مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

التفسير الصوفي الإشاري من خلال نموذج لطائف الإشارات للقشيري (2)

ذ. عبد الرحيم السوني.

باحث بمركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك.      

 

محاولتنا البحثية هاته، تأتي في إطار دراسة تأصيلية لأحد أهم أنواع التفسير الذي عرفه المتن القرآني الكريم، وهو التفسير الذي أنشأه الصوفية وهو ما يعرف بالتفسير الإشاري، وذلك من خلال معالجة نماذج أصيلة من المؤلفات المعدة في هذا الباب، وسأركز على تفسير صوفي أصيل يعد من المؤلفات المؤسسة للتفسير الصوفي كتفسير متكامل، له من الأوصاف والمميزات ما يجعله تفسيرا إسلاميا منضبطا بضوابط علم التفسير العامة، وهو التفسير الذي حرره الإمام القشيري. ولعل قيمة هذا التفسير قيمة مضاعفة؛ فهو أولا صادر عن صوفي من أكبر الصوفية في تاريخ التصوف الإسلامي شرقا وغربا، وعلما من الأعلام الفكرية التي لا يمكن للمؤرخين لتاريخ الفكر الإسلامي القفز عليه أو التغاضي عنه، وهو ثانيا عمل له قصب السبق في التأسيس النظري لتجربة الكتابة في مجال تفسير ذهب فيه صاحبه مذهب تأسيس التجربة الذوقية الحية على حقائق الشريعة الغراء.

أصول الممارسة التفسيرية الصوفية للتفسير ومشروعيتها:

إذا كان يعتقد البعض ـ إما جهلا أو عنادا ـ أن التفسير الإشاري الصوفي مجرد بدعة ، ولم يكن في يوم من الأيام وبأي شكل من الأشكال على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والعهود القريبة منه[1]، فإن هناك ـ على العكس من ذلك ـ من يعتبر أن هذا النوع من التفسير لم يكن بالأمر الجديد بل هو: «أمر معروف منذ نزوله ـ أي القرآن ـ على رسول الله صلى الله عليه وسلم … أشار إليه القرآن، ونبّه عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وعرفه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وقالوا به»[2].

ولتأكيد هذا الأمر نورد بعض الأمثلة على التفسير الإشاري الذي مارسه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، مع بيان دعوة القرآن الكريم إليه، وإدراج أقوال بعض العلماء فيه:

أولا: التفسير الإشاري عند النبي صلى الله عليه وسلم:

معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من فسر القرآن الكريم وبيّنه، وقد كان لبيانه عليه السلام وجوه كثيرة بحسب ما يشتمل عليه القرآن الكريم من العلوم والمعارف، وبحسب المتلقي الذي يتلقى عنه هذا البيان، ومن ذلك تفسيره صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم تفسيرا إشاريا، والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة نورد منها على سبيل المثال، تفسيره عليه السلام للظلم في قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم… ﴾[3] الذي أشكل أمره على الصحابة فلم يفهموا إلا الظاهر منه، فبين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقته ورفع عنهم بذلك الحرج والمشقة ببيانه وتوضيحه لمعنى الظلم وهو الشرك مذكرا لهم بقوله تعالى على لسان لقمان: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾[4]، وكذلك تفسيره صلى الله عليه وسلم للعبادة في قوله تعالى: ﴿إن الذين يستكبرون عن عبادتي﴾[5]، بأنها الدعاء، وتفسيره وبيانه لقوله عز وجل: ﴿كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾[6] بأن المراد منه هو بياض الليل وسواده، بعد أن أشكل أمره على عدي بن حاتم الذي أخذ عقالا أبيض وعقالا أسود، فلما كان بعض الليل، نظر إليهما فلم يستبينا، فلما أصبح أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنه، فبيّن له عليه السلام المعنى المراد وهو بياض النهار وسواد الليل بعكس ما فهمه من ظاهر الآية[7].

وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن الممارسة التفسيرية الصوفية الإشارية ممارسة أصيلة تجد جذورها الأولى في العمل النبوي الشريف[8].

 

 


[1] ـ انظر مثلا: مظاهر الانحرافات العقدية عند الصوفية، إدريس محمود إدريس، مكتبة الرشد ـ الرياض، ط الأولى 1998، ج1، ص: 110.

[2] ـ التفسير والمفسرون، محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة ـ مصر، ط الثانية 1976، ج2، ص: 353.

[3] ـ سورة الأنعام الآية 82.

[4] ـ سورة لقمان الآية 13.

[5] ـ سورة غافر الآية 60.

[6] ـ سورة البقرة، الآية 187.

[7] ـ وكثيرة هي المواقف التي فسّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الآيات التي كان الصحابة يقفون مع ظاهرها فلا يفهمون المعنى المراد منها، راجع كتاب الذهبي: التفسير والمفسرون، ج1، ص: 45ـ46.

[8] ـ ينظر: التفسير والمفسرون، ج2، ص: 353.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق