مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

أنظار في فلسفة الصيام

 الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده

وبعد فقد قضت سنة الله في كونه ونظامه أن يُبنى على التداول والتغاير، والتنوع والتمايز، فليس في الحياة والكون، ولا في الفكرة واللسان إلا ثنائيات؛ بها تتزايل المدركات تصورا وتصديقا: الوجود والعدم، الموت والحياة، الليل والنهار، السلب والإيجاب، الزيادة والنقصان، الذكر والأنثى، الخير والشر، المحن والمنح، الصحة والمرض، السراء والضراء، ومنها ما يعيشه العالم من شدة ووباء، يعقبه فرج ورخاء،  وسواها من ثنائيات الوجود تقابلا وتداولا أذهلت النظر العقلي قديما وحديثا: ﴿قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله ياتيكم بضياء﴾[القصص: 71]، ويكفي للتأمل اثنان وثلاثون ظاهرة ثنائية متقابلة في سورة الرعد وحدها.

 وعلى هذا النمط الفريد انبنى نظام الشعائر والتشريع؛ إذ كان جزءا من هذه المنظومة: التمايز سمته، والتنوع خاصته، والتقابل لب يسره وسعته، فاليوم رمضان ونفحاته، وغدا أفراح العيد ومسراته، وبعد غد مهرجان الحج وتجمعاته، وهكذا يتواتر التشريع تنوعا وانتظاما، كما تتابع الوجود تغايرا وإحكاما؛ حثا على الجد والتجديد، واستسعاء للنظر والاعتبار، وادراء للرتابة والملل، ودفعا للنمطية القاتلة في الحياة؛ ناهيك عن ادراك أسرار الشعائر، ومقاصد التعبد، فبضدها تتميز الأشياء.

 إن العادة والوراثة، والبيئة والمجتمع، والمصالح الشخصية بمطامعها ومطامحها، وشواغل الحياة المتراكمة، قد تفسد نوازع الإنسان التلقائية إلى الخير، فتلقي أنواعا من الحجب والظلال على نور البصيرة والفطرة، حتى يستحيل اليقين الأخلاقي مرتعا للاحتمالات والتردد والمتاهات؛ لذلك كان التراتب في مواسم الخير، والتنوع في مناسبات الذكر والتعبد؛ إيقاظا للضمائر من سباتها، وإزالة للغشاوة عن النور المودع فيها: ﴿وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين﴾[الذاريات:55]

 إن الجهد بالصيام أو بالصلاة أو بسواهما من الأعمال أداةٌ ضرورية لنفس خلوقة سامية، ومجتمع راق متحضر؛ إزاحةً للشر، وأداء للخير، وتشوفا للكمال، فالمدافعةُ شرطُ الإنسان لكسب الفضيلة، أو لحفظ الحياة، وذلك من معنى قوله تعالى: ﴿لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾[البلد:4] وقوله سبحانه: ﴿يــأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملـقيه﴾[الانشقاق:6]، بيد أنه لا ينبغي تمجيد العمل بما هو وسيلةٌ دون النظر في أهدافه ومراميه، وإلا كان غريزة عمياء، أجوفَ لا قيمة له، فالعملُ المؤثر الفعال هو مقاومةُ قوة، أو قهرُ مقاومة، وذلك ما يبغيه الصيام من الأغراض الحميدة، والمقاصد العظيمة، وإلا كان ألماً بدنياً، وشقاءً جسديا لا معنى له، وذلك عينُ العبث المنافي لعموم قوله تعالى في الخلق والأمر: ﴿وما ننزله إلا بقدر معلوم﴾[الحجر:21].

 إن صيام رمضان تدريب عظيم مفروض على الإرادة الإنسانية؛ كيما تخضعَ للإرادة الإلهية انتظاما وثباتا، من خلال تحطيم عبودية الجوارح وشهواتها، وترويض الأنفس ونزواتها، عبر مسارين حددهما علماءُ السلوك والأخلاق، وأشارت إليهما نصوص تربوية من مدرسة الصيام: 

المسار الأول: مدافعةُ الشر وتقليلُه، وهو جهاد نفسي شاق دائب؛ حتى زعم بعض الفلاسفة  أن الشر قانونُ الطبيعة الذي لا يرحم، في ترجمة لبيت زهير الجاهلي: «ومن لا يَظلم الناس يُظلم»، إشارةً إلى قوةِ نزغات النفس، وما تُزينه من الشهوات والشبهات: ﴿إن النفس لأمارة بالسوء﴾[يوسف:53]، وإيماءً إلى تنوعِ ألاعيب الشيطان وحباله: ﴿لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شـكرين﴾[الأعراف:17]، لكن الشريعة الغراء تطمئن الإنسان بحقيقة قاطعة: ﴿إن كيد الشيطان كان ضعيفا﴾[النساء:76]، ثم تروض النفس بمواسم الخير ـ رمضان وغيره ـ حتى يقل شرها، ويسلس قيادها راضية مرضية، وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ﴿الصيام جنة﴾[خ:1894]: وقاية من النار، ووقاية للإنسان من أخيه الإنسان: يكف عنه شره، ويمسك أذاه، فيَزْوَرُّ عن الحسد والحقد، ويستنكف عن انتهاك الأنفس والأموال، ويأنف من الغيبة والكذب، والزور والبهتان، وبهذا تَطْهُر المجتمعات، وتختفي كثير من أمراضه المزمنة، وأوساخه المثبطة عن صلاح الفرد والمجتمع، وهاكم مثالا وحيدا لبيان خطورة الأخلاق وأهميتها: فالكذب مثلا رذيلة تنبئ عن تغلغل الفساد في نفس صاحبها، وعن سلوك ينشئ الشر إنشاء، ومتى رسخت هذه الرذيلة في الأفراد، وتمكنت من أعماق النفوس، وتسللت منهم إلى أي مجتمع، فأضحت سمة بارزة فيه، وظاهرة عامة في مجالاته: تشمل البائع والمشتري، وأرباب الحرف والصناعات، ورجال الأعمال والمقاولات، والأجير ورب العمل، والصحف والمجلات، كان ذلك النهايةَ في الإفساد؛ لأن أساس الاجتماع البشري ثقةٌ متبادلة بين أفراده، وفي شيوع الكذب ضربٌ لهذا الأساس، فلا غرابة أن تتعطل من خلاله كثير المشاريع والأعمال، ولا عجب أن تتوقف عجلة التنمية والاستثمار، وكيف تكونُ الثقة بالعلوم والمعارف، والأخبار والقرارات، وضمان الحقوق والواجبات، والسلع والمنتجات، في بيئة تحترف الكذب احترافا؟؛ لهذه الخطورة قال عليه السلام في صيام رمضان: ﴿من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه﴾[خ:1903]: وما يغني صيام رمضان في مثل تلك البيئة المعطلة، التي فقدت الثقةَ في أفرادها ومؤسساتها؟. هكذا يكون الإمساك إمساك الأذى عن الناس، وتحمله والصبر عليه منهم مفتاحاً للتنمية والاستقرار، وأنجعَ منهجا، وأغزرَ نفعا للفرد والمجتمع؛ ولذلك قال عليه السلام: ﴿فإن سابه أحد أو شاتمه، أو جَهل عليه أو أذاه، أو ظلمه فليقل إني صائم﴾[خ:1894].

المسار الثاني: تكثير الخير وإشاعته: فلقد جنف من زعم أن الأخلاق هي فن السيطرة على الأهواء؛ تركيزا منه على الجانب السلبي دون التطلع إلى تحقيق قيم إيجابية في الفرد والمجتمع، وهو ما أشارت إليه مدرسة الصيام بقول ابن عباس: ﴿كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان [خ:3220] ففي رمضان يتضاعف الجود في تنوعٍ وانهمار: جود بالخير كله: تلاوة للقرآن، صيام وقيام، إعانة للملهوف، مساعدة للضعفاء، تطببيب للمرضى، تطييب لخاطر اليتامى والمساكين، وهو ما أشير إليه بقوله: ﴿من فرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة  من كرب يوم القيامة.. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه [خ:2442] وبهذا تتآزر الأمة برمتها على الجود بالخير شريفُها وحقيرها، قويها وضعيفها، غنيها وفقيرها، كل حسب استطاعته؛ ليندرج الكل في عموم الخيرية اللائحة فما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿خير الناس أنفعهم للناس، هكذا يتدرج الصيام ومدرستُه بالمسلم من مرحلة الدفاع والمدافعة إلى مرحلة شيوع الخير وإذاعته، عابرا مرحلة النفس الأمارة، مروراً بالنفس اللوامة إلى نفس مطمئنة هادئة آمنة؛ وهو ما أشار إليه أرسطو بقوله «إن الذي لا يسر لأداء الأعمال الطيبة ليس خيرا حقا»؛ تعييرا منه للأخلاق والقيم، منتزعا إياه من سالف كتب السماء، كما أبانه بإجادة أبو حامد في المنقذ من الضلال، وهو معنى التسليم والرضا بقضاء الجليل عند القوم أهل الله المتصوفة مستلين إياه من قول إمامنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم: ﴿أرحنا بها يا بلال﴾[د:4985]، وما التوفيق إلا بالله: ﴿والذين جـاهدوا فينا لـنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾[العنكبوت:69]

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق