مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

القراءة القرآنية حُجَّة الفقيه ومَحجَّة المفسِّـر

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربنا وسلامه على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد

فالفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، [المقدمة الخلدونية (الفصل التاسع، علم الفقه وما يتبعه من الفرائض)]، ثم القراءات وأوجه التلاوة إنما هي علم بكيفيات أداء كلمات القرآن الكريم واختلافها معزوا لناقله، [منجد المقرئين ص 9]، ولذلك وجدنا علماء الكلام وأصول الدين والفقه وغيرهم من طبقات المسلمين يضمِّنون كتبهم مسائل القراءات ومباحثها رعيا لجانب العلوم المستنبطة من القرآن العظيم أو الخادمة له حراسة لماهيّته وأنماط تلقيه وتأديته ثم ذبّا عن ساحته بتتبع المروي الوارد الثابت من أدائه وقراءاته، فيُلجأ في اكتناه وصف الظواهر الشـرعية والأحوال النازلة المتصلة بتصرفات الناس إلى إعمال آلة الاستنباط والاكتناه، ولاضير، فإن العلم فطنة ودراية آكد منه سماعا ورواية، وللدراية ضبطها ونظمها وللرواية نقلها وتعلُّمها، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وعليه؛ فالاختلاف – وفق ذلك – توسعة ويسـر ورحمة على الخلق، خاصة في الفروع والفتاوى والأقضية وما يُحْدَث ، لأن القراءات وأوجه الأداء قد ثبت الدليل والبرهان على توقيفيتها واتباع ما اشتملت عليه من المعاني (علما وعملا)، فلا يحلُّ ترك موجب إحداها لأجل الأخرى ظنا أن مثل ذلك تعارض أو تضاد أو ما أشبه [النشر 1/51]، ثم المشتهرين من القراء عند نقلهم أوجه الأداء عن أئمتهم ومشايخهم؛ فإنهم كانوا يفرّقون بينما رواه الناقل وبين ما خرَّجه بفقهه ورآه، مع اشتهاره بالثقة والأمانة والضبط والعدالة والصيانة وتوابعها، وهو ما يَنْمي وجه إضافة كل حرف إلى أحد قراء الأمصار ومما يزيد ما نحن فيه من تبين وجه الفرق الذي بين الاختلافين؛ مسألة إثبات البسملة وتركها في القراءة وشهرة الخلاف في ذلك بين القراء والفقهاء، أو اعتبار قرآنيتها وعدم اعتبار ذلك، قال ابن العربي المعافري (ت‍ 543 ه‍): (الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية، ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن؛ فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإجماع في أبواب العقائد) [أحكام القرآن الآية الأولى، قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم]، وفائدة الخلاف في ذلك ما يتعلق بالأحكام من أن قراءة الفاتحة شرط في صحة الصلاة …، فتدخل (بسم الله الرحمن الرحيم) [الفاتحة] في الوجوب عند من يراه أو في الاستحباب كذلك [أحكام القرآن الآية الأولى، قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم]، قال ابن الجزري (ت‍ 833 ه‍): روى الحافظ أبو عمرو الداني بإسناد صحيح، وكذلك رواه أبو بكر بن مجاهد عن شيخه موسى بن إسحاق القاضي عن محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه، وروينا أيضا عن ابن المسيبي قال: كنا نقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة وبين السورتين في العرض والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة، قال: وفقهاء المدينة لا يفعلون ذلك، قلت: وحكى أبو القاسم الهذلي عن مالك أنه سأل نافعا عن البسملة فقال: السنة الجهر بها، فسلم إليه وقال: كل علم يسأل عنه أهله [النشر1/271] ومثل ذلك وجدناه عند القسطلاني إذ يقول: [ونزلت أولَها (البسملة أول الفاتحة) في بعض الأحرف السبعة، فمن قرأ بحرف نزلت فيه؛ عدَّها آية …، ومن قرأ بحرف لم تنزل معه؛ لم يعدّها، ولزمه من إجماع كونها (الفاتحة) سبع آيات؛ أن يعدّ عوضها (عليهم) الأولى … ونزلت أيضا مع أول كل سورة غير الفاتحة، في بعض الأحرف السبعة] لطائف الإشارات 1/276، فهذه إشارة لأنموذج طريف يجلي حقيقة كل من اختلافي القراء والفقهاء (منشأً وصورة ومآلا)، ولعل حقيقة هذا الاختلاف وحدوده تنجلي ساطعة باستعراض طرف من الشواهد الأدائية والأمثلة القرائية مما له بليغ الأثر في إغناء الدلالات الشرعية الفقهية المنفكّة عن تقلبات الألفاظ القرآنية (نحوا وصرفا وصوتا …) ولعل خلاصة البيان وكفاية التحصيل في هذا الشأن تُحَسّ وتشع بمثل قول ابن مجاهد (ت‍ 324ه‍) في السبعة : اختلف الناس في القراءة كما اختلفوا في الأحكام … ورويت الآثار بالاختلاف عن الصحابة والتابعين؛ توسعة ورحمة للمسلمين، وبعض ذلك قريب من بعض [السبعة ص 45].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق