله ابن حنبل: يا شيخنا! سمعت بعض المتصوفة يقول: “تردُّدُ الصَّوت بغير حروف يَمْزُجُ الشَّهادَة بالغيب”! فيجيبه الكرخي: البعض وصلوا وباحوا بالفرح فما وصلوا! والبعض وصلوا وناموا على السِّر؛ لأن مثل هذا الفرح لا يُباح به يا أحمد!… وأنا الكرخي أحبه؛ فمن يَدِلُّني على الطريق؟!.. تذكر جيدا أنَّ من دام على الاستقامة ثَبُتَتْ له الكرامة!

لقد كان التصوف في أول عهده يدور حول نقطتين رئيستين: أولاهما؛ أن العكوف على العبادة يورث النفس حقائق روحانية ملكوتية أعلى. وثانيتهما؛ أن ترويض القلوب يفيض على النفس معرفة تنطوي على استعداد الإرادة لتلقي هذه الفوائد. ومن ثمَّفهم يَفترقون عن أهل الكلام والفقهاء والفلاسفة فيما يتعلق بوسيلة المعرفة في استنادهم في معارفهم إلى مشاهداتهم النفسية ووارداتهم القلبية؛ بدلا من الاستدلال وإقامة البرهان العقليّ. فإيمان العارفين، الذي يمثل المرتبة الثالثة في مراتب أهل الإيمان، بحسب حُجَّة الإسلام أبي حامد الغزالي، هو المشاهدة بنور اليقين!

يقول رويم البغداديُّ المتوفَّى 303ﻫ: “قعودُك مع كل طبقة من الناس أسلم من قعودك مع الصوفية، فإن كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق، وطالَب الخلقُ أنفسَهم بظواهر الشَّرع وطالَب هؤلاء أنفسَهم بحقيقة الورع، فمن قعَد معهم وخالفهم في شيء مما يتحقَّقون به نزع الله نور الإيمان من قلبه”!

والإيمان في عرف المتصوفة لا ينفك بحال من الأحوال عن المعرفة، فارتباطهما جزء لا يتجزأ من التقليد الصوفيّ؛ سواءٌ لجهة طرُق اكتساب المعرفة، أو لجهة اعتماد مبدأ التأويل عند تقليب النظر في الآيات القرآنية الكريمة. يقول ابن عطاء في تأويل قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ (التوبة: 125)؛ أي زادتهم معرفة في قلوبهم، ونظرا أَسْقَط عنهم النظرَ إلى ما سواه.

أما فيما يتعلق بتطور المعرفة الصوفية تاريخيا؛ فحتى زمن الحارث المحاسبيّ (ت 243ﻫ)، وذو النون المصري (ت 246ﻫ) وأبو يزيد البِسْطامِيّ (ت 261 أو 264ﻫ) لم تحمل أقوال المتصوفة نسقا معرفيا، أو بالأحرى ما نسميه بلغة الفلسفة اليوم تصوراواضحا وشاملا حول “نظرية المعرفة الصوفية”. والمقصود بنظرية المعرفة هنا ذلك الفرع من فروع الفلسفة الذي يبحث في أصل وبنية وطبيعة ومناهج المعرفة، وتتركَّز موضوعاتها حول محاولة الإجابة على تساؤلات من مثل: كيف تتحقَّق المعرفة، وهل لمعرفتنا حدود، وما درجة موثوقية المعرفة؟ أي أنها إجمالا تفسِّر المعرفة، وتدرس العلاقة بين الذات والموضوع.

ففي أغلب الأقوال التي وقفنا عليها حول المعرفة إلى زمن ذي النون المصري، صاحب أول إسهام حقيقي في نظرية المعرفة الصوفية، عادة ما تقتصر تلك الأقوال على ربط المعرفة ببعض أحوال ومقامات المتصوفة؛ كالتوكُّل والخوف والرجاء والشكر.

لكن مع المحاسبيّ وذي النون والبِسطامي نلاحظ قفزة نوعية فيما يتعلق باهتمام المتصوفة بنظرية المعرفة:

ـ فعند المحاسَبي، كما لاحظ الدكتور رضوان السيد، مصدران للمعرفة: العيانُ المُدْرَكُ بالحواسّ، والخبرُ المنزَّلُ من عند الله. والعقل هو الذي يُوازن ويُقايس ويتوصَّلُ من طريق التفكُّر والاعتبار إلى الحكم الصحيح الناجم عن هذا الاعتبار. والعقل من طريق التدبُّر والتفكُّر والاعتبار هو الذي يضمُ الكونين في سياقٍ واحدٍ يتناول الناحيتين: ناحية التّصرفات الدنيوية، وناحية التشريعات الإلهية”. ومن الواضح أن حديث المحاسبي عن المعرفة هنا ليس صوفيا خالصا؛ وإنما يغلب عليه الطابع الكلامي.

ـ أما ذو النون المصري، فمن أوائل الصوفية الذين أولوا عناية خاصة ببيان “مقامات أهل الولاية”، و”ترتيب أحوالهم”، كما أنه أول من تكلم من الصوفية عن “اسم الله الأعظم” الذي يتعلَّق بذات الله لا بصفاته، فضلا عن أنه كان له رأيٌ خاص في مسائل تدبير العرش للكون، وكان يمزُج في تصوفه بين سلوكين: واحد للعامة، وآخر للخاصة: سواء على مستوى التوحيد، أو التوبة، أو المعرفة.

 وقد نُسب إلى ذي النون أنه كان يعرف اسم الله الأعظم، ولذلك ألح عليه تلميذُه يوسُف بن الحسين الرازي أن يعلّمه إياه، فأبى لكنه أمام إلحاح تلميذه دعاه ذات مرة وأعطاه طبقا عليه غِطَاء كي يُوصِلَهُ إلى صاحب له مُقيم في الجيزة، وكان ذا النون يقيم في الفسطاط، فلم يكد الرازي يبلغ النيل حتى استبدَّ به الفضول، فقد ظن أن ذلك الطبق يحتوي على اسم الله الأعظم، فكشف الغِطاء فإذا بفأرة تَثِبُ منه، فعاد إلى أستاذه مغاضبا يلومه على استهزائه به فأجابه ذو النون: يا أحمق! ائتَمَنتُك على فأرة فلم آمنَك عليها، أتُراني أئتَمِنُك على اسم الله الأعظم؟!

أما فيما يتعلق بالمعرفة؛ فهو يفرَّق بين “المعرفة بالله” من جهة، ومعرفة سائر العلوم التي يتلقاها طلبة العلم على أيدي معلميهم من جهة أخرى. فالمعرفة بالله في رأيه إنما تتأتّى من الله مباشرة من دون واسطة، وقد عبّر عن ذلك بعبارته الشهيرة: “عرفتُ ربي بربّي، ولولا ربي لما عرفتُ ربي”، وسوف يُخصصّ الشيخ الأكبر من بعْدُ رسالة كاملة في شرح هذا المعنى؛ ألا وهي “الرسالة الوجودية”.

فالصوفي بحسبه هو”من إذا نطق أبانَ نطقُه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق”. كما أن العارف برأيه”لا يلزم حالة واحدة؛ إنما يلزم ربَّه في الحالات كلِّها”. ولهذا كان يحذّر مريديه بالقول: “إياك أن تكون بالمعرفة مدَّعيا، أو تكون بالزهد محترفا، أو تكون بالعبادة متعلقا”.

ـ أما البِسطامي، فسئل عن درجة العارف فأجاب: “ليس هناك درجة؛ بل أعلى فائدةُ العارف وجود معروفِه”. وهو يفرِّق في كلامه عن المعرفة بين: العارِف، والعابِد، فيقول: “العابد يعبده بالحال، والعارف الواصل يعبده في الحال”. ويجعل من معرفة الله شرطا ضروريا لصحة العبادة: سئل: بماذا يستعان على العبادة؟ فأجاب: بالله! إن كنت تعرفه! كما يربط المعرفة بالتخلّي والزهد في الدنيا، فيقول: “أدنى ما يجب على العارف: أن يهب له ما قد ملَّكَهُ”. كما أنه يضع المعرفة في منزلة أعلى من العبادة فيقول: “اطلع الله على قلوب أوليائه، فمنهم من لم يكن يصلُح لحمل المعرفة صرفا، فشغلهم بالعبادة”! وسئل عن أهل المعرفة: بماذا نالوا المعرفة؟ فقال: بتضييع ما لهم والوقوف مع ما له.

ويتابع البِسطاميُّ ذا النون في تأكيد أن معرفة الله لا تتم إلا بالله، فيقول: “عرفت الله بالله، وعرفت ما دون الله بنور الله عز وجل”. وسئل: ما علامة العارف؟ فأجاب: “ألا يفْتُر من ذكره، ولا يمل من حقّه، ولا يستأنس بغيره”. كما أن السالك في الطريق يتوهّم حصول الذكر والمعرفة والمحبة والطلب، يقول البِسطامي: “غَلَطْتُ في ابتدائي في أربعة أشياء: توهَّمت أنِّي أذكرُه، وأعْرِفُه، وأُحبُّه، وأطلُبه. فلما انتهيت، رأيتُ ذكرَه سبَق ذِكْري، ومعرفتَهُ تقدَّمتْ معرِفَتِي، ومحبَّته أقدَمُ من محبَّتي، وطلبُه لي [وقع] أولًا حتى طَلَبْتُهُ”.

فالمعرفة بالله عند البِسطامي رأس كل معرفة: “المعرفةُ في ذات الحق جهْلٌ، والعلم في حقيقة المعْرفة حَيْرَة، والإشارة، من المشير، شِرْكٌ في الإشارة، وأبْعَدُ الخلق من الله أكثرُهُم إشارةً إليه”! أمَّا فيما يتعلق بكيفية حصول المعرفة لديه؛ فبعض أقواله تُفيد وقوعها عن طريق “الكسب”؛ أي المجاهدة، فقد سئل: بأي شيء وجدتَ هذه المعرفة؟! فأجاب: “ببطن جائع، وبدن عار”، أما “أشد المحجوبين عن الله فثلاثة: الزاهد بزهده، والعابد بعبادته، والعالِم بعلمه…. [أما] العالِم الذي يكون علمه الله، [ف] يأخذ عنه إذا ما شاء كيف شاء بلا تحفظ ولا كتُبٍ”.

وهو في تفريقه بين الزاهد والعارف يتفق مع ما قاله يحيى بن معاذ: “الزاهد سيَّار، والعارف طيَّار”، يريد بذلك: العارف، في قصده إلى مطلوبه، أسْرَعُ من الزاهد. يقول أبو يزيد: “أشرفتُ على التوحيد في غيبوبة الخلق عن العارف، وغيبوبة العارف عن الخلق”. ويفسّر الجنيد ذلك بالقول: يقول عند إشرافي على التوحيد تحقّق عندي غيبوبة الخلق كلهم عن الله تعالى، وانفراد الله، عز وجل، بكبريائه عن خليقته. ثم قال الجنيد: هذه الألفاظ التي قالها معروفة في إدخال المراد فيما أريد منها.

 ويعقّب الطوسي على ذلك بالقول: فهو وإن كانت عباراته مختلفة، فإن معانيه مُتَّفِقَة، وحقائقه متَّسِقَة. وبيان ذلك ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ (فصّلت: 10) قال: فقالت الملائكة: يا رب! فإن لم تأتك، ما كنت صانعا بهما؟! قال: كنت أسلّط عليهما دابة من دوابي تَبْتَلِعَهُمَا في لُقمة. قالت: يا رب! وأين تلك الدابة؟! قال: في مَرْجٍ من مرُوجي.

قالت: يا رب! وأين ذلك المرْج؟! قال: في غامض علمي. ألا ترى أن في الدابة واللقمة ذهاب السماوات والأرض، وفي المرْج ذهاب الذهاب، وفي الذهاب تنبيهُ قلوب العارفين! فمن شاهد بقلبه ذلك فكيف يشهد نفسَه والملْكَ وجميعَ ما خلق الله تعالى؟!

ـ كما خصَّ الحلاج المعرفة في طواسينه بطاسين الفهم، وبستان المعرفة الذي تحدث فيه عن الحجب الثلاثة: حجاب العالم، وحجاب العقل، وحجاب الشريعة. يقول عن الأول: “لا يجوز لمن يرى غير الله أو يذكر غيره أن يقول عرفتُ الله”، ويقول عن الثاني: “من رامَهُ بالعقل مسترشد.. أسْرَحَهُ في حيرة يلهو”، ويقول في الثالث: “من التمس الحق بنور الإيمان كان كمن طلب الشمس بنور الكواكب”.

ـ أما النفّري في مواقفه ومخاطباته، فقد نظر إلى مفهوم “الوقفة” بوصفه يمثّل بنية معرفية، فـ”الوقفة روح المعرفة، والمعرفة روح العلم، والعلم روح الحياة”.

وأخيرا يميز ابن عربي بين نمطين مختلفين من المعرفة: 1. المعرفة الكسبية، 2. والمعرفة العقلية الاستدلالية. يقول في الفتوحات: “ونحن نعلم أن ثمة علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسّنا، وأن ثمة علما لم نكتسبه بشيء من غير سبب ظاهر. وهي مسألة دقيقة فإن أكثر الناس يتخيلون أن العلوم الحاصلة عن التقوى علومُ وهْب، وليست كذلك. وإنما هي علومٌ مُكتسبة بالتقوى؛ فإن التقوى جعلها الله طريقا إلى حصول هذا العلم فقال: ﴿إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ (الأنفال: 29)، وقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ (البقرة: 281)، كما جعل الفكر الصحيح سببا لحصول العلم لكن بترتيب المقدمات، والعلم الوهْبيُّ لا يحصل عن سبب، بل من لدن الله سبحانه، فاعلم ذلك”.

ولكنه في كتبه المبكرة، كمواقع النجوم مثلا، يرادف ما بين لفظتيْ العلم والمعرفة، فهو لا يعارض تسمية الصوفي بالعالِم متابعا في ذلك أبا طالب المكيّ والتُّسْتَري. لكن لاحقا يطلق على الصوفي لفظة “العارف” كما يطلقها على الله ذاته، ومن ثم يستخدم العلم مكافئا للعقل الاستدلالي، فيما يستخدم المعرفة بوصفها تدل على العلم الإلهي أو حقيقة الحقائق.

ويقسّم ابن عربي المعارف إلى: حسية، وعقلية، وحدْسية أو باطنية. والأخيرة تشكّل لُبّ فلسفته الصوفية. فهو أولا يُسلِّم بإمكانية حصول نوع من المعرفة مخالف لمعرفة العقل الاستدلالي، ذلك هو الإدراك المباشر؛ لا للموضوع الخارجيّ وإنما للحقيقة ذاتها؛ أي معرفة حقائق الأشياء على نحو ما هي عليه بالفعل في مقابل المعرفة الاحتمالية التي تقترن بالعقل وحده.

 وكان الحلاج قد سبقه وأكد على أن العقل الإنساني غير قادر على إدراك كنه الحقائق، فأحكام العقل مجرد أفكار حول النسب، أو العلاقات بين الأشياء، يقول في طاسين الفهم: “أفهام الخلائق لا تتعلق بالحقيقة، والحقيقة لا تليق بالخليقة. الخواطر علائق، وعلائق الخلائق لا تصل إلى الحقائق. والإدراك إلى علم الحقائق صعب؛ فكيف إلى حقيقة الحقيقة؟!”.

فالمعرفة الصادقة تصدر مباشرة من النفس الكلية إلى النفوس الجزئية، أو بلغة الحلاج من النور إلى النور حيث يميز الحلاج بين معرفة الحق ومعرفة الظاهر؛ “فليس للمعرفة طول ولا عرض، ولا تسكن في السماء والأرض، ولا تستقر في الظواهر والبواطن مثلَ السُّنَن والفرْض”.

وقد استخدم المتصوفة لفظة الذوق كتعبير عن هذا النوع من المعرفة، وهو اصطلاح يشير إلى الخبرة المباشرة، وإلى حالة من إدراك الباطن أكثر مما يشير إلى أفعال التعرُّف. يقول الشيخ الأكبر: “علم الأذواق لا عن فكر، وهو العلم الصحيح”. ويمكننا أن نتحدث عن خصائص ثمانية للمعرفة الحدْسية أو الباطنية هي:

  1. أنها معرفة فطرية؛ يكتسبها العقل بفطرته وترجع إلى الفيض الإلهي.
  2. وأنها مجاوزة للعقل؛ بحيث لا يمكن التعويل عليه لامتحان صدقها، فصدق العقل، كما يقول الشيخ الأكبر، صدق عرَضي، ومن ثم لا ينبغي له أن يتدخل في العلم اللدني، ولا أن يحاول تفسيره.
  3. أنها عبارة عن نور يفيض على جوانب قلب الصوفي بعد إزالة الحجُب الملازمة للنفس الحيوانية.
  4. أنها تتحقّق للخواص؛ فليس في مقدور أحد أن يصبح وليا، أو أن يكتسب المعرفة الباطنية بإرادته أو كيفما اتُفق، فكل شيء يستند إلى قدَر الله.
  5. أنها خلافا للمعرفة النظرية التأملية التي غالبا ما تكون احتمالية الصدق؛ يؤدي الحدْس إلى معرفة يقينية. وعلى حين أن المعرفة النظرية لا تُقدّم عن موضوعها إلا ظلَّ الحقيقة؛ فإن المعرفة الحدْسية تكشف عن الحقيقة ذاتها. أما طريقة حصولها فالرؤية المباشرة؛ أي شهود الحقائق.
  6. أنها مطابِقةٌ في أساسها للمعرفة الإلهية، فهي ومعرفة الله معرفة واحدة لأنها مُدْرَكةٌ بالله وفي الله، إنها “معرفتُك به به”
  7. أنها معرفة تفوق الوصف، فالسبيل الوحيد لوصفها هو أن نُفسّرها باستعارات غامضة؛ “فإن الرؤية هنالك لمن يراها”.
  8. أخيرا أنه من خلالها يصل الصوفي إلى معرفة كاملة بطبيعة الحق، فيرى عن طريق التجلي الإلهي كيف يتخلّل الواحِدُ في الكثرة، وكيف يكون التنزيه غيرُ قائمٍ على الاستدلال أو الاستنباط المنطقيّ؛ وإنما على التجربة الوجدانية الحيّة المباشرة.

التأويل

النزعة الصوفية هي استفراغُ الجهد لاستبطان “الوحْي القرآنيِّ” واحتوائه احتواءً داخليا؛ كما أنَّها بشكل ما قطْعٌ للعلاقة مع الفهم الظاهر، وبهذا فإنَّ التصوف يهدي القلب إلى النور الذي يُظهره الله على لسان وليِّه الذي هو محلُّ سرِّ وحدته. فالصوفيةُ لم يحتاجوا إلى التدليل على أنَّ القرآن هو كتابُهم بالمعنى المتعارف عليه في عقائد الملَّة، ولكنهم ابتدأوا به وتمرَّسوا عليه في آياته وحروفه وكلماته، باعتباره مكتوبَ لسانهم الخاص الذي لا نهاية له. يقول التُّسْتَرِيُّ في هذا المعنى: “لو أُعْطِيَ العبدُ لكلِّ حرفٍ من القرآن ألفَ فهْمٍ لما بلغ نهاية ما جعل الله تعالى في آية من كتابه؛ لأنَّه كلام الله تعالى، وكلامُه صِفَتُهُ. وكما أنَّه ليس لله نهاية، فكذلك لا نهايةَ لفهم كلامه، وإنَّما يفهمُون على مقدار ما يَفْتِح الله تعالى على قلوب أوليائه”.

ـ ولهذا كان تأويل المتصوفة لمقام إبراهيم بالقلب حيث “جعل قلبَك مقام المعرفة، ولسانَك مقام الشهادة، وبدنَك مقام الطاعة”.

ـ وكان تأويلهم للصفا والمروة تعبيرا عن الروح وصفاء المعرفة في الأولى، وعن النفس وقيامها بخدمة سيدها.

ـ وكان تأويلهم للحياة في قوله تعالى: ﴿إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24) كتعبير عن الحياة بالله وهي المعرفة، وللبلد في قوله تعالى: ﴿اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا﴾ (إبراهيم: 37) كتعبير عن أفئدة العارفين، وللعباد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ (الحجر: 42) كتعبير عن أن إضافتهم إليه، سبحانه، إنما هو تخصيص في العبودية والمعرفة.

ـ وللتكريم الوارد في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ﴾ (الإسراء: 70)؛ أي بالمعرفة، ول مُدْخَلِ الصدق في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ (الإسراء: 80)؛ أي أدخلني ميدان معرفتك وأخرجني من مشاهدة المعرفة إلى مشاهدة الذات.

ـ  وللتطهير المقصود في قوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ (الحج: 24)؛ أي طهر فؤاد العارفين.

ـ وللعبادة في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)؛ أي ليعرفوني ثم يعبدونني على بساط المعرفة؛ “فالمعرفة معرفتان: معرفة حق، ومعرفة حقيقة. فمعرفة الحق معرفةُ وحْدانيتِه. ومعرفة الحقيقة لا سبيل إليها لامتناع الصمدية وتحقيق الربوبية، يقول تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ (طه: 107)؛ أي لا سبيل إلى المعرفة على الحقيقة”.

لقد أدرك المتصوفة أن إخضاع القرآن للغة التي مقياسها الوضع المحدود، يمثل عقالا له عن الانطلاق فيما وراء الغيوب، وإغلاقا لباب الفهم الذي مقياسه العقل مُدعَّما بإدراكات مجالها ما فوق العقل، وهو القلب الذي لا تُحِدُّه الحدود؛ لأنه عرشُ استواء تجليات الرب على مملكة الجسد: “لم يسعني أرضي ولا سمائي ولكن وَسِعَنِي قلب عبدي المؤمن”. فإذا كانت لغة العقل تُدْرَك بالألفاظ ويُعبَّر عنها بالكلمات، فإن لغة القلب تُدرك بالذوق والإشراق، ويُعبَّر عنها بالرموز والإشارات، “فلكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع”. يقول المحاسبي في معاتبة النفس:

أما ما سألت عنه من معنى قول عبدالله بن مسعود: “لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع؛ “فقد رُوي عن الحسن عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: “يعنى مطلع قوم يعملون به. وقد اختلف العلماء في ذلك وأحسن ما قيل في تفسيره: أما ظهرها فتلاوتها، وأما بطنها فتأويلها، وأما حدُّها فمُنتهى علْمها، وأما مطلعها فمجاوزة حدِّها بالغلو والتعمُّق”.

وينقل السُّلمي في حقائق التفسير عن جعفر الصادق أربعة مراتب للخطاب القرآني: عبارات، وإشارات، ولطائف، وحقائق. وهذه المراتب الخطابية متفاوتة بحسب درجات المتلقين للقرآن، كما أنها مدارج للمتلقي الواحد أثناء معراجه الروحي في كتاب الله تعالى. فالظاهر هو العبارات، والباطن هو الإشارات، والحد هو اللطائف، والمطلع هو الحقائق، وهذه الثنائيات متدرجة من الظهور في العبارة، وهو معناها المعجمي أو الاصطلاحي، إلى الحقائق الخفية التي لا تظهر إلا للأنبياء والأولياء عبر الإشارة. يقول ابن عطاء الله في لطائف المنن:

“اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله سبحانه وتعالى وكلامِ رسوله، عليه السلام، بالمعاني الغريبة ليست إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهومٌ منه ما جُلِبت الآيةُ لهُ ودلَّتْ عليه في عُرف اللسان. وثمَّ أفهامٌ باطنةٌ يَفهم منها الآيةَ والحديثَ مَنْ فتحَ الله عن قلبه. وقد جاء في الحديث: “لكل آية ظهر وبطن” فلا يصُدَّنَك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدلٍ هذا إحالة لكلام الله تعالى وكلام رسوله، ليس ذلك بإحالة؛وانما يكون إحالة لو قال: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لا يقولون ذلك بل يفسرون الظواهر على ظاهرها مُرادًا بها موضوعاتها”.

وكما لاحظ أحد الباحثين بحق، فإنه يُستخلَص من تفريق الصوفية بين المراتب الإشارية في القرآن الكريم أن الإشارات هي التي يفهمونها من أكثر عبارات القرآن وخصوصا الأمثال والقصص، وأن اللطائف أو الرموز إنما تخصُّ الأسماء الإلهية والأحرف المقطعة وفواتح السور، أما الحقائق فتخُصُّ المتشابه. ولهذا التفريق وظائف مقصدية فهي علامات للسالك يقف منها على المقصد الخاص بالمرحلة التي وصل إليها بعد العمل بالأحكام والآداب السابقة عليها والتي كان يفهمها من ظاهر العبارة، ثم يدرك، بعد ذلك، مقاصد عرفانية جديدة، خلُقية ومعرفية، في تدبره الجديد.

إن التأويل الصوفي يمتاز عن غيره بمجموعة من العناصر التالية:

  1. استعمال آلية المقابلة إن على مستوى الشكل أو المضمون.
  2. شدة التناسق بين عناصره وقوة التعالق بينها.
  3. أنه أكثر البنى استثمارا للجهاز الاشتقاقي اللغوي الذي يتوفر على قدر كبير وهائل من المعاني.
  4. تتجلى الخصوصية الإنتاجية للمصطلح الصوفي في قوة التأثير المتعلقة بأهم جانب من جوانب الوجود الإنساني، الجانب الروحي الوجداني، وقوة التوليد اللغوي.
  5. أنه يستثمر القوة التداولية للألفاظ ثم يَرْقَى بها تدريجيا في معارج الدلالة حتى يبلغ بها الغاية في الدقة واللطافة، معوِّلا في ذلك على معين التجرية الروحية الذي لا ينضِبُ، جامعا ما بين الأصول التداولية من جهة، والمعاني التجريبية من جهة أخرى، موظّفا جميع ما تقع يده عليه من الحِكَم والعبر والقصص والأمثال، جامعا بينها وبين القوة القصدية للإشارات؛ أي أنه يجمع ما بين التداول المشترك والتجربة الصوفية، كما يجمع ما بين العمل الاقتدائي والمقصد الإشاري. وينتج عن هذا الجمع المزدوج غَنَاءُ مصطلحاته بقوة تأثيرية لا يكاد يبلغها نظيره الفلسفيّ أو الكلاميّ.

فعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بمفهوم “الوقفة” عند النِّفَّري، نلاحظ أن الاستعارات التي تؤطِّر نسَق “الظَّفَر بالله رُؤيةً” تتوزَّع على ثلاث مجموعات:

المجموعة الأولى؛ هي تلك التي تقدِّم الوقفة على أنها وسيلة للرؤية. (الوقفة نوريةٌ تعرِّف القيمَ وتطمِسُ الخواطر).

المجموعة الثانية؛ هي تلك التي تقدِّم الوقفة على أنها سبب للرؤية. (الوقفة باب الرؤية، فمن كان بها رآني ومن رآني وقف).

المجموعة الثالثة؛ هي تلك التي تجسِّد لنا الوقفة على أنها نتيجة لفعل الرؤية. (لا يرى الحقيقة إلا واقف).

وبموازاة ذلك، هناك ثلاثة فئات تتفاوت في تصارُعِها نحو الظَّفَر بالله، وهم: العالِم، العارِف، الواقِف؛ فـ”العالِم يُخبر عن العِلم، والعارف يُخبر عن المعرفة، والواقِف يُخبر عنِّي”. “أخباري للعارفين، ووجهي للواقفين”، “العلم حجابي، والمعرفة خطابي، والوقفة حضْرتي”، “احترق العلم في المعرفة، واحترقت المعرفة في الوقفة”.

في المقابل من ذلك، هناك مجموعة من التشاكُلات المعنوية التي تمثَّل مفهوم “اللاوقفة”، كقوله: “العلم لا يهْدي إلى المعرفة، والمعرفة لا تهْدي إلى الوقفة، والوقفة لا تهدي إليَّ”، وقوله: “ليس في الواقف واقِفٌ وإلا فلا وقفة، وليس في المعرفة عارف وإلا فلا معرفة”؛ (فالوقفة اتصال وانفصال: الاتصال انتقال من الخارج إلى الدَّاخل يُجسِّد حنين الصوفيِّ في العودة إلى أصله. والانفصال انتقال من الدَّاخل إلى الخارج يعْكِس الرغبة الجامحة في تدمير البنية المعرفية الداخلية للذات البشرية).

التأويل والمعرفة الصوفية بوصفهما تجاوزا وبنية مساءلة

لا يقتصر نظرنا للمعرفة والتأويل الصوفي باعتبارهما ربطا بالتجربة الذاتية للمتصوفة فحسب؛ وإنما يمكننا النظر إليهما أيضا بوصفهما بنية مساءلة لكافة منظومات المعرفة والتآويل الأخرى: العقلية البرهانية، والتجريبية الحسية، والفقهية التشريعية، والبلاغية البيانية…إلخ.

فالمعرفة أو العرفان ثمرة مباشرة للتجربة الصوفية حيث يدرك الصوفي في الحياة الباطنية الحقيقة الوجودية المطلقة ويَعْرِفُها كما هي في ذاتها؛ “فالقلب راحِلٌ لطيِّ المراحل” كما يقول أبو الحسن الششتري. فإذا كانت المعرفة الحسية العقلية تقتصر على معاينة الموضوع المدرَك؛ فإن المعرفة الصوفية تنْفُذُ إلى باطنه بشكل مباشر، بحيث لا تحتاج إلى استدلال، ولا إلى برهان ليؤكدها، “إنها معرفة تنطوي في ذاتها، كما يقول برجسون، على ما يُبررها، إنها عبارة عن وحي مباشر بلا واسطة ولا حجاب؛ بل إنها قوة اللمح الباطني”.

ومن خصائص هذه المعرفة أنها تتغلغل في ثنايا موضوعها وتستوعبه، بحيث تنبُع من الذات العارفة لا من خارجها، وتصبح الذات غير مُخْبِرَة عن الموضوع، والموضوعُ غيرُ مُخْبِر عن ذاته المطلقة إلا من خلال الذات، فالله، فيما يؤكد برجسون أيضا؛ “هو الذي يعمل بها وفيها: فالاتحاد تام ونهائي، إنه فيضُ حياة واندفاعٌ عارم لا يحده حد”. كما أن هذه المعرفة لا يمكن التعبير عنها بلغة عادية، كما لا يمكن ترجمتها بالألفاظ المعتادة إلا بشكل غير مباشر؛ أي بتعبير مجازي رمزي لا يُدرِك معناه إلا من كان على درجة عالية من الوعي الصوفي.

فالمعرفة الصوفية ضرب من التأويل الخاص الذي يستهدف الباطن والعمل على التركيب بين المظاهر المشاهدة والبواطن الغائبة. وهو ما يميز التأويل عند المتصوفة عن غيرهم من المتكلمين والفلاسفة، حيث يقوم التأويل عند الأخيرين على هجر الظاهر من أجل الباطن دون الوعي بما للظاهر من ضرورة لاستجلاء الباطن، ومن ثمة تبقى محاولاتهم في دائرة المعرفة الاحتمالية النسبية والجزئية لا تبرحها. أما التأويل عند المتصوفة فهو ذوقي يدخل في نطاق الشمولية والنظرة الكلية، نطاق الكشف الصوفي الذي يتجسد فيه التأويل والاعتبار على شكل عبور من الظاهر إلى الباطن، ومن الباطن إلى الظاهر في وحدة جدلية وتكامل عرفاني.

والحال أن منهج ابن عربي، على وجه الخصوص، في تأويل القرآن يلفت الانتباه جيدا لهذه النقطة بالذات، حيث يراعي في تأويله لآيات القرآن الخاصة بالتشريع كلا المستويين: الظاهر والباطن؛ “فيشرح المسألة الفقهية وحكمها الشرعي، كما يفعل أهل الظاهر، ثم يعقّب عليها بالإشارة ويُبين أثرَها في القلب”.

على أنه ليس صحيحا، تماما، ما ذهب إليه أبو العلا عفيفي من أن ابن عربي كان ظاهري المذهب في العبادات مع الظاهريين، باطني المذهب مع الباطنيين، لكنه كان إلى الأخيرين أقرب. فابن عربي لا يرفض المستوى الظاهر في النص، بل يُسلّم به لا على مستوى آيات التشريع والعبادات فحسب، بل وعلى مستوى الاعتقاد أيضا. فالمستوى الظاهر هو الأساس الضروري الذي ينبني عليه المعنى الباطنيّ، ولا وجود لهذا المعنى الباطن إلا من خلال هذا الظاهر الذي يُبرزه في إطار اللغة كما يفهمها عامة البشر.

في المقابل، يَخرج الصوفي بالتأويل عن حدود تلك الأطر التجريدية ليربطه بتجربته الذاتية، ومن ثمَّ تكف اللغة الصوفية عن أن تكون تأويلا للنص المقدّس فقط، لتصبح فِعْلا للغوص داخل لغة العالم. بمعنى أن تتسع دائرة التأويل الصوفيِّ بحيث تشمل ما يُطلق عليه الشيخ الأكبر “مفهوم الكتابة الوجودية”، بحيث ينتقل مفهوم الكتابة من حدود الاجتماعي ليعانق الوجود بأكمله! “وهذه الوثبة من الاجتماعي إلى الطبيعي هي التي ستجعل التجربة الصوفية نزوعا نحو تحقيق اللقاء المباشر مع كينونة العالم، مع عمق تلك الكينونة اللانهائي الذي يطابق الصوفية بينه وبين الأنوثة المطلقة”.

وفي الأحوال كلها لم تكف المعرفة الصوفية عن مساءلة أنماط المعارف الأخرى؛ ففي بستان المعرفة للحلاج يتحدث بالسلب عن طرق معرفة الحق عند مختلف الفرق الكلامية والفلسفية. أما ابن سبعين فإنه يقدِّم لنا في “بد العارف” نقدا لنظم المعرفة عند الطالبين للحق ويرتِّبهم في خمسة مراتب مذهبية ممثَّلَةً بخمسة رجال هم: الفقيه، والمتكلم الأشعري، والفيلسوف، والصوفي، والمحقّق. لينتهي بأن المحقّق هو الذي يتحقق بأسنى العلوم وأسمى المعارف، وأن مذهبه يعلو على كل المذاهب. ويُرْجِع ابن سبعين قصور رجال المذاهب الأربعة في الوصول إلى المعرفة الحقّة إلى الأوهام ويحصرها في تسعة: العقول، العلم، القياس، الحدّ، النفس، العادة، الإضافة، الزمان، المكان.

  1. أما نقده لمنهج العلم عند الفقيه، فيستند على اعتماد الفقيه على القياس، على اعتبار أنه “حمْلُ فرعٍ على أصل لعلَّة، وإجراءُ حكم الأصل على الفرع”. ويؤكد ابن سبعين أن فهم الفقيه للنصوص وخوضه في الفروع يجعل علمه “صالح الأصل، فاسد الفرع”، فهو يدّعي أنه “يفهم كلام المرسِل وخبر الرسل”، بينما هو في الحقيقة “يعلِّل دينه ويتمِّمه برأيه واجتهاده، ويدفع اليقين بالجهل ويفعل فعلة أبي جهل، ويحْجُبُ نور الله عن عباده بالفروع المعلَّلة، ويتصرف فيهم بغير الكتب المنزّلَة، ويصد الناس عن رُضَاب الشريعة وريحانها”. ويوجه نصيحته للمريدين قائلا: “فاخرج من سجنه يا أخي، واقطعه كما أقطع الكلام أنا عنه”.
  2. وأما نقده لمنهج العلم عند المتكلمين، فيرتكز على نقد المذهب الأشعري على اعتبار أن المذهب الاعتزالي كان قد استنفذ مهمته فأفلت شمسه! وهو ينتقد منهج الأشاعرة يشدِّد على ادعاءهم توضيح الشريعة مع أن الحق أظهر وأجل وأقهر للمخالف وأعلى وشاهِدٌ لنفسِه ومنصورٌ على خصمه ومُعَظَّمٌ بذاتِه.

 فالأشعري ينهَجُ من أجل بلوغ المعرفة سبُلا من أربعة وجوه: أولها؛ ما يُعلم بالحواس، وثانيها؛ ما يُعلم بالبديهة وهو على الضرورة، وثالثها؛ ما يُعلم بالخبر، ورابعها؛ ما يُعلم بالدليل. وهذا المنهج برأي ابن سبعين فاسد لا يُبَلِّغُ اليقينَ لقيامه على أصول فاسدة تتعلق بالجدل والبراهين الصناعية والخطابية والسفسطية؛ ومن ثمة فإن “علم الأشعرية فاسد الأصل، قبيح الفرع، لا نتيجة له من حيث هو علم. ولا حقيقة له من حيث هو، لو صمت [الأشعري] لكان أخلص له وأليق به”.

  1. وأما نقده لمنهج العلم عند الفلاسفة، فإن الحق لا يدركه الفيلسوف لاعتماده على العقل والمنطق مما يؤدي إلى تهافت نتائجه، فهو “كثير السلاح قليل النِطاح، طويل العُدَّة قصير المدَّة والنَّجدة. ينْعَثُ بحولِه وقوتِه ويشْقى بنفسه وهمَّته ويعْجِن قوتَ قلبه بغير مَلْح ولا ماء، يعلم الحق وينصر ضده، ويحفظ الباطل ويبذُل فيه جَهْدَه، ثم يسفسط بالطبيعة وما بعدها ويُطنطن بين ذلك بالمعاني المنطقية ويُموِّه على المؤمن بالألفاظ الوحشية. ولم يعلم أن المنطق في قوة النفس ولو أن النفس تمشي نحو الصواب، وكان يوافق كلام الناس أفعالهم بالاستقامة العقلية وإيثار الحق والانقياد له ورجوعهم لأنفسهم لأغناهم ذلك عن المنطق”. وهو ينقد أرسطو والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد والسهروردي…إلخ.
  2. وأما نقده منهج العلم عن الصوفية، فبالرغم من أنه ينتمي إلى التصوف، إلا أنه وجه سهام نقده لمنهج المعرفة عندهم حيث تنحصر مناهجهم في بلوغ اليقين بحسبه في ثلاثة أنواع: النوع الأول؛ تكون فيه مقدمات علم الصوفي مأخوذة من الفقه في الأعمال الشرعية، ومن الكلام في المعتقدات، بالإضافة إلى الأحوال الصوفية من توجُّه ومجاهدة وتوكل وتسليم وتفويض ورضا. النوع الثاني؛ هو منهج يقوم على الصدق والأخلاق، واستصحاب الحال، وثبوت القدَم، والتجرد المحض، والتجلي الكلي الموصِّل للكمال. النوع الثالث؛ يكون المنهج الموصِّل فيه إلى الكمال الصوفي قائما على التخلي عن جميع ما عدا الحق والتحلي بذكر الحق ليظفر بالتجلي وهو ظهور الحقيقة كاملة.

وقد وجه سهام نقده لكلا التيارين الرئيسين في التصوف: أصحاب الرسالة القشيرية، خاصة أولو الشطح الذين استعاذ منهم، والمتصوفة الفلاسفة أمثال ابن مسرة وابن برّجان وابن قَسِي وابن عربي، فإذا به يستعيذ بالله من مقصود ابن مسرّة في الحروف، ومن التوحيد على مذهب صاحب خلع النعلين، ومن الأجناس الجامعة في جملة الأسماء ومدلولها في مذهب ابن برّجان، ومن الوصول المنسوب والوقوف بحسب مُتعلّق الأسماء والصفات والمقامات عند النفري…إلخ. ومع أن المحقق المقرّب يستخدم اصطلاحات وعبارات جميع من سبق من الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، إلا أن ذلك من أجل أن يشير إلى ماهية العلم الإلهي؛ أي التحقيق، ويقرّبه إلى المدارك.

في مقابل ذلك يقدم ابن سبعين في “بُدِّ العارف” وصفا تفصيليا لكيفية بلوغ علم التحقيق عن طريق عرضه لأداة العلم، أي المنطق، وفحص إمكانيته في التوصل إلى الحقيقة؛ لينتهي إلى أن ذلك المنطق هو منطق كثرة، والعلم الإلهي لا يمكن بلوغه إلا بمنطق خاص هو منطق الوحدة، منطق المحقّقين المقرّبين. ولهذا يقوم بنقد المنطق الصوري واصفا إياه بالوهم فيما مباحث منطق المحقق “لا تتصورها العقول إلا بالمرشد، ولا تنالها النفوس لا بالجَهْد ولا بالتجلُّد، بل المفيد المتصرف، والنفحات الإلهية، حتى تُبصِر مالا يُبصَر وتَعلم مالا يُعلَم”، ثم يتوجه للمريدين بالقول: “فعليك يا مسكين بالخروج من علمك ومذهبك والدخول في علمه ومذهبه، والكفرِ بحقيقتك ومقصودك، والإيمانِ بحقيقته ومقصوده، والكراهيةِ في الذي بين يديك، والحبِّ في الذي يهديه إليك”.

أما عن التأويل الصوفي، بوصفه تجاوزا وبنية مساءلة للتآويل الآخرى، فيمكن القول: إن تجربة الكتابة الصوفية لم تكن مجرد تساؤل حول لغة الكتابة ومبدأها فقط؛ ولكنها كانت أيضا نقدا لسلطة العقل المؤوِّل المنتِج للثقافة/السلطة الاجتماعية. على أن الكتابة الصوفية لم ترفض العقل كمقولة مطلقة؛ وإنما رفضت طريقة اشتغاله ضمن الحقل الفلسفيِّ والكلاميِّ بصفة خاصة؛ مما يعني “أن رفض الصوفي كان موجها للعقل كإمكانية إِيديولوجية حاولت الكتابة الفلسفية الارتقاء بها إلى مستوى المطلق، وحاولت الكتابات الكلامية رفعها إلى مستوى الحقيقة الدِّينية الكاملة. [ومن ثمّ فإن] ما تستبعده الكتابة الصوفية خلْفَ نزوعها نحو “اللاعقل” [إنما] هو العقل كسلطة للمعرفة والحقيقة. وعلى هذا الأساس ينبغي فهم النزوع اللاعقلاني الصوفيِّ في الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية”.

فالرؤية الصوفية للتأويل، إنما تتأسّس على أساس أن الوجود مكوّن من ثلاثة موجودات هي: العالَم، والقرآن، والإنسان. وأن لهذه الموجودات خاصيتين رئيستين: الأولى؛ أنها متناظرةٌ فيما بينها بحيث أن كلا منها صورة للآخر بحسب صبغته الخاصة. والثانية؛ أنها بمثابة خطاب إلهي يُقصَدُ به الإنسان بما أنه الكائن الوحيد الذي يتمتع بخاصيتين رئيستين: أولاهما؛ أنه “الكلمة الإلهية الجامعة لمعاني الخطابين الآخرين (القرآن والعالَم)، وثانيتهما؛ أنه مزوّد باستعداد خاص لتبيُّن معاني هذين الخطابين وتوصيلها إلى غيره.

ولهذا يميّز ابن عربي في تعريفه للكلام بين نوعين: النوع الأول؛ الكلام الذي في مواد، والثاني؛ الكلام الذي ليس في مواد فيقول: “اعلم أن الكلام على قسمين: كلام في مواد تُسمّى حروفا، وهو على قسمين: إما مرقومة؛ أعني الحروف، وتُسمّى كتابا. أو مُتلفّظ بها، وتُسمّى قولا وكلاما. والنوع الثاني؛ كلام ليس في مواد. فذاك الكلام الذي لا يكون في مواد يُعلم ولا يُقال فيه [أنه] يُفهَم، فيتعلق به العلم من السامع الذي لا يَسمع بآلة، بل يسمع بحقٍّ مجرَّد عن الآلة”.

فالكلام الذي في مواد إما أن يصبح فهما يتحقق فيه اليقين المعرفي حين تحصل المطابقة ويرتبط بالقصدية الخاصة للمتكلم، أو يصبح علما فلا يتحقق معه اليقين المعرفي حيث يرتبط بالقصدية العامة الموضوعية للغة. أو أن يخضع للتأويل؛ أي إلى ما هو احتماليٌّ وظنيٌّ. وفي التأويل الذي يعكس إرادة السامع في فهم الدلالات المحتملة للخطاب: إما أن تحصل المطابقة؛ أي يطابق تأويله قصدية المتكلم فيُسمى عندئذ فهما، أو لا تحصل المطابقة فيُسمى علما.

ومن الكلام ما هو عبارة، ومنه ما هو إشارة: أما العبارة فيجوزُ منها السامع إلى المعنى المقصود أي أنها تخضع للفهم. وأما الإشارة، فهي ذات المشار إليه وتخضع للتأويل. وتنقسم الإشارة التي يقصد منها الوحي إلى أزمنة ثلاثة: زمن الإشارة أو الإيحائية التي تمثل “عين الفهم”، وزمن التلقي الذي يمثل “عين الإفهام”، وأخيرا زمن الاستبطان الذي يمثّل “عين المفهوم منه”. ولطالما ألح المتصوفة على تأكيد أن علومهم إنما تتأتى من الإشارة وليس العبارة؛ “من لم يفهم إشاراتُنا لم تُفِدهُ عباراتنا”، ولهذا ظلت الإشارة مرتبطة عضويا بالتأويل والترميز والتلميح. يقول صاحب إيقاظ الهِمَم “علمنا كله إشارة، فإذا صار عبارة خَفِيَ، أي خفي سرّه وامّحى قصدُه، فإذا صار عبارة بإفصاح اللسان لم يظهر سرّه على الجَنَان”.

ومن ثم فهناك مستويات ثلاثة يمكن التفريق بينها في الخطاب الصوفي ألا وهي: العبارة، والإشارة، والرمز. فالإشارة أرق وأدق من العبارة؛ لأنها تُلَوِّحُ، والرمز أدق من الإشارة؛ لأنه يُفْرِحُ، بينما العبارة تُوضِّحُ.

إذا أهْلُ العبارة ساءلُونا

                                                أجبْنَاهُم بإِعْلَامِ الإِشَارَهْ

نُشيرُ بها فنَجْعَلُها غمُوضًا

                                                    تُقَصَّرُ عنْهُ ترْجَمَةُ العِبَارَهْ

ونشْهَدُها وتَشْهَدُنا سُرورًا

                                                   لهُ في كُلِّ جَارِحَةٍ إِثَارَهْ

ترَى الأقْوالَ في الأحْوَالِ أَسْرَى

                                                   كأسْرِ العارِفينَ ذَوِي الجسَارَهْ

فالعبارة تحجب بمعناها المعجمي المألوف مَن هو غيرُ مهيأٍ لتلقّي الإشارات الإلهية، أما المهيأ فيتجاوز كل معنى متعارف عليه ليشهد حالا من المعرفة اللدنية يستحوذ عليه بكليته: قلبا وعقلا وجارحة. ويفرق الطوسي بين الإشارة والإيماء فالإشارة ما يخفى على المتكلم كشْفُهُ بالعبارة للطافة معناه، فيما الإيماء هو الإشارة بحركة جارحة. وينقل عن الشبلي قوله: ومن أومأ إليه فهو كعابد وثن؛ لأن الإيماء لا يصلح إلا للأوثان!

أُجِلُّكَ أنْ أشْكُوُ الهَوَى مِنْكَ إنَّني             أُجِلُّكَ أن تُومِئ إليكَ الأصابِعُ

وأَصْرِفُ طرْفِي نحْوَ غيْرِكَ صامِدًا           علَى أنَّهُ بِالرَّغْمِ نحْوَكَ راجِعُ

إن فرادة وهامشية وغرابة اللغة الصوفية لا تتأتى فقط من غرابة المعين الذي تمتَح منه فحسب؛ معين ما هو لانهائي ومطلق؛ وإنما تتأتى أيضا من ارتباطها بنقد كل ما هو سائد: لغة، وتأويلا، وإِيديولوجيا اجتماعية. ولهذا وجد المتصوفة في الشعر الرمزي إطارا تبليغيا للتعبير عن جملة أحوالهم، ولهذا أيضا عبّروا عن الحب الإلهي من خلال قالب المحبة الإنسانية العادية.

ففي الشتاء، كما يقول جلال الدين الرومي، تبدو الفروع العارية نائمة؛ لكنها تكون منهمكة، خفية في الشغل؛ استعدادا لربيعها القادم! ولهذا أكدَّ الطُّوسِيُّ أنَّه لا سبيلَ إلى التعلُّق بالأصْوَب ممَّا يهْدِي إليه القرآنُ إلَّا: بالتدبُّر، والتفكُّر، والتيقُّظ، والتذكُّر. وهذا المعنى ينْكشِفُ للمريد والعارف فيما يبتدئونَ به من انكسَارِ القلْبِ (التوْبَة)، وينتهونَ إليه في استكمال طريق الحقِّ والحقيقةِ.

 وفي سبيل الوصول يصْرِفُ السَّالِكُ عمرَه في المجاهدَةِ، كما قال أبو محمَّدٍ الجريريِّ: “مكثتُ عشرينَ سنة لا يخطرُ لي ذِكْرُ الطَّعام حتَّى يحضُر، ومكثتُ عشرينَ سنة أُصلِّي الفجر على طهُور العِشَاء الآخرة، ومكثتُ عشرينَ سنة لا أعْقِدُ مع الله عقدًا؛ مخافةَ أن يكذبنِي على لساني، ومكثتُ عشرينَ سنة لا يَسْمعُ لساني إلَّا من قلْبي، ثمَّ حالتِ الحالُ، فمكثتُ عشرينَ سنة [أخرى] لا يسْمَعُ قلبي إلَّا من لساني”!!

كما ابتدأ التُّسْتَرِيُّ طريقَه في التصوف برُؤية قلْبِه ساجِدًا، فحارَ في تأويل ذلك وتنقَّل في ديار الخلافة إلى أن عثرَ على شيخٍ أجابه عن استفساره بالسؤال: يا أيها الشيخُ! أيسْجُدُ القلْبُ؟!.. إلى الأبد!آنذاك وجدَ في سجودِ قلْبِه معنَى البداية وآفاقَها اللامُتناهِيَةِ في طريق الحقِّ؛ أيْ كلُّ ما يُؤدِّي إلى الحضور التامِّ للقلب الذي ليس فيه سوى الله عز وجل، بحيثُ أجابَ في إحدى المرَّات على سؤال وُجِّه إليه عن “ماهيَّة القُوْتِ” بكلمة:

.. الله!

.. عن الغِذَاء نسْأَلُكَ يا سَهْل!

.. الله!

.. يا سهْلُ! إنَّما نسْأَلُكَ عن قُوْتِ الأجسَام!

.. مالَكَ ولهَا؟ دَعِ الدِّيارَ إلى بانيها؛ إنْ شاءَ عمَّرها وإنْ شاءَ خرَّبها!

 لقد بقِيَ التُّسْتَرِيُّ مُتجانِسًا في إجابته السابقةِ مع حقيقة حضُور القلب الذي لا شيءَ فيه لغير الله عزَّ وجلَّ! هذا الحضُور الذي يُحدِّدُ تعامُلَ الصُّوفيِّ مع الكلام، أو كيفية تأسيسهِ للشريعةِ الوجوديَّةِ (شريعةُ الحقِّ) بالجنَان (القلب). ومن هذه الزاوية يمكننا فهم لغة المتصوفة الخاصة؛ ليس فقط في فهم معاني القرآن الكريم فحسب؛ وإنما في ابتكار واكتشاف المتصوفة لإمكانية قيام معرفة حقيقية باستخدام منطق الإرادة.

لقد مالت الصوفية إلى طلب المعرفة؛ إلا أن نمط هذه المعرفة كان مختلفا عن سائر أنماط المعارف الأخرى دائما؛ إذ هي قبل كلّ شيء معرفة كشفية ذوقية عرفانية، تُكتسَب بالانقطاع عن هذا العالم عن طريق تصفية القلب من الكدُورات وطهارة الباطن.

ومن ثمَّ “لم تكن النزعةُ الصوفية في بادئ الأمر تأمُّلًا فلسفيًّا لاهوتيًّا مثل علم الكلام، كما [أنها] ليستْ تأويلًا للأحلام كما هو الشأن عند فرُويد، ولا هي حكمة مشرقية بالمعنى المعاصر لهذا المصطلح. إنَّ الصوفية هي قبل كلِّ شيءٍ تجربةٌ داخليةٌ، هي نوعُ طريقةٍ في الحياة وفي السلوك. ولما كانتْ (سفرًا قاصِدًا في الأعماق) فإنَّها تُعبِّر (عن رجاءٍ وتطلُّعٍ إلى الآفاق). ويدُلُّ هذا النوع من تقابُل الألفاظ على حركةٍ مزدوجَةٍ للقلوب: الانكِفَاءُ والاسْتِكَانَةُ إلى وحْشَةِ الباطِن”.

وكي يصِلَ المتصوّفُ إلى “وحْشَةِ الباطِن” هذه عليه أنْ يبدأَ طريقَ المريدِيْنَ من أوَّل مقامَاتِه “التَّوْبَة”وما دامَ اللهُ، عزَّ وجلَّ، هو أوّلُ المعرفة؛ فإنَّ آخرها لا حدَّ له، فيما يقولُ أبو بكر الشِّبلِيُّ: “أوَّلُها اللهُ تعالى، وآخرُها مالا نهاية له”؛ فإنَّ الطريقَ إليها طريقٌ إلى الله عزَّ وجلَّ. ومن ثمَّ فليس بإمكان السَّالِكِ أن يصِلَ إلى غايتِه هذه من دون أنْ يقطعَ أشواطًا طويلةً في المجاهدةِ.

ولهذا ردَّ البِسطاميُّ على رجُلٍ طلبَ منهُ القوتَ بعد مرُور يومين من دون زادٍ، بالقول:

.. القوتُ عندَنا الله!

.. يا أستاذ! لا بُدَّ ممَّا لا بُدَّ منهُ!

.. يا غُلَام! لا بُدَّ من الله!

.. يا أستاذ! أريدُ شيئًا يُقِيمُ جِسْمِي في طاعةِ الله!

.. يا غُلَام! إنَّ الأجسامَ لا تقومُ [في طاعة الله] إلا بالله!!

كما تمحور التصوف حول المحبة الإلهية التي وسعت كل شيء، ومن ثمّ كان انهماك السالكين في قطع طريق الوصول إلى المعشوق الأبديِّ تعبيرا أسمى عن الرغبة في التحرُّر من ضروب الرِّق كافة! وحنينا لذاك الجمال الخالد كما رمزوا لذلك بقصة يوسُف وزليخا، بحيث صار كلُّ ما تتفوَّه به يتعلَّق به ويُلَمِّحُ إلى اسمه:

فعندما قالت: “الشمعُ لانَ في النَّار” عنَتْ بذلك: أنَّ الحبيبَ لاطَفَنِي. وعندما قالت: انظروا كيف يُشرِقُ القمرُ هناكَ، وعندما قالت: لقد اخضرَّ غُصْنُ الصَّفْصَاف، وعندما قالت: انظروا كيفَ ترْتَجِفُ الأوْرَاق، وعندما قالت: الخبزُ ينقُصُه الملْحُ، وعندما قالت: السماءُ تجري بعكسِ دورانِها، فإنها كانت تشير إليه! وعندما مدحتْ، دعَتْ ذلك عِناقَهُ، وعندما لامتْ: دعَتْ ذلك فِرَاقًه، وعندما كدَّستْ مئةَ ألف اسمٍ، فإنَّها عنَتْ بذلك يوسُف، ولم تُرِدْ سِواه. ففي الأسماء كلِّها خبَّأتْ اسم حبيبها، فهي، وإنْ كانتْ لا تستطيعُ البلوغَ إلى ذاتِه، فإنَّها تُناشِدُه بالأسْماء كلِّها أنْ يَقْتَرِبْ. وهكذا يصيرُ اسمُ المحبوب الإلهيّ: خُبْزًا في وقْتِ المجاعَةِ، وفروًا في زمَن الشِّتاء. فإنَّه يعْنِي كلَّ شيءٍ؛ إذ هو الطريقُ الذي يُرشِدُ إلى الله.

هيهاتَ في أهْل الحقيقةِ قِلَّةٌ صَعُبَ الطَّريقُ فقلَّ فيه السَّالِكُ.

Science
الوسوم

د. محمد حلمي

المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، بيروت/لبنان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق