مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

نقط يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم

 لم يكِل منزل الكتاب حفظه لفئة مخصوصة، ولا لجماعة معلومة، ولا حتى لجهة موصوفة، وإنما تولى حفظه بنفسه، فقال “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” [الحجر:9]، وقيض لضمان هذا الحفظ في كل حقبة من حقب التاريخ من ينوء بأعبائه، ويذوذ عن حياضه،  حسبما يقتضيه نوع الحفظ الذي يمليه الظرف، وتدعوا إليه الحاجة، ضبطا لحرفه، وحفظا لأوجه أدائه، وتسديدا لفهمه، ودرءا لمثار الشبه من حوله.. فتنوعت بذلك مراتب حفظه عبر العصور.

         وإن من إرهاصات الحفظ الأولى حفظ أدائه التنزيلي، و نقط حرفه التوقيفي،  وذلك بضبط الحرف بما لا يشكل على تاليه، حتى لا تلتبس به الألسن، وتزيغ به الأهواء،  فكان أولا ضبط أبي الأسود الدؤلي تبيينا لشكلة الحرف؛ بما اصطلح عليه عند أهل الفن بالنقط المدور، عني فيها بتبيان الحركة الإعرابية للحرف، بما يعين كيفية أدائه، وكان بالحمرة، تمييزا له عن السواد الذي خط به الحرف القرآني، وقد أفردنا الحديث عنه في مقال سابق مبثوث في موقع الرابطة المحمدية للعلماء، بعنوان: “ظهور اللحن ونقط أبي الأسود الدؤلي”

عرجنا فيه على الإرهاصات التي حفزت التابعين على وضع نقط الإعراب، وعجنا على ما أثاره هذا الصنيع زمن التابعين ومن عاصرهم من الصحابة من اختلاف تجويزا ومنعا، إذ رأى فيه المانعون مخالفة لهدي الرعيل الأول، وما استقر عليه أمرهم في الجمعين من تجريده، سيما وأنه قد أثرت عنهم توجيهات تؤكد على ذلك، و رأى فيه المجوزون نظرا مصلحيا، دعت إليه الحاجة بتمازج الأجناس وتفشى اللحن في أوساط العرب والعجم على السواء، و قالوا هو نور له، ذكر أبو عمرو: – بسنده إلى يحيى بن أبي كثير- كان القرآن مجردا في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الياء والتاء، وقالوا لا بأس به، و هو نور له، ثم أحدثوا فيها نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.” وبسنده إلى الأوزاعي قال سمعت قتادة يقول: بدأوا فنقطوا، ثم خمسوا ثم عشروا”

قال أبو عمرو: “هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين رضوان الله عليهم هم المبتدئون بالنقط ورسم الخموس والعشور، لأن حكاية قتادة لا تكون إلا عنهم، إذ هو من التابعين، وقوله: ” بدأوا إلى آخره دليل على أن ذلك كان عن اتفاق من جماعتهم، وما اتفقوا عليه أو أكثرهم لا شكول في صحته، ولا حرج في استعماله، وإنما أخلى الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفسحة في القراآت التي أذن الله  تعالى لعباده في الأخذ بها، والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها.”[1]

          إلا أن ههنا أمرا ينبغي أن يماط عنه اللثام، ويفصل فيه القول والبيان، و هو قضية  تضارب الروايات في تعيين أول النقاط، فنجدهم تارة ينسبون الأولية لأبي الأسود، وأخرى ليحيى بن يعمر، وفي بعضها أن الذي وضع أسسه وقواعده هو نصر بن عاصم، وبتتبع الروايات نستبين أن الأخيرين أخذا عن أبي الأسود وتتلمذا له، وعنه اكتسبا ما اشتهرا به من تمكن في العربية، وقد شهد بذلك عالمان كبيران وكفى بشهاتهما شهادة، فقد روى المزي عن عمرو بن دينار قال: جلست أنا والزهري إلى نصر بن عاصم، فلما قمنا من عنده قال: إن هذا ليقلع العربية تقليعا، أو ليفلق العربية تفليقا،[2] وقال أبو حاتم البستي في توشية يحيى ابن يعمر “وكان من فصحاء أهل زمانه وأكثرهم علما باللغة مع الفضل والورع”[3].

 ومما يرجح أن البداءة كانت لأبي الأسود وقعة عبيد الله بن زياد لما استدعاه معاوية فوجده يلحن، فعاتب واليَه على العراق زيادا ابن أبيه، وقال له أمثل عبيد الله يضيع ..، والذي انتدبه زياد للنظر في أمر اللحن وفشوه بين الخاصة قبل العامة هو أبو الأسود الدؤلي وقصته في ذلك متواترة معلومة[4]، وقد كانت وفاة معاوية سنة ستين للهجرة، وقطعا أن الواقعة حصلت قبل هذا التاريخ أو زامنته على قصارى التقدير، أما انتداب الحجاج ليحيى بن يعمر ونصر ابن عاصم فقد كان في خلافة أبي الملوك عبد الملك ابن مروان، -كما كان يلقب- وقد دامت ولايته من خمس وستين إلى حدود ست وثمانين للهجرة، فكيف تكون الأولوية لهما وقد تأخرت حقبتهما عن شيخهما؟

وقد أجاب أبو عمرو الداني عن هذا التضارب الحاصل في نسبة الأولوية، مرتبا مراحل تطور الضبط فقال:  “يحتمل أن يكون يحيى ونصر أول من نقطاها للناس بالبصرة، وأخذا ذلك عن أبي الأسود؛ إذ كان السابق إلى ذلك والمبتدئ به، وهو الذي جعل الحركات والتنوين لا غير على ما تقدم في  الخبر عنه، ثم جعل الخليل بن أحمد الهمز والتشديد والروم والإشمام، وقَفا الناس في ذلك أثرَهما واتبعوا فيه سنتهما، وانتشر ذلك في سائر البلدان وظهر العمل به في كل عصر وأوان، والحمد لله على كل حال”[5]

        ومما يستلهم مما بلغنا من وقائع الأحداث؛ أن آفة اللحن لم يستأصل دابرها بالنقط الدؤلي، المسمى النقط المدور أو النقط الإعرابي،  إذ كانت العجمة قد طغت في الأوساط، ولم ينحصر الإشكال في تقويم اللسان، وإعراب كلم القرآن، بل تعداه إلى تمييز ذوات الحروف المشتبهة، وتعيين كيفية نطق ما يخط منها على نفس الهيئة، فاستحدثوا النقط الفردي والزوجي للحروف المشبهة، كما في الباء والتاء والياء.. لكن لم يف ذلك بالطلبة، وبقي اللحن والتصحيف مستشريا بين تلاة القرآن، فارتأوا  أن  يحدثوا بعده نقط الإعجام، تمييزا بين المهمل والمعجم من الحروف المتماثلة الهيئة والصورة،  و تفيد المصادر أنه بانتدابٍ من الحجاج اضطلع بهذه المهمة عالمان من صقع العراق، -كعبة المعرفة وقتها، ومأم جمهرة النوابغ من سائر الفنون- مشهود لهما بعلو الكعب في العربية، و رسوخ القدم في الفصاحة والبيان؛  يحيى بن يعمر[6] ونصر بن عاصم[7] ، نقل الصفدي عن  أبي أحمد العسكري في كتابه التصحيف أن الناس غبروا يقرءون القرآن في مصحف عثمان بن عفان نيفا وأربعين سنة، إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق، ففزع الحجاج إلى كتابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهات علامات، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفرادا وأزواجا، وخالف بين أماكنها فغبر الناس بذلك زمانا لا يكتبون إلا منقوطا، وكان مع استعمال النقط يقع التصحيف، فأحدثوا الإعجام، فكانوا يتَّبعون النقط والإعجام، فإذا أغفل الاستقصاء عن الكلمة لم توفَّ حقوقها اعترى التصحيف، فالتمسوا حيلة فلم يقدروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين”[8]

           فتظاهرت جهود  العلمين على وضع اصطلاح ثان للضبط، اختير له لون السواد باعتباره تتميما للتصويت بذاتية الحرف، و تمييزا له عن نقط أبي الأسود الذي كان  بالحمرة، قال شعبان محمد إسماعيل: “فقاما بنقط الحروف المتشابهة في الرسم، للتمييز بينها، وكتبت هذه النقط بمداد لونه لون المداد الذي كتب به المصحف، حتى يكون مخالفا لنقط أبي الأسود الدؤلي، وكان لا يزال على حاله، إلى أن غيره الخليل بن أحمد”.[9]

      وهكذا لم تنسلخ المائة الأولى من التقويم الهجري، حتى تمت صيانة القرآن عن اللحن الجلي، وتم ضبطه بما يقوم اللسان هن هجين اللحن، و يصونه عن مسترذل الزيغ والشطط، وقد تلقت الأمة هذا الصنيع بالقبول، ، وتحقق به موعود الله بحفظ كتابه، “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ”[الحجر:9] وإن كانت هذه الخدمة لم ترق إلى  مسلك التلقي والأخذ من أفواه الرجال، المسلك الأصلي للحذق بالكتاب، والمهيع المرتضى عن الصدر الأول، إلا أنها ذللت سبل تلاوته للأعجمي الذي لايتقن العربية، ثم للخلف المسلم ممن فرطوا و ضيعوا لغة الكتاب.

 

[1] المحكم في نقط المصاحف، ص:11.

[2] ينظر تهذيب الكمال، 29/348.

[3] مشاهير علماء الأمصار، ص: 203. من جراءته في الصدع بالحق ما حكاه السيوطي في بغية الوعاة في طبقات اللغويين و النحاة قال: “لما بنى الحجاج واسطاً سأل الناس: ما عيبها؟ قالوا: لا نعرف لها عيباً، وسندلك على من يعرف عيبها، يحيى بن يعمر، فبعث إليه، فسأله فقال: بنيتَها من غير مالك، ويسكنها غير ولدك، فغضب الحجاج وقال: ما حملك على ذلك؟ قال: ما أخذ الله تعالى على العلماء في علمهم ألا يكتموا الناس حديثاً، فنفاه إلى خراسان، فولاه قتيبة بن مسلم قضاءها، فقضى في أكثر بلادها: نيسابور ومرو وهراة، وآثاره ظاهرة” 2/216.

[4] ينظر تمام القصة لاستكمال الإفادة، مقدمة المحكم في نقط المصاحف، ص:2 وما بعدها.

[5] المحكم في نقط المصاحف، ص:3-4.

[6] العدواني أبو سليمان البصري أخذ القراءة عرضا عن أبي الأسود الدؤلي، وسمع ابن عباس وابن عمر وعائشة وأبا هريرة، وروى أيضا عن أبي ذر وعمار بن ياسر رضي الله عنهم، قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء وعبد الله بن أبي إسحاق الخضرمي، وحدث عنه قتادة ويحيى بن عقيل وعطاء الخراساني وسليمان التيمي وإسحاق بن سويد، وولي قضاء خراسان لقتيبة بن مسلم، وهو أول من نقط المصحف، وكان فصيحا مفوها عالما، أخذ العربية عن أبي الأسود، توفي سنة تسع وعشرين ومائة للهجرة. معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، ص:37.قال عنه الذهبي: “كان ذا لسن وفصاحة أخذ ذلك عن أبي الأسود”. سير أعلام النبلاء، 4/442.

[7] الليثي النحوي قال ياقوت: كان فقيهاً عالماً بالعربية من قدماء التابعين، وكان يسند إلى أبي الأسود في القرآن والنحو، وله كتاب في العربية.وقيل: أخذ النحو عن يحيى بن يعمر العدواني، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء، بغية الوعاة، 2/191. قال الذهبي في الكاشف: “ثقة، نقط المصاحف ،وقرأ على أبي الأسود.” 2/318.

[8] الوافي بالوفيات، 11/239-240

[9] رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاحات الحديثة، ص:90.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق