مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

العلامة ابن الطيّب الشرقَي الفاسي (ت‍ 1170 ه‍) و مذهبه القرائي  

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد؛

فهذه خلاصة الأثر ونقاوة النظر تُعني بتبريز الملامح العلمية الزاخرة التي طبعت شخصية العلامة اللغوي الأديب ابن الطيب الشرقي (ت‍ 1170 ه‍)، وهو الذي تملّك زمام الأدب وحاز قافية اللغة واعتلى ذروة الحجة الإعرابية والضلاعة في كل ذلك مع متممات من مسالك الاحتجاج  وضوابط التخريج والاستدلال التي لا غنى للناظر الناقد عنها، من الإسناد والتاريخ والأنساب وتتبع أحوال النقلة والرجال وما يتبع ذلك، وصاحبنا هو شمس الدين محمد بن الطيّب بن محمد بن موسى الشهير ب‍ (الشَّركَي)، قال الكتاني: (بالقاف المعقودة لا بالفاء إجماعا، نسبة إلى شَراكة على مرحلة من فاس) وشراقة أو شراكة قبيلة عربية منازلها شرقي مدينة فاس، [فهرس الفهارس 2/1067]، وكان مولده بفاس عام 1110ه‍ وبها كانت نَشاءته ومُراهقَه، ولعلمائها تلْمذ وعن أفذاذها أخذ حتى فضل وفاق [سلك الدرر 4/91]، وكان أبوه الطيب بن محمد رحمه الله حريصا على تعليمه وأخذه بشؤون العلم ولزوم المشايخ واحتباء مجالسهم [شرح كفاية المتحفظ (ص 135)] قال الكتاني وهو الذي استجاز له من أبي الأسرار حسن بن علي العجيمي المكي وعمره سنتان [فهرس الفهارس 2/1068]  ثم إنه لما اضطلع بمعارفه بلدته واستدَّ حكمه وقويت عارضته لم يأل جهدا في التشوف إلى منار الشرق وأم مثابة الحجاز حجا لبيت الله الحرام والاسترضاع من لبان أفذاذها ومجاورة البيت الحرام أولا ثم اتخاذ المدينة المنورة على صاحبها الصلوات وأنم التسليم مقاما وموئلا بل ومدفنا عام (1170ه‍) [شرح كفاية المتحفظ 11 – 12] وذلك ما سجّله في معلمته الرائقة المسماة  ب‍‍ (الرحلة الحجازية)، فقد حلاّه أبو الفضل المرادي صاحب سلك الدرر بالإمام … اللغوي العلامة … إمام أهل اللغة والعربية في وقته [4/91]، ووشّاه الكتاني في فهرسه ب‍ الإمام العلامة اللغوي … الرحالة، فخر المغرب على المشرق [1/192، 2/1067] وزاد فقال: كان هذا الرجل نادرة عصره في اتساع الرواية وقوة العارضة ورزق فيها سعدا مبينا، … لم يكن في زمانه أحفظ منه بالنحو واللغة والتصريف والأشعار، إماما في التفسير والحديث والفقه، ولقد شرَّق وغرَّب في الأخذ والتحمل حتى بلغ عدد شيوخه زهاء 180 شيخا [فهرس الفهارس 2/1068]، وكان لا يأخذ إلا عن الأفذاذ الكبار ممن اشتهر بالحفظ الجيد والاتساع في الرواية والدراية للمنقول المروي والنظر في أحوال الرواة والمسندين، فقد ثبت أخذه عن الشيوخ الأعمدة ممن ذاع صيته وطار ذكره أمثال أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد الدرعي المعروف بالسباعي (1155ه‍) قال الكتاني: الدرعي هذا من كبار المسندين وعمدة من أعمدة أئمة القراءات المغربيين [الفهرس 2/1095]، وكذا أبو العباس أحمد بن علي الوجاري (ت‍ 1141ه‍) الذي يصفه ابن الطيب بشيخنا نحوي العصر أبي العباس … [شرح كفاية المتحفظ 352]، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الشاذلي (ت‍ 1137ه‍) الذي يصفه ابن الطيب  ب‍‍ علاّمة العلوم اللسانية، وغير هؤلاء المذكورين ممن ذكر، وقد انتفع بعلم العلامة ابن الطيب الشرقي ودرسه خلق كثيرون من المشارقة والمغاربة بالشام ومصر والحجاز وغيرهم من الأصقاع، ونذكر من بين هؤلاء العلامة أبا العباس أحمد بن عبد العزيز السجلماسي الهلالي (ت‍ 1175ه‍) علامة المنقول والمعقول بالمغرب وله إجازة من شيخه ابن الطيب [فهرس الفهارس 1099 – 1100]، ومنهم أبا الفيض محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الزَّبيدي مرتضى (ت‍ 1205ه‍)، كان إماما في اللغة والحديث والرجال والأنساب … سيوطي زمانه [فهرس الفهارس 1/526]، وقد شهد الزَّبيدي على إفادته وتلمذته للعلامة ابن الطيب في مقدمة تاج العروس في مساق حديثه عما كُتب على كتابه على جهة التصحيح والتحشية والتكميل وما إليه فقال: (من أجمع ما كُتب عليه مما سمعت ورأيت؛ شرح شيخنا الإمام اللغوي أبي عبد الله محمد بن الطيب بن محمد الفاسي، المتولّد بفاس سنة ه‍ 1110والمتوفى بالمدينة سنة 1170ه‍، وهو عمدتي في هذا الفن والمقلد جيدي العاطل بحليّ تقريره المستحسن … شيخنا المحدث الأصولي اللغوي نادرة العصر …) [تاج العروس 1/3، 15]، والناظر المتأمل في التركة العلمية التي وضعها العلامة ابن الطيب رحمه الله في فنون العلم وصنوفه يقف على مداه وموضع إبداعه وشفوفه وتقدمه وأن له تأثيرا في سياق العلم الذي برع فيه وتجرّد لخدمته وتحمّل الخوض فيه، فمن ذلك في باب اللغة والأدب وسائر علوم العربية وإحكام صنعة اللسان نجد له: (إضاءة الراموس وإضافة الناموس على إضاءة القاموس) وهو شرح على القاموس المحيط للفيروزابادي، الأنيس المطرب فيمن لقيته من أداء المغرب [الفهرس 209]، حاشية على درة الغواص للحريري [شرح كفاية المتحفظ 158]، حاشية على ديوان امرئ القيس [كفاية المتحفظ 312]، حواشي عقود الجمان [شرح كفاية المتحفظ 103]، شرح دواوين الشعراء الستة [النبوغ المغربي 1/291]، شرح شواهد التلخيص للقزويني [شرح كفاية المتحفظ 234]، شرح الكافية الكبرى لابن مالك [شرح كفاية المتحفظ 38]، شرح نظم الفصيح لثعلب [شرح كفاية المتحفظ 38]، شرح على المزهر للسيوطي [شرح كفاية المتحفظ 83]، وعليه؛ فهذه الوفرة في النتاج والوضع والمشاركة الزاخرة في علوم الشريعة تنم عن جودة الفكر وذكاء الخاطر وحدة العارضة الدالة على نبوغ ابن الطيب المبكر واستعداده المتغلب وذلك ما ستتولى هذه المقالة بيان بعض رسومه والتوقيف على معالمه وتقريب حدوده وشواهده، فقد كان ابن الطيب وهو في معرض الاحتجاج واستدعاء الشواهد الأصيلة للاستدلال على القواعد النحوية والألفاظ اللغوية والتركيبات الإعرابية تأسيسا للحكم أو استشهادا للذي تؤيده الحجج والأدلة السماعية والنقلية وما تفرع عنهما، فنجد يقرر بداءة بأن (الاستدلال بالقرآن والأشعار العربية أمر مجمع عليه لا نزاع فيه) (الفيض 1/506)، ثم وجدناه ممن يناصر الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف سواءٌ في ذلك اللفظ أو المعنى وقضى بأن ذلك هو الذي ينبغي التعويل عليه والمصير إليه (شررح كفاية المتحفظ 100)، ثم نجده في باب الاحتجاج بالقراءة القرآنية واعتمادها بمراتبها في الاستشهاد والاستدلال طلبا للحكم واقتناصا لإثباته ونفيه وما إليه أطرب نفسا وأخفَّ روحا، إذ ذلك عنده كله من جمل القرآن وأجزاء ماهيته وحقيقته، قال: (والشاذ من القراءات والثابت من الحديث؛ تثبت به اللغة) (الفيض 2/772)، فالعلامة ابن الطيب (رحمه الله) كان على ذُكْرٍ بما يلزم وما يُمنع من القراءة وما يثبت أنه قرآن، مستصحبا منازل القراءة المستجمعة لخِلال القبول أو الرضا (صحة نقل، رجاحة عربية، رعْي صورة الرسم العثماني)، ثم إنَّ صَنَعه أثناء احتجاجه بالشاذ – بقدْر متفاوت يَرْعى مقتضى الأحوال- منبئٌ عن تعمُّل فِقْهي بعيد المُدْرك،وحِسٍّ رهيف دقيق المسلك؛ فقد ألفيناه في (فيض نشر الانشراح) وفي غيره من الحواشي والشروح السالفة كلها لا يحتج إلا بما يَسْبَحُ في فَلَك السبعة القراءات المشهورة بالأمصار ابتداءً، ولا يميل عنها إلى غيرها من الشواذ أو الخارجة أو ما شابه، مما يُنسب القائل بها إلى الغلط إلا لحاجة أو لملحظ، إذ غاية ما في الحرف المخالف للقواعد العربية أن يكون شاذا بهذا الاعتبار، والشذوذ لا ينافي الفصاحة، كما قاله أبو علي وشيد أركانه ابن جني [الفيض 1/427]؛ رعْيا منه لمقتضـى المقام وسياقته، إذ جعل وُكْده في تقصّص مراد الله عز وجل وتأويله اعتماد قراءة السبعة القراء المشتهرين، ثم يردف – بعد استيفاء الأوجه المشتهرة – ما ثبت على جهة الشذوذ (سندا، عربية، رسما) استكثارا للمعاني وانتجاع خصبها في الفَسْـر والتأويل وبسط الدلالة وما إليه، ثم تَنويعا منه لمطارح الفكر وتَعداداً لمسارح النظر، بالقدْر الذي يُجلِّي بلاغة  القرءان العظيم و يحفظ دلائل إعجازه، وقد جاهر بذلك فقال: إنَّ هؤلاء القراء ليس لهم في القراءات المذكورة … آراء ينسبون بها إلى الخطإ واللحن، وإنما هم نقلة لما رووه بالتواتر، وقد تقرر أن القراءة سنة متبعة، والمعتبر فيها التلقي عن الأئمة لا اعتماد الرأي …، فالاعتراض عليهم وتلحينهم مما لا معنى له، كما نبّه عليه غير واحد، والله أعلم) [الفيض 1/427]، فهذه بسطة عجلى تنم عن ملامح البراعة والشفوف الذي طبع شخصية العلامة ابن الطيب وتعكس للناظر منحاه اللغوي والأدائي كما سنأتي على تفصيله بأمثلته وشواهده بعدُ إن شاء الله تعالى، فيكون العلامة ابن طيب قد ترجم عن الجو الفكري السائد في البيئة التي راهق فيها ورضع من لبان أفذاذها خاصة اليوسي أبي علي (ت‍ 1102ه‍) والشاذلي أبي عبد الله (ت‍ 1137ه‍) والمسناوي أبي عبد الله (ت‍ 1136ه‍) [محمد المنوني مجلة دعوة الحق العدد الرابع سنة 1968 ص 35] وسط بحبوحة الزاوية الدلائية العتيدة التي أسست لطريقتها إبّان الثلث الأخير من القرن العاشر الهجري … وتحمّل الدلائيون تدريس القراءات والتفسير والمنطق واللغة والبلاغة والأدب والتاريخ … [الزاوية الدلائية لمحمد حجي ص 30].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع

 

Science

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق