وحدة المملكة المغربية علم وعمرانغير مصنف

من أعلام شعراء الأندلس على عهد الطوائف والمرابطين (ابن صارة الشنتريني)


 

  حسن الوراكلي


عني بالترجمة لشاعرنا ابن صارة كثير من مؤلفي معاجم الرجال و كتب الاختيارات الأدبية سواء الأندلسيين أو المشارقة.

 فمن الأندلسيين ترجم له  و أتبث مختارات من  شعره كل من ابن بسام في الذخيرة(1)، ابن خاقان في القلائد (2)، وابن الأبار في التكملة (3)، وابن الخطيب في الإحاطة(4)

 ولاشك أن مثل هذه العناية إنما تدل على الشهرة والذيوع اللذين نالهما ابن صارة سواء في حياته أو بعد مماته، ومع ذلك فإن عرضه أولئك المؤلفون و غيرهم ممن لم نذكر (9)من أخبار عن حياته، ومعلومات عن شخصيته قليلة يسيرة لا تتناسب قط مع الشهرة الواسعة  التي ظفر بها شعره و بسبب ضألة المادة الإخبارية التي نقع عليها في المصادر التي ترجمت له كانت الصورة التي نستخلصها  منها لحياته تتخللها ثغرات وفجوات متس.27 عددة. وكان بالتقدير أن بعض الدراسات  الحديثة الأخبار الموجزة التي أمدتنا بها مصادرنا عنه. ونفيد فيها – كذلك –  وباللآن عينه. من أشعاره التي تحدث في بعضها عن همومه ومشاغله. وعكس في بعضها الآخر. ومن خلال لمحات سريعة، وجوانب من تجربته ومعاناته

 

                                          *************

اسمه عبد الله بن محمد بن صارة، هكذا أوردته جل المصادر، بيد أنها اختلفت في كتابة اسم جده ما بين صارة بالصاد و (سارة) بالسين، و قد أشار إلى ذلك بعض المترجمين له فقال اين خلكان : ( يقال في إسم جده : صارة و سارة بالصاد و السين المهملتين )(11).  و قال السيوطي ( عبد الله بن محمد بن سارة .    و يقال : صارة ) (12)  . و نبه ابن  الآبار إلى خطأ رسم هذا الإسم بالجيم. فقال : ( و غلط ابن نقطة في اسمه. قال “ابن جارة” مكان ” ابن صارة”. و قد نبهت على ذلك في المعجم الذي جمعته في أصحاب ابن العربي) (13) .

 كما أن بعض المصادر منها التكملة (14) ووفيات الأعيان (15) ثبتت له نسبته إلى قبيلة (بكر)مشيرة بذلك  على أصله العربي و هي جميعها (17) أي المصادر، تنبه إلى ( شنترين ) (18)، و مع ذلك فهي تمسك عن التصريح بأن هذه المدينة هي مسقط رأسه. لكننا لسنا نملك من الأخبار  ما يستفاد منه أنه ولد في غيرها (19)

أما كنيته فهي ( أبو محمد ) عند جميع مترجميه إلا ابن ظافر الذي انفرد بتكنيته ب ( أبي العباس ) (20) فيما ساقه من خبر اجتماعه بالوزير أبي بكر بن القطبرنة (21) و ما كان من مساجلة شعرية بينهما . و عن ظافر نقل المقري في النفح (22).

و ليس في المصادر، بعد ذلك أية إشارة، و لو لم تكن محددة لتاريخ ميلاد ابن صارة، لكن أغلبها لم يغفل النص على التأريخ لوفاته بسنة سبعة عشر و خمسمائة للهجرة (23) .

 و لم يفت بعضها أن يحدد مكان الوفاة في مدينة ألمرية (24)، على أننا إدا عرفنا أن العمر امتد بالشاعر ما بعد السبعين كما يشي بذلك قوله :

              أي عذر قد يكون لي، أي عذر

                                            لابن سبعين مولع بالصبابة

و هو ماء لم تبق منه الليالي

                                 في إناء الحياة إلا صبابة

استطعنا أن نجعل تاريخ ميلاده خلال العقد الخامس من القرن الخامس، بل إنه صحت نسبة التاليين له:

و لي عصا عن طريق الذم أحمدها

                               بها أقدم في تأخيرها قدمي

كأنها و هي في كفي أهش بها

                               على ثمانين عاما لا على غنمي (26)

كان لنا أن  نضع تاريخ ميلاده على وجه التقريب، سيما إذا كان البيتان مما قاله في أخريات أيامه، في حدود السنوات الأخيرة من العقد ا لرابع  من القرن الخامس.

 و سواء أصح هذا أو ذاك فإن ما يهمنا من هذا التحديد  التقريبي لتاريخ ميلاده هو التأكيد على أن شاعرنا عاش في ظل فترتي الطوائف و المرابطين و أنشأ شعره متأثرا بالظروف و الأوضاع السياسية و الاجتماعية التي سادت الفترتين.

 و ليس في المصادر بعدا هذا و ذاك ما يلقي الضوء على أسرته، و أغلب الظن أنها كانت أسرة فقيرة مغمورة و لو كان لأفرادهما مساهمة في مجال العلم و الأدب . أو مشاركة في ميدان الساسة و الحكم لوجدنا ذكرها يطرد في معاجم الرجال، و كتب الطبقات، و مدونات التاريخ، و كل ما استطعنا أن نعرفه عن أسرته لا يعدو أن يكون مجرد إشارات خاطفة ضمنها شعره من مثل قوله يهجو زوجه و قد طلقها:

أما الزمان فرق لي من طلة

                            كانت تطل دمي بسيف نفاقها

الذئبة الطلساء عند نفاقها

                             و الحية الرقشاء عند عناقها (27)

و البيتان يكشفان لنا عن جانب  من حياة الضنك و التعاسة التي كان الشاعر ينوء تحتهما في كنف زوجة لم تخلص له الود.

و مثل قوله يرثي بنتا له

ألا يا موت كنت بنا رؤوفا

                            فجددت الحياة لنا بزوره

حماه لفعلك المشكور لما

                       كفيت مئونة و سترت عوره

فانكحنا الضريح بلا صداق

                       و جهزنا الفتاة بغير شورة (28)

 و هذه الأبيات تكشف لنا جانب من حياة الضنك و التعاسة، أيضا، يتمثل فيما كان يحاصر الشاعر أسرته من شظف، و فقر و حرمان.

 و لا نعرف كيف نشا و درج، و كما لاذت المصادر بالصمت المطبق فيما يتصل بصباه و طفولته،  أمسكت أشعاره االتي انتهت إلينا عن الحديث تصريحا كان أو تلميحا عن النشأة و الطفولة و الصبا . غير أننا مع ذلك قد نتيح  لأنفسنا  أن نتصور ابن صارة أمضى أعوام الطفولة و الصبا في ( شنترين )، و قد نتصور كذلك أنه أثناء تلك الفترة المبكرة من عمره قد اختلف على نحو ما كان يختلف لداته و أقرانه إلى مجالس المؤدبين و المعلمين حيث يتلقى مبادئ القراءة و الكتابة و يتزود بعد ذلك من استظهار القرآن الكريم، و رواية  الشعر و الترسل، و قواعد العربية و تجويد الخط (29)، حتى  إدا استوفى حظه من كل ذلك نازعنه نفسه إلى التوسع في الطلب و الاستزادة من أداة من  التحصيل، فسعى إلى حلقات الشيوخ يسمع منهم الأمهات و الأصول في الأدب،  و النحو و الحديث، و الأخبار، و يروي عنهم حتى توفر على حظ غير يسير منالمعرفة بتلك العلوم، لا شك أنه أفاد منها حيث اشتغل بالوراقة، و حين تصدر للتدريس، و حين  قرض الشعر.

 و يظهر مما وصلنا من أشعار الرجلن و كذلك مما  كتبه من أخباره المترجمون  له، أنه عاش يعاني مرارة الفاقة و بؤس العوز، شانه في ذلك س.27 عدد غير قليل من شعراء العصر يومئذ ممن لم يتح لهم، على جودة ما كانوا ينشئون من شعر و نثر، الظفر بحياة رغيدة، ينعمون في  ظلها بالاستقرار، و الأمن، و الطمأنينة، فاضطرت طائفة منهم إلى الضرب في الأرض، و التطواف بالآفاق، تعالج بالأدب أوانا من الكدية و الاستجداء، و اضطرت طائفة أخرى في غمرة  ما يكون يسود المجتمع من اهتزاز قيم، و انحلال أخلال، ان تتحلل من الوقار، فتغرق في الآثام، و تجاهر بالمعاصي حتى لكأن حالهم كان هو بيت الشاعر :

كــــل شـئ  غيــر شـئ

                              مــا خلا لــذة الهـوى و السلافـة (30)

و على الجملة فإن ( الشاعر لفي عصر الطوائف  إن لم يكن من طبقة السياسيين أو من الشعراء المنتمين أو من المنقطعين كان يكابد في سبيل الرزق صعابا، و جهده في الكسب هو شعره في التزلف و المدح و الكدية السافرة … حتى إذ حل عصر المرابطين تراجعت منزلة الشاعر أكثر من ذي قبل، و أصبح التصريح  بكساد الشعر أشد و أوضح … ) (31،) و في هذه الفترة ظهر الشاعر المكدي الذي  يذكر بشعراء الكدية المشارقة ( في تحديد  ما يطلبه من قمح أو شعير أو حبة أو غفارة أو خروف للعيد … )32

و كان ابن صارة، إذن من هؤلاء الشراء الذين سدت في وجوههم أبواب الرزق، مثلما اضطروا إلى استنباطه بالتزلف و الكدية، و ألح مثلما ألحوا في طلب المال و الجاه دونها جدوى :

           أرى الدنيــــا للدنيـا نسيبـــــا

                                                يحيــد عن الكرام كما تحيــد

           هما سيــان إن صفحت حرفــــا

                                           وجـدت الــراء تنقص أو تزيــد

           رأيت هواهمــا استولى علينــــا

                                              فنحــن بحكمـه أبــدا عبيــد

           يــــؤمل أن يصيدهما فـــؤادي

                                              فيــرجـع عنهما و هو المصيــد

 و لقد كان يخيل لشاعرنا أحيانا، بأن فشله في الظفر  بالمال مرجعه إلى سوء حظه، و ليس إلى شئ آخر :

فمـا حســن التناول فــات سمعـي

                                     ولكــن فاتــه الجــــد السعيـــد

و إلا فمــا معنــى أن :

يفـــــوز بــــه الخلـي فيحتـويـه

                                           و يحرم وصله الصـب العميــــد

إلى كم ينفـــر الدينـار منـــــي

                                        و يطلـب كــف مـن عنـــه يحيد ؟

ألـم أنشــده فـي واد هيامـــــي

                                         بــه لو كـــان يعطفـه النشــيد ؟

” حبيبــــي أنت تعلـم ما أريــد

                                    و لكن لا تـــرق و لا تجـــدو” (35)

 و لاشك أنه كان مما يحز في نفسه أن يرى، و هو البائس المحروم، غيره من ا لناس و خاصة الحكام و الفقهاء و المحظوظين من الكتاب و الشعراء، ينعمون كما شاءوا ببلهية العيش، و رغادة الحياة و ها هو ذا  يتحدث عن ذلك في كثير من المرارة و الحسرة :

للنـــاس عيــش درت الدنيــا لهـم

                                       مــن دوننا بنعيمــه و لــــذاذه

أخـــذوه مـــوفورا كما شاءوا و لم

                                يــــــؤدن لنا فنكون من أخـاذه

حضــــــــروا غبنا شذذا و لربمــــا

                           حرم الغنى من كان من شـــــــذاذه

و أراهم هذوا و أبطـــــــــانا و قــد

                       يـــــــــدنو بعيد الخطو من هـذاذه (36)

و مع أن الشاعر يعلن بملء فيه عن معاداة الزمان له:

إني منيت من الزمــــــان بصاحب

                        قاســــي الفـــــؤاد خبيثه لـــواذه (37)

فإن ذلك لم يكن ليفت في عضده، فيستسلم و يلقي السلاح، بل على العكس، فلعل الإحساس العميق بتلك المعاناة هو ما كان يؤجج في حناياه جذوة الصراع :

وقذ الزمان جوانحي و وقدته

                                 فانظر إلى موقودة و وقاذه

إن صد عن رمحي بثغرة نحره

                            فسنان رمحي واقع في كاذه (38)

 و أغلب الظن أن هذا الإحساس نفسه هو الذي بصر الشاعر بجدوى التطواف  بحثا عن مفاتيح  النجاح الذي تحقق به النفس أمانيها و آمالها :

سافر فإن الفتى من بات مفتتحـا

قفل النجاح بمفتاح من السفـــر

إن شئت خضرتها يا ابن الرجاء فكن

في طي غمر الفيافي نائي الحضر (39)

 كيف لا ؟ و من أهم أسباب الرزق، بل الصحة كذلك، التنقل و الضرب في أرض الله :

للرزق  أسباب و من أسبابه

                                   إعمال ناجية و شد حزام

شيئان في الأسفار يكتنفانها

                               كسب الخطير و صحة الأجسام (40)

 و ليس يهم – بعد ذلك – ألا يجد المرء في تطوافه الكريم من الناس الذي يأوي إلى ظله ن فاللئام كثير، و عليه أن يبتزهم ما وسعه الابتزاز :

سافـــــــــر فإن لم تجد كريما

                              فمــن لئيــــم إلى لئيــــم (41)

أما الإقامة على الهوان فهي ليست في تصور الأحرار إلا ضربا من العجز :.

مقــــام حـــر بــأرض هــون

                                     عجــز لعمـري مـن المقيـم (42)

و كان لا بد لنفس تجيش بمثل  هذه الخواطر عن الأسفار أن تنتهي بصاحبها إلى أن يعلن في عزم و إصرار :

لا أم لــــــي إن لـــم أيمم مسلكا

                                يهــــــــدي الحياة إلى فيه حمامي (43)

 و إذا كان ابن صارة قد بلور لنا في هذه الأبيات من شعره الباعث الذي حذا به إلى ترك ( شنترين)، و هو أي الباعث، استخراج الأرزاق و تحصيلها، فإن فيما تحدث به  عنه بلديه ابن بسام ما يحدد تاريخ مغادرته المدينة و حاله  حين دخل لإشبيلية، أما التاريخ فهو في حدود ا لسنوات  الأولى من العقد التاسع من القرن  الخامس و هو تاريخ عرفت   الأندلس أحداثا جاما، منها دخول المرابطين، و القضاء على ملوك الطوائف و اهمها للصوقه بحياة شاعرنا .

– سقوط  ( شنترين ) في قبضة نصارى قشتالة. و لاشك أن هذا الحدث الأخير يعتبر باعثا آخر، يضاف إلى باعث البحث عن الرزق، دفع بالشاعر دفعا غير رفيق إلى ترك مدينته و أما الحال فهي حال من لا مال له و لا صاحب له.

 يقول أن بسام : ( فلما كان  من خلع الملوك ما كان، أوى إلى اشبيلية أوحش حالا من الليل، و أكثر انفرادا من سهيل (44).

 و لم يكن ابن صارة، و قد تعلقت نفسه بالأسفار بعد  طول إقامة ب ( شنترين ) لم تجده في شئ، ليلقي غضا التسيار بإشبيلية. بل إنه سيتركهما مثلما ترك ( شنترين ) من قبل ليضرب الأرض، يتردد على كثير من المدن (45) فيسكن ألمرية حينا (46)، و غرناطة آخر (47)، و يسكن  قرطبة (48) حينا ثالثا، و يسكن حينا أخرى، غير هذه و تلك من بلدان الجزيرة و حواضرها، و كان حيثما انتهى به تجوله يتوسل بما يجيد من فن و  علم في الحصول على الأرزاق، و يظهر أنه طمح إلى وظائف الدولة، غير أنه على تفننه في الآداب (49) و طول باعه في الإنشاء، و على ما عرف به من حسن الخط، و جودة النقب و الضبط (50)، و لم  يرتق إلى وظيفة الكتابة إلا  ( بعد أي ) (51) في عبارة ابن بسام. أما متى كان ذلك، و أين، و لمن، فأمور لا تتولى الإجابة عنها المصادر و يكتفي بعضها بالإشارة إلى أنه ( كتب لبعض الولاة و الرؤساء) (52)، على أن الدكتور حسين مؤنس ينفرد فيمن عرفنا ن مترجمي ابن صارة و دارسيه بالإشارة إلى أن الشاعر عاش في بلاط بني الأفطس (53) وقد يفهم من ذلك أن ابن صارة كتب لأمراء بني الأفطس و هو أمر لا نستبعده، سيما و أن النابهين من أدباء (شنترين)، و هي إحدى مدن الإمارة، كانوا يطمحون فيما نحسب إلى الوصول إلى بلاط بطليموس حيث الجاه و المال، و شيوع  الذكر، و لكننا، مع هذا، لا نستطيع أن نجزم اتصال ابن صارة بالبلاط المذكور و الاشتغال بالكتابة لدى أمرائه خاصة  و أن ابن بسام، و هو بلدي الشاعر و عصريه، لم يشر إلى هذا الأمر تصريحا و لا تلميحا.

و أيما كانت الحال، فمما لاشك فيه أن ابن صارة لم يشغل وظيفة الكتابة مدة طويلة، و نحن لا نعرف على وجعه جلي سبب صرفه أو انصرافه عمن كان يكتب لهم  الولاة و الرؤساء، و يغلب الظن أن شعوره بالقلق، و الاضطراب و تعلقه بالسفر، و التطواف و شغفه باللهو و المجون، كان  هو ما جعله يترك هذه الوظيفة، يؤكد لنا ذلك ماورد في الدخيرة من أنه كان ( ضيق المجال، وحلي  الانتقال، لم يسعه مكان، و لا اشتمل عليه سلطان و كانت قصاراه  تتبع المحقرات ) (54)

 و في رحلة البحث عن المال و الرزق تصدر ابن صارة حينا، للتدريس (55)، ينفق فيه مما كان عنده من علم بالعربية، و معرفته بالشعر، غير أنه فيما يظهر، لم يتفرغ لذلك و ينقطع له على نحو ما نعرف من تفرغ المدرسين للتدريس، و انقطاع شيوخ العلم للإقراء. و لعله إنما ترك الاشتغال بالتعليم لقلة ما كان يدر عليه من مال، و من يدري ؟ فلعل ضيق الرجل بالإقامة في هذا  البلد او ذاك من البلدان التي كان يحل بها في أسفاره و رحلاته، و إخلاده لحياة اللهو، و الدعة، و الفراغ، من الأسباب التي كانت تحمله على ترك التدريس. و قد يفيد شيئا من ذلك  ما وصفه به الفتح ابن خاقان حين قال : ( أعان على نفسه الزمان، و استجلب لها الخمول و الحرمان، فلا  يطير  إلا وقع، و لا يرفع خرقا من حاله إلا خرق ما رفع)(56)

 كما اشتغل ابن صارة بالكتابة، والتعليم، اشتغل في اشبيلية بالوراقة و كان ( له منها جانب، و بها بصر ثاقب ) (57)

 لكن ما عساه يكون أصاب الأوساط الأدبية والعلمية في عاصمة الوادي الكبير من فتور على إثر سقوط بني عباد و قيام الحكم المرابطي جعل سوق الوراقة تكسد، و طريقها يخلو/ فيما يقول  ابن بسام/ (58) فإذا بشاعرنا يترك الاشتغال بها و قد خاب أمله أن يستدر منها رزقا، و قد عبر عن ذلك في بيتين من شعره :

أما الوراقة فهي أيك حرفة

                           أوراقها و ثمارها الحرمــان

شبهت صاحبها بصاحب إبررة

                                تكسو العراة و جسمها عريان (59)

و إذن فقد أخفق ابن صارة في أن يحصل على الرزق الموفور بواسطة ما كان يتقن من فن و  يجيد من  علم حتى وقر في نفسه أن الذنب فيما يعانيه من الشظف و ا لحرمان مرجعه إلى أدبه :

قاضي الشرق أشرقني بريقي

                            نائبات يطلبن عندي ثارا

لا لذنب إلا لأني أديب

                     طاب عود منه فكان نضار (60)

لم لا ؟ و قد كان يلاحظ أن ( قيمة كل أحد ماله و أسوة كل بلد جهاله ) (61)

 و يرى غيره ممن لم يعن فكره بعلم، و لم يشغل نفسه بأدب، يرفل في الثراء و ينعم بالملذات، و هذا ما صوره في سخرية و حسرة :

عابوا الجهالة و ازدروا بحقوقها

                                    و تهافتوا بحديثها في المجلي

و هي التي ينقاد في يدها الغنى

                                   و تجيئها الدنيا برغم المعطس

إن الجهالــة للغنى جذابـة

                           جدب الحديد حجارة الحديد (62)

 و وع ذلك لم تكن لابن صارة مندوحة من اتخاذ أدبه وسيلة في السعي وراء الأرزاق، لذلك نراه يتردد على كثير من المدن مادحا، منتجعا (63)، فقد دخل اشبيلية و هناك وصل نفسه برجاله البارزين ليظفر بأعطياتهم، و من  ممدوحيه ا لقاضي الفقيه : ” أبوبكر محمد بن عبد الله   بن العربي المعافري (64) . و دخل غرناطة و مدح واليها أبا بكر بن إبراهيم اللمتوني ” (65)

( و على الرغم من أن غرناطة كانت الحاضرة الأثيرة لدى المرابطين، فإن قرطبة  على الرغم مما أصابها من نكبات مند أن طحنتها رحى الفتنة احتفظت في عصر المرابطين بمكانتها القديمة كحاضرة للأندلس، باعتبارها القاعدة القديمة للبلاد مند الفتح الإسلامي حتى سقوط الخلافة الإسلامية، ففيها كان يقيم ولي العهد، حتى مات أبوه و انتقل إلى مراكش و بويع أميرا للمسلمين … كما كانت المركز الرئيسي لقاضي الجماعة الذي يتولى  الإشراف على نظام القضاء في الأندلس قاطبة ) (66)

 و كان ابن صارة يعرف هذه الأهمية لقرطبة، و ليس من  المستبعد أن يكون تناهى إليه ما كان الناس يتحدثون به عن رعاية بني حمدين قضاة قرطبة يومئذ للشعراء و عنايتهم بهم، فقصدها و قد اطمأن إلى وجه النجاح سيستهل له بها :

الله أكبر قد وافيت قرطبة

                                 دار العلوم و كرسي السلاطين

و قد تهلل بي وجه  النجاح بها

                                طلق الأسرة من وجه ابن حمدين (67)

 و ابن حمدين المذكور في هذا البيت هو أبو القاسم أحمد بن محمد بن حمدين التغلبي (68) أحد القضاة من بني حمدين الذين اشتهرا بتذوقهم للشعر و نقده (69) و تشجيع  أصحابه، و فيه أنشأ ابن صارة غير ما قصيدة (70) و ما نحسب أن ( جودة شعره و شفوفه على أهل الفطرة ) (71) مكنا له لدى هذا القاضي و أظفراه بنواله، بيد أن نفسية ابن صارة القلقة و طبيعته اللاهية كانت تحولان بينه  و بين الاطمئنان  و الاستقرار، لذلك نراه يترك  ابن حمدين، على ما نقدر أن يكون وجد في كنفه من رعاية و اهتمام. و يغادر قرطبة متوجها  شطر مرسية لينتجع فيها قاضيا آخر هو أبو أمية إبراهيم بن عصام قاضي قضاة الشرق يومئذ و كان اشتهر مثل قضاة قرطبة  مكن بني حمدين، بحبه للشعر و الأدب و تشجيعه لأصحابهما، و فيه قال ابن صارة مدحا متس.27 عددة (72) لاشك أنه نال بها من جوائز القاضي و عطاياه نصيبا غير يسير.

 على أن ابن صارة أثناء رحلته المضنية الشاقة في غرب الجزيرة  و وسطها لم يكن ليلقى – حتى و لو حرص و ألح – من الناس إلا الإكرام من أمثال ابن العربي، و ابن حدين، و ابن عصام، و أضرابهم، ينشئ فيهم مدائحه، فيجزلون له العطاء   ، و يسنون له الصلة، بل كان أيضا يلقى من الناس لئامهم، أو لعله حين لم يكن يجد الكرام كان يسعى بمحض إرادتهن إلى اللئام، و لكن أغلب هؤلاء كانو فيما نرجح ن إدا مدحهم منعوه و لو يلبوا له مطلبا، فلا يملك إلا أن يهجوهم بأبيات مقذعة ( وسم بها أنوف  أحسابهم، و تركها مثلا في  أعقابهم ) (73)

 أي شئ آخر كان يتوقع أن يقوله شاعر بائس، محروم فيمن طرق أبوابهم ممن أبطرتهم النعمة فقتروا عليه و بخلوا و هو القائل :

         و إني لألقى كل وجه بمثله

                                     و لا عجب و الماء لون إنائه (74)

 لقد تظافرت عوامل شتى على نسج حياة ابن صارة بخيوط البؤس، و الضنك و الحرمان، فيها ما كان ينبع من خارج ذاته ن و نعني به ظروف المجتمع الأندلسي بكل ما طبعها يومئذ من  اختلال سياسي. و اضطراب اقتصادي، و تحلل أخلاقي، و فيها ما كان ينبجس من ذاته انبجاسا، و نعني به ما كان يتنازع نفسه من طموح للمال و الثراء،  و نزوع للهوى و المجون، و هو لم يكن  في ذاك الطموح و هذا النزوح إلا ابن بيئته و عصره، و قد كان بحسب المرء فيهما ( أن يسلم وقره و إن ثلم قدره، و أن تكثر فضته و إن قل دينه و حسبه ) (75)

 و لقد طلب ابن صارة المال و الثروة و سعى إليهما و لكنه أخفق في مطلبه، و تعثر في مسعاه و لم يملك، بعد هذا و ذاك، إلا أن يلوك فلسفة القناعة حينا :

و أرى القناعــة للفتى كنـــزا لـــه

                                          و البــر أفضــل ما بــه يتمسك (76)

و حينا أخر يهاجم ا لدنيا و بنيها :

            بنوا لدنيا بجهل عظموها

                                   فعزت عندهم و هي الحقيرة

      يهارش بعضهم بعضا عليها

                                مهارشة الكــلاب على العقيرة (77)

و لعل فشل الشاعر في الحصول على المال و الثروة كان فيما دفع به دفعا إلى الإغراق في حياة اللهو و المجون. و هي حياة استطابها الشاعر فيما يبدو فلم يقلع عنها حتى بعد أن تقدم به العمر.

          أي عذر يكون لي، أي عذر

                               لابن سبعين مولع بالصبابة

و هو ماء لم تبـــق منه الليالـــــي

                           في إنــــــاء الحيــــــاة إلا صبابة(78)

 

————————————————

1 – أنظر الدخيرة، ق 2 : 850-834

2 – أنظر قلائد العقيان

3 – أنظر التكملة 2 : 816 الترجمة رقم 1993

4 – أنظر الإحاطة ج 3 : 441-439

5 – أنظر  جريدة القصر ( قسم شعراء المغرب و الأندلس) ج 2 331-315:

6 – أنظر وفيات الأعيان 3 : 95-93

7 – أنظر شدارت الذهب 55:4

8 – أنظر مسالك الأبصار 383:11

9 – مثل بغية الملتمس 335: رقم الترجمة 896، و الرايات : 35 و المغرب 419:1، و المطرب 78 و زاد المسافر : 66 و شرح المقامات للمتريشي ( صفحات متفرقة) و نفح الطيب ج 1 و 2 و 3 و 4 ( صفحات متفرقة )، و تراجم و أخبار أندلسية 67.15 و الوافي بالوفيات ج 4 ق 2 ورقة 219، بغية الوعاة 288 و بدائع البدائع 276:

10 – منها كتاب ” دراسات  أدبية في الشعر الأندلسي  للدكتور   و كتاب المستشرق الفرنسي هنري بيرس La poésie andalouse en arabe classique XIe siècle

11 – وفيات الأعيان 93:3

12 – بغية الوعاة 288:

13 – التكملة 816 : 2

14 – نفسه 816:2

15 – وفيات الأعيان 93:3

16 – قبيلة عدنانية عظيمة أسلم منها قسم في السنة التاسعة للهجرة و كان لها إسهام في وقائع الإسلام  و أحداثه، و دخل الأندلس محمد ينتسب إليها خلف كالبركيين أصحاب أوتبة و سلطيش، و من أعلامهم أبو عبيد البكري. أنظر الذخيره ق 2 مج 233:1، و نهاية الأرب، 330:2

17 – باستثناء العماد الأصفهاني فقد نسبه إلى اشبيلية، أنظر الخريدة ( قسم شعراء المغرب و الأندلس ) 330:2

18 – تقع حاليا في أرض البرتغال على بعد 67 كلم شمالي العاصمة لشبونة، و قد أجمع الجغرافيون الأندلسيون على أن (شتترين) كانت قصبة إقليم، و يقول  الإدريسي إن حصنها الذي شيد على المرتفعات كان منيعا، و وصف خصب أراضيها المراكشي فقال : ( أرحب المدن أمدا للعيون، و أخصبها بلدا في السنين لا يريمها الخصب و لا يتعاطاها، و كانت (شنتيرين) و منطقتها تؤلف لال القرن الخامس جزءا من مملكة بني الأفطس أصحاب بطليوس، و لما سقطت هذه الدولة عام 485 هـ استولى الفونسو الخامس ملك قشتالة على (شنتيرين) إلا أن القائد المرابطيسيرين بن أبي بكر بن تاشفين عاد ففتح المدينة عام 504 هـ كما فتح بطليوس و ناحية الغرب، و نقل نبأ هذا الفتح إلى الأمير المرابطي على بن يوسف المرابطي في رسالة من إنشاء ابن عبدون احتفظ لنا المراكشي في ( المعجب) بنصها ظلت ( شنترين ) تحت حكم المرابطين حتى سقوط دولتهم.

أنظر، الروض المعطار 346 :، معجم البلدان 300:5، المعجب 166:

19 – ذكر كل منالزركلي ( الأعلام 268:4) و كحالة ( معجم المؤلفين 122:6)، و كاتب مادة ( شنترين ) في دائرة المعارف الإسلامية (ج 384:33:) أن ولادة ابن صارة كانت في شنترين، و ما ندري معتمدهم في ذلك.

20 – أنظر بدائع البدائه 105:

21 – هو أحد ثلاثة إخوة يعرفون في المصادر الأندلسية ببني القيطونة، و ثلاثتهم  أبو بكر، و أبو الحسن،       و ابو محمد، كانوا يقرضون الشعر الجيد،  و ينشئون النثر الرائق. أنظر ن القلائد 154:، المغرب 367:1، الثكملة 78:1، الرايات 30-24:

22 – النفح 5:4 .355 : 3

23 – في الإحاطة ( 411:3) أنه توفي سنة تسع عشرة و خمسمائة، و الراجح أنه أنه تصحيف لم ينتبه إليه محقق الكتاب، يؤكد لنا ما ورد في مركز الإحاطة  ( ج 2 ص 134، مصورة خزانة الرباط رقم 2650 د ) من أن وفاة ابن صارة كانت سبع عشرة و خمسمائة.

و أنظر العماد الصفهاني بعدم تحديد سنة الوفاة، و اكتفى بأن قال ( توفي بعد  سنة خمسمائة رحمه الله) أنظر الجريدة ( قسم شعراء المغرب و الأندلس ) ج 515:2

ليس بين مترجميه الأندلسيين من ذكر المدينة التي توفي فيها ابن صارة و لعل ابن خلكان من  المشارقة أول من ذكر وفاته بمدية المرية قال : ( كانت وفاته  سنة سبع عشرة و خمسمائة بمدينة ألمرية من جزيرة الأندلس ) و عنه نقل ابن العماد الحنبلي و المترجمون المحدثون . أنظر وفيات الأعيان 95:3 و شذرات الذهب 56:4، و الأعلام 268:4 و معجم المؤلفين 122:6

25- النفح . 344:4

26 – انظر الشربشي – شرح المقامات. 318 : 1

27 – الذخيرة، ق 2 مج 2 ص 844

28 – القلائد 281:

29 – أنظر ابن خلدون المقدمة 1250 : 3

30 – انظر المغرب، 213 : 3

31 – انظر تاريخ الأدب الأندلسي ( عصر الطوائف و المرابطين ) ص 88 و ما بعدها

32 – نفسه 90 :

33 – انظر الذخيرة ق 2 مج 844-843

34 – نفسه . ق 844 : 2

35 – نفسه . ق 844 : 2

36 –  انظر القلائد 274

37 – نفسه 274 :

38 – نفسه 274

39 – شرح المقامات 132 : 1

40 – انظر القلائد  284 :

41 – انظر القلائد  284 :

42 – نفسه 91 : 4

43 – انظر القلائد  284 :

44 – أنظر الذخيرة ق 2 ج 835 : 2

45 – أنظر الإحاطة 439 : 3

46 – نفسه  439 : 3

47 – نفسه  439 : 3

48 – الذخيرة ق 2 مج  850:2

49 – المغرب : 419 : 1

50 – الاحاطة 439 : 3

51 – الذخيرة ق 2 مج  835 : 2

52 – التكملة 817:2

53 – انظر، أنخل جوثالث بالنشيا، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة د حسين مؤنس ( ط 121 ط 1 القاهرة – 1995)، و ينبغي التنبيه هنا إلى أن هذه الإشارة لم ترد في النص الاسباني أنظر Angel Gonzalez Paiencia

– Historia de ma literatura arabio – espatiola ( collection labor N°164-165) 2a edition. Madrid ; 1945.

54 – الذخيرة ق 2 مج 835 – 834 : 2 . هذا و قد نقل  ابن خلكان عباراة ابن بسام ببعض التصرف ( أنظر وفيات الأعيان 93:3) و يظهر أن كلمة ( تتبع ) تصفحت في إحدى طبعات الوفيات إلى (يبيع) مما هم معه بعض المحدثين فأورده ملخا لترجمة ابن صارة نقلا عن ابن خكلان، تحت عنوان ( ابن صارة وبيع المحقرات) أنظر، مححمد رضا ا لشبيبي ” أدب المغاربة و الآندلسيين في أصوله المصرية و نصوصه العربية ص 106)

55- التكملة 817 :2

56 – القلائد : 217

57 – الذخيرة ق 2 مج 835:2

58 – نفسه ق 2 مج 835:2 و انظر ابن دحية المطرب : 78 و انظر  Garcia Gomez; E : un éclipse de la poesia en Sevilla, p 29

59 – الذخيرة ق 2 مج 835:2

60 – القلائد : 62

61 – الذخيرة ق 2 مج 835:2

62 – القلائد : 283

63 – الاحاطة 439 : 3

64 – القلائد : 275

65 – نفسه 275

66 – انظر حسن مححمود . قيام دولة المرابطين 367-347 و انظر كذلك د . السيد عبد العزيز سالم – قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس 143:1

67 – الذخيرة ق 2 مج 850:2

68 – انظر المرتبة العليا : 103

69 – انظر النفح 538-537 : 3

70 – الذخيرة ق 2 مج 850 – 847 : 2

71 – نفسه 2 مج 834 : 2

72 – القلائد : 212 . و بغية الملتمس : 222

73 – الذخيرة ق 2 مج 2

74 – القلائد 282

75 – الذخيرة

76 – النفح 344:4                                                                                          

77 – القلائد 273 :

78 – النفح 344 : 4

 

دعوة الحق،  العدد 259 محرم-صفر 1407/ شتنبر-أكتوبر 1986

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق