مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

مولد النبي صلى الله عليه وسلم: مناسبة لإحياء سيرته وشمائله

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

 

 بقلم الباحث: د. محمد بن علي اليولو الجزولي

 

مقدمة:

إن الشهور والأيام والمناسبات ما هي إلا ومضات ومحطات لغرس القيم النبيلة، والمعارف القويمة في الإنسان، والرقي به فكريا، وحضاريا نحو مراقي السعود.

 وإن من أعظم الحمق، وأغبن الغبن، أن نجعل هذه المناسبات تمر علينا مرور الكرام، فنمضيها فقط في تجزية الأوقات، وإضاعات الطاقات دون أخذ إفادة، أوعبرة، أودرس.

وإذا استقرينا واقع المجتمعات المتحضرة رأيناها قد دأبت على استغلال أوقاتها ومناسباتها من خلال اختيار ذكرى وفاةِ، أو ميلادِ زعمائها، وقادتها، وعلمائها، ومفكريها، وأحبَّائها للاحتفال بهم، وذِكْر مناقبهم، والتعريف بهم وبأخلاقهم، وما خلفوه وما قدموه للإنسانية، وكلُّ هذا عادة حسنة إن لم يصحبها شرور وفجور ومنكرات وتصرفات تهدِم أكثر مما تبني، وتُفسد أكثر مما تصلح.

     وإن المولد النبوي المنيف مناسبة لإحياء سيرة النبي ﷺ في القلوب، ونشر أخلاقه وشمائله ﷺ بين الأمم والشعوب، هذه المناسبة المباركة التي تُذكِّرنا بميلاد هذا الإنسان العظيم الذي غيَّرَ مجرى التاريخ، وحقق العدلَ والرحمةَ في المجتمع الذي عانى الظلم، والاستبداد، والجَوْر وشتى الأمراض الخُلقية ردحا من الزمان قبل بعثته، وأزال الجهل، ونشر العلمَ، ورسَّخ الإيمانَ في نفوس الناس، وقضى على العصبيات والقوميات، وأنقذ أجيالا من براثين الجاهلية، وقاد البشرية نحو العزة والسؤدد، حتى أصبحت أمتُه خير أمة أخرجت للناس، ملَكَتْ أزمِّة القيادة، ونالت درجات الريادة، وضربت للعالم أروع الأمثلة في كل المجالات، هَزمَت الكفار، وفتحت الأمصار وغرست منهج الله في النفوس ومكنَتْ له في الأرض.

 ولقد نبهنا التنـزيل العزيز بإشارة لطيفة خفية، تدعونا إلى التحلي بسيرة المصطفى ﷺ وأخلاقه إذ يقول:(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)([1])، ويقول جل شأنه:(وإنك لعلى خلق عظيم) ([2]).

ولم يكن السلف الصالح بمعزل عن سيرته والعناية بها؛ بل جعلوها جل عنايتهم، وغاية اهتمامهم، فلقنوها أبناءهم، ونساءهم، ومواليهم، حتى كانوا يُحفِّظونَهُمْ مَغَازِيهُ كما يُحفِّظونهم السورة من القرآن.

يقول زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما: «كنا نُعَلَّم مغازي رسول الله r كما نُعَلَّم السورة من القرآن» ([3]).

ويقول الإمام الزهري يرحمه الله تعالى في علم السيرة «علم الدنيا والآخرة»([4])، وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول:«كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول يا بني هذه شرف آبائكم فلا تعدموا ذكرها» ([5]).

لقد ظهر منهم أجيال جعلت عنايتها حفظ هذه السيرة العطرة، وروايتها، وتدوينها، وكانوا يتناقلونها جيلاً بعد جيل، وطبقة بعد طبقة بأسانيدها وطرقها المختلفة حتى توافر لدينا قدر هائل، وثروة عظيمة، وميراث صحيح عن سيرة سيد الكائنات r،  كيف لا وهي سيرة أعظم خلق الله وأحبهم إلى النفوس، وأفضل رسله وخاتمهم، بل هي من أشرف العلوم وأجلها بعد الذكر الحكيم والسنة الشريفة؛ بها يعرف المسلم أحوال دينه، وأحوال نبيه الكريم ﷺ، وهي مفتاح فهم كتاب الله تعالى، وبها تقوم سائر العلوم الشرعية، وعليه فإن العناية بها من الإيمان ومن مقتضيات محبة الرسول ﷺ.

وإن أفضل المناسبات لإحياء هذه السيرة الشريفة في نفوس المسلمين وتقريبها إلى النشأ هو يوم المولد المنيف من خلال قراءتها، واستحضار أحداثها الكبرى .

 ومن هذا المنطلق اعتنى المغاربة بقراءة وسرد السيرة النبوية وما يلحق بها من منظومات ليلة المولد النبوي حيث يتم ختم قراءتها بمساجد المغرب يوم مولد النبي ﷺ فيستفتحون أولا المجالس بقراءة القرآن، ثم بختم كتب السيرة والشمائل ككتاب الشفا للقاضي عياض، والبردة، والهمزية للبوصيري وغيرها، وهو في نظري منهج تربوي قويم، يغرس وينمي في رواد المساجد حب شخصية الرسول ﷺ، ومعرفة سيرته، وصفاته وشمائله، ودلائله، ومعجزاته، وغزواته، وسرياه، وأخلاقه، وأعماله في اليوم والليلة…الخ.

فالمضامين الإبداعية الراقية التي تتضمنها قصيدتا البردة والهمزية: من سيرة نبوية طاهرة، ومديح نبوي سام، وذكر للنسب الشريف، والميلاد الميمون، وحديث عن نشأته ورضاعه في بني سعد، والجهر بدعوته، والتبليغ عن ربه، ورعاية الله تعالى له وحفظه، وإسرائه ومعراجه، وهجرته، ومعجزاته، ودلائله، وشمائله الخَلقية والخُلقية، وغزواته وسراياه، وما لحق بأعدائه من اليهود والمشركين من الخزي والنكال….الخ.

فهذه المضامين التي حوتها هذه المنظومات رسَّخت في وجدان الشباب ورواد المساجد محبة النبي ﷺ، وخلقت في نفوسهم عاطفة صادقة نحو شخصه الكريم ﷺ، زيادة على تزودهم بزاد معرفي واف حول الأحداث الكبرى للسيرة النبوية من المولد إلى الوفاة، يقول الدكتور زكي مبارك رحمه الله: «البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب، والتاريخ، والأخلاق، فعن البردة تلّقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابًا من السيرة النبوية، وعن البردة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال. وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول ﷺ »  ([6]) .

وقد سبق التذكير بعناية الصحابة والتابعين بالسيرة النبوية وتدريسها لأبنائهم، فعلينا أن نستن بهم في ذلك فنستغل هذه المناسبة ـ مناسبة المولد الشريف ـ للعناية بسيرته المنيفة، قراءة، وحفظا، واستنباطا، وتمثلا، وعلى الهيئات والجمعيات الثقافية رصد الجوائز، والمسابقات المالية الكبرى كل سنة لتشجيع جيل سَيْري قِرائي يحي السيرة النبوية في النفوس، فتبقى سيرورتها مدى الأجيال المتعاقبة.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل، والحمد لله رب العالمين.

***********

جريدة المصادر والمراجع:

1- البداية والنهاية، أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، ت: أحمد أذين قلعم وآخرين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط5، 1409ﻫ/1989م.

2- حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار وعلى آله المصطفين الأخيار:  لوجيه الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد بن الدبيع الشيباني الشافعي، ت: عبدالله إبراهيم الأنصاري، المكتبة المكية، السعودية، ط2، 1403ﻫ/1982م.

3- حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار: لمحمد بن عمر بحرق الحضرمي الشافعي، ت: محمد غسان نصوح عزقول، الناشر دار الحاوي، بيروت، لبنان، 1998م.

4- السيرة الحلبية = إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون: لأبي الفرج علي بن إبراهيم بن أحمد ، نور الدين ابن برهان الدين الحلبي ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1427هـ.

5- شرح المواهب اللدنية للقسطلاني: لمحمد بن عبدالباقي الزرقاني، دار المعرفة، بيروت. 1414هـ.

6- المدائح النبوية في الأدب العربي: لزكي مبارك القاهرة دار الشعب 1981م.

 ***********

هوامش المقال:

([1]) الأنبياء: 107.

([2]) القلم: 4.

([3]) البداية والنهاية : 3 /241 .

([4]) السيرة الحلبية : 1 /2، البداية والنهاية : 3 /241، حدائق الأنوار : 1 /8 .

([5]) شرح المواهب : 1 /473 .

([6]) المدائح النبوية في الأدب العربي: زكي مبارك ص: 215.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق