وحدة المملكة المغربية علم وعمرانغير مصنف

لسان الدين بن الخطيب

 

د. جمال بامي
مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

      ساهمت التربة الثقافية والحضارية المغربية بشكل ملفت للنظر في تعلق كثير من الشخصيات البارزة في التاريخ الإنساني بالمغرب وجغرافيته وتاريخه وحضارته، بحيث نجد كثيرا من العلماء الوافدين على هذا البلد الكريم يتأثرون به ويغرمون بأرضه وينتجون وهم مقيمون فيه أروع وأبدع مؤلفاتهم، من هؤلاء الرواد يبرز اسم لامع هو المفكر الطبيب الأديب لسان بن الخطيب دفين محروسة فاس..  
      هو لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد بن الخطيب، انتقلت أسرته من قرطبة إلى طليطلة بعد وقعة الربض أيام الحَكَم الأول، ثم استقرت الأسرة المباركة في مدينة لوشة حيث ولد علامتنا لسان الدين سنة 713هـ. انتقلت العائلة بعد ذلك إلى حاضرة غرناطة حيث عمل والده في خدمة السلطان أبي الحجاج يوسف النصري، وفي غرناطة درس لسان الدين الطب والفلسفة والتاريخ والأدب وعلوم  الدين. ولما قتل والده سنة 741 هـ في معركة طريف -التي انهزم فيها المرينيون بالأندلس أيام السلطان أبي الحسن المريني- كان لسان الدين يبلغ من العمر ثمانية وعشرون سنة، فحل محل والده في أمانة السر لدى الوزير أبي الحسن بن الجيّاب، ولما توفي هذا الأخير بالطاعون تولى لسان الدين منصب الوزارة. ولما قتل أبو الحجاج يوسف النصري سنة 755 هـ وانتقل المُلك إلى ولده الغني بالله محمد الخامس استمر الحاجب رضوان في رئاسة الوزارة، وبقي ابن الخطيب يشغل منصب الوزير إلى أن وقعت فتنة رمضان لسنة 760 هـ، التي  قتل فيها الحاجب رضوان وأزيح السلطان الغني بالله بن الأحمر الذي عبر إلى المغرب، ثم التحق به ابن الخطيب. بعد سنتين من هذا الحدث سيستعيد الغني بالله الحكم في غرناطة، وسيعيد صاحبنا ابن الخطيب إلى منصبه. لكن تألق ونجاح بن الخطيب ألب عليه الخصوم والحاقدين وضعاف النفوس، وفي طليعتهم الأديب الشهير ابن زمْرَك، فأوقعوا بين الملك النصري ولسان الدين ابن الخطيب الذي نفي إلى المغرب حيث مات مقتولا بمدينة فاس سنة 776 هـ.  ترك ابن الخطيب مؤلفات عديدة في الطب والفلسفة والتاريخ والأدب، والجغرافيا، وأدب الرحلة، والموسيقى، والنبات. ومن أشهر مؤلفاته “اللمحة البدرية في الدولة النصرية” بخصوص دولة بني نصر في غرناطة، وكتابه المرجعي الشهير “الإحاطة في أخبار غرناطة”. ولصاحبنا كتب في العلوم التطبيقية نذكر منها: “مقنعة السائل عن المرض الهائل”، وهو رسالة في الطاعون الذي أصاب الأندلس عام 749 هـ، وكتاب “عمل من طب لمن أحب” وهو مصنف طبي طريف ذكره أحمد المقري في “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” الذي ضمنه صاحبه كما هو معلوم الكثير من أخبار لسان الدين، وله أيضا كتاب “الوصول لحفظ الصحة في الفصول” وهو عمل هام ينطلق من رؤية فلسفية ترى الإنسان كائنا متأثرا بالمعطيات الكونية بمنطق جدلي، بحيث تناول في هذا الكتاب مسألة الوقاية من الأمراض حسب اختلاف الفصول.  
      شارك لسان الدين بن الخطيب في حملات المرينيين من أجل استعادة كل من غرناطة واشبيلية، وأرسل إلى سلطان تونس أبو يحيى الحفصي ليخبره عن الانتصارات التي حققها المرينيون. كان لسان الدين  صديقاً مقرباً من العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وقام بالتوسط له لدى أبي عنان المريني ليخرجه من السجن، ثم قدمه لمحمد الخامس الغني بالله ابن الأحمر. وعصرهم أيضا هو عصر ابن بطوطة، والعبدَري، وابن رُشيد السبتي، وابن البنا المراكشي، وهو كما يرى كثير من مؤرخي الفكر عصر ترسخت فيه الشخصية الثقافية للمغرب الأقصى بفضل من الله.
      إن من يقرأ سيرة ابن الخطيب يقف على حقيقة أنه عالم موسوعي ومثقف مشارك في قضايا العصر، وذلك لسعة علمه ومنهج تفكيره وعمق مؤلفاته العديدة في الطب والفلسفة والشعر، وله ديوان شعر جميل ورائع. بهذا المحصول العلمي الوافر، وبهذا الوزن الثقيل، انتقل ابن الخطيب للمرة الأولى إلى المغرب كسفير أوفده السلطان يوسف ابن الأحمر سنة 748هـ على أبي عنان لتقديم تعازيه إليه إثر وفاة أبيه أبي الحسن”. والحقيقة أنا السلطان أبا الحسن لم يكن قد توفي بعد، بل كان مختفيا إثر الحملة التي كان شنها في اتجاه تونس، والتي غرقت فيها سفينته في قصة مشهورة، وهو ما جعل ابنه أبا عنان يعلن نفسه سلطانا في حياة أبيه ضانا منه أنه توفي غريقا في البحر.. ورغم عودة أبي الحسن؛ فإن أبا عنان بقي في الحكم وحارب والده الذي اضطر إلى الفرار إلى جبال هنتاتة، فمات هناك. ثم قام أبو عنان بدفن شلوه الذي أوتي به من جبل هنتاتة المذكور في خلوة شالة قرب الرباط. وكانت وفاة أبي الحسن على التحقيق سنة 750هـ..
      نعود إلى لسان الدين بن الخطيب لنقول أنه سنة 755هـ جاء إلى المغرب بنفس الصفة مبعوثا من قبل محمد بن يوسف الغالب بالله، الذي كان في حاجة ماسة إلى عون بني مرين، فاستنجد بهم بواسطة سفيره بن الخطيب، فتحقق الغرض المنشود واستجاب أبو عنان المريني لطلب ابن الأحمر..
      يقول الأستاذ محمد ابن شقرون في مقاله: [دور المغرب الأقصى في توحيد الثقافة بين دول المغرب العربي. مجلة الثقافة المغربية ع 1، يناير- فبراير 1970]: “إلا أن الظروف سرعان ما تغيرت، فانقلبت الأحوال على سفيرنا واضطر لمغادرة بلاده سنة 761هـ، ووفد على المغرب هو وسلطانه الملوع محمد الغني بالله، فوجدا في أبي سالم المريني خير نصيب وأكبر مواسي، فاستقبلهما استقبالا خاصا، ووفر لهما ما كانا في حاجة إليه. فانتهز ابن الخطيب اللاجئ هذه الفرصة ورمى بنفسه في أحضان البيئة المغربية، ينتقل بين مدنها وقراها متصلا بكبار شخصياتها جاعلا من نفسه في بعض الأحيان رجلا متواضعا ناسكا، قاصدا الأولياء وذوي الكرامات، وفي أحيان أخرى شخصا حاقدا، ناقما، يصب جام غضبه على الأشخاص والأشياء، فكان تجاوبه في هذه الفترة التي استغرقت ثلاث سنوات مع البيئة المغربية تجاوبا متكاملا، سجل صداه هو نفسه فيما حرره من رسائل وما ألفه من كتب أثناء إقامته منفيا بالمغرب..
      ومن المفيد -يقول الأستاذ بن شقرون- أن نتعرف على هذا الإنتاج الذي خلفه ابن الخطيب والذي كان في الواقع ثمرة تفاعله مع البيئة المغربية المادية والاجتماعية..
      يقول محمد بن شقرون في مقاله سابق الذكر: “من مؤلفاته التي كتبها في هذه المدة التي قضاها منفيا بالمغرب كتاب في الطب سماه: “عملُ من طبَّ لمن حَبَّ” توجد منه نسخة محفوظة بخزانة القرويين تحت رقم 3657، يقول الأستاذ بن شقرون أنه وقف عليها بهذه الخزانة واطلع على محتوياتها، فوجدها مفيدة للغاية بما تضمنته من معلومات طبية، وقواعد صحية، وطرق للعلاج والوقاية المختلفة، تحمل في أول صفحة منها هذه الديباجة: “الحمد لله الذي خلق من نطفة أمشاج”، يذكر فيها ابن الخطيب بعد مدح طويل للسلطان أبي سالم المريني، أنه لم ير في خدمته أحسن من الطب. والكتاب يتضمن جزأين: الجزء الأول خاص بتعديد ووصف الأمراض من الرأس إلى القدم، والثاني يعدد الأمراض التي تعتري الجسم كله، أما أسلوبه في طريقة العرض فهو واضح، وإن كان فيه إطناب وشرح (…)، والمؤلف يبدأ بذكر المرض ويسميه بأسمائه المعروفة، ثم يعرف به ثم يشرح علاماته والأوجاع التي تنتج عنه، ثم يذكر أنواع العلاج ثم يأتي أخيرا بالأدوية المناسبة ويحللها ويذكر مكان وجودها. وينصح ابن الخطيب بإتباع الحمية واتخاذ جميع الاحتياطات اللازمة فيما يرجع للأغذية، يلح على الوقاية قبل أن يصاب المريض بمرض ربما تعذر علاجه. والواقع أن هذا الكتاب مفيد جدا لما تضمنه من معلومات نظرية وقواعد علمية من السهل تطبيقها على بعض الأمراض البسيطة.
      وأثناء مقامه بالمغرب، ألف صاحبنا ابن الخطيب كتاب “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار”، توجد منه نسخة مخطوطة بالخزانة الوطنية بالرباط، عثر عليها الأستاذ بن شقرون وتصفحها ورقة ورقة، فوجدها كتبت بخط مغربي جميل مذهب، تحمل رقم د 1092. لا تتعدى صفحاتها 122. وقد تكلم بروكلمان عن هذا المؤلف في تاريخ الأدب العربي، واعتني الأستاذ مولير بنشر نبذة منه في ميونيخ سنة 1866. وقد نشره الدكتور أحمد المختار العبادي بالقاهرة سنة 1958 تحت عنوان “مشاهدات لسان الدين ابن الخطيب في المغرب والأندلس”، وهذا الكتاب يتضمن بالإضافة إلى “معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار” رحلات أخرى قام بها ابن الخطيب في المغرب والأندلس.
      ويذكر العلامة محمد بن شقرون كتابا لابن الخطيب هو “مثلى الطريقة في ذم الوثيقة”، وسبب نزول هذا الكتاب هو نزاع قام بين لسان الدين بن الخطيب وأبي العباس القباب لسبب بسيط هو أن هذا الأخير لم يلب دعوة ابن الخطيب فقام هذا الأخير وقعد وصنف “مثلى الطريقة في ذم الوثيقة” تناول فيه أبا العباس القباب ومن كان يحترف حرفته بكثير من النقد والشتم والوصف الشنيع، واستعمل أسلوبا ساخرا لا يخلو من تعقيد وتشويه؛ لأنه كان منساقا وراء عاطفته الثائرة، وهذا وجه آخر من شخصية هذا العالم الكبير، ينم عن اضطراب ما في تعامله مع بعض علماء المغرب..
      ولابن الخطيب أيضا كتاب “أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام”. منه نسخة مخطوطة بالخزانة الوطنية بالرباط رقم 1552، كتبه ابن الخطيب وهو منفي بالمغرب للمرة الثانية إثر وفاة السلطان المريني عبد العزيز وتولية بن غازي الوزير لولده سعيد، ونتيجة للضجة التي ثارت حول هذا الطفل، قام لسان الدين بن الخطيب فألف هذا الكتاب تبريرا للموقف، وتقربا من الوزير صاحب السلطة المطلقة؛ فكان هذا الكتاب بمثابة فتوى مستمدة من التاريخ الإسلامي الذي سجل في ثنايا صفحاته كثيرا من الأحداث المماثلة التي وقعت في مختلف الممالك الإسلامية والتي تبرر ما وقع في المغرب بمناسبة تنصيب طفل كملك للبلاد؛ فاختار بن الخطيب من التاريخ الإسلامي كثيرا من الحجج وقدمها بمهارة ودهاء دفاعا عن الوزير أبي بكر ولإقناع خصومه الثائرين..
      وكل هذه المؤلفات المذكورة -حسب الأستاذ بن شقرون- تتصل بالبيئة المغربية اتصالا مباشرا إذ أنها تستمد الخام منها وتعكس مظاهر التفاعل الذي تم بين ابن الخطيب وهذه البيئة التي آوته واحتضنته برعايتها إلى أن وافاه الأجل المحتوم فلفظ نفسه الأخير، فشاء الله أن تحتضنه فاس لكن تحت ترابها، وقبره مشهور قرب باب المحروق.  
      أما فيما يتعلق بالإبداع الشعري عند لسان الدين، فقد أنجز الباحث غازي أحمد البنواني رسالة بجامعة المنصورة بمصر سنة 2008 بعنوان: “بناء القصيدة في شعر لسان الدين بن الخطيب” تحت إشراف الدكتور علي الغريب الشناوي. قال الباحث نقلا عن أنخل جنثالث بالنيثيا: “ظهرتْ براعتُه (أي لسان الدين) في قرض الشعر، وتَجَلَّى عِلْمه الواسع بالأدب العربي، وإنه لأعظم شعراء العصر الغرناطي”. [“تاريخ الفكر الأندلسي”، ترجمة: د. حسين مؤنس، ص 252، مكتبة النهضة المصرية: 1955م]. وقد اطلعنا على ملخص هذه الرسالة المفيدة في موقع الألوكة (alukah.net)، ومن هذا الموقع استقيت بعض المعطيات التحليلية لدراسة الباحث البنواني حول شعر لسان الدين.  
      والدّيوان الوحيد الذي وصل إلينا يجمع شعر ابن الخطيب هو ديوان: “الصيب والجهام، والماضي والكهام”، وقد حَقَّقه محمد الشريف قاهر، ونشر في الجزائر عام 1975م، أما الديوان الذي اعتمد عليه الباحثُ في دراسته، فحَقَّقه محمد مفتاح بلغزواني، وجعله في مجلدين بعنوان: (ديوان لسان الدين بن الخطيب السلماني)، ويلاحظ أنه استقى مادته في المقام الأول من ديوان: “الصيب والجهام والماضي والكهام”، الذي سبق وأن حقِّق في الجزائر من طرف محمد الشريف قاهر، ومنه جاء أغلب الشعر إلى جانب مصادر ابن الخطيب الأخرى.
      وقد استحَقَّ ابن الخطيب ما قاله عنه أحمد المقري في “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”: “هو الوزير الشهير الطائر الصيت، المَثَل المضروب في الكتابة والشعر والمعرفة بالعلوم على اختلاف أنواعها”، وقد عقب على ذلك بقوله:
      تَصَانِيـــفُ الوَزِيـــرِ ابْنِ الخَطِيبِ           أَلَــــذُّ مِنَ الصِّبَا الغَضِّ الرَّطِيـبِ
      فَأيَّةُ رَاحَـــــةٍ وَنَعِيـــــــمِ عَيْــشٍ          تُوَازِي كُتْبَــــــــهُ أَمْ أَيُّ طِيــــبِ
      إن ديوان ابن الخطيب “على ماله من قيمة أدبية ولغوية عظمى؛ فإنه يعدُّ مرآةً تعكس بجلاء الحياة السياسية والاجتماعية خلال نصف قرن من الزمان، فهو صورة للصراع الإسلامي الرومي، والصراع الداخلي بين سكَّان الأندلس أنفسهم، وصورة للصراع المريني نفسه، وهو أيضًا صورة للحياة المترَفة من قصور وحدائق ومنتزهات” [لسان الدين بن الخطيب: “الديوان”، 1/7، تحقيق: محمد مفتاح بلغزواني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، المغرب، 1409هـ – 1988م].
      وتَبَنَّى الباحث البنواني في دراسته “المنهج التكامُلي لبناء القصيدة، الذي يستعين بكافة المناهج والإفادة منها وَفْق المادة، وطبيعة رصدها، كما أنه ينظر إلى النص الأدبي، وظروف إعداده نظرة شمولية متكامِلة عنه؛ ولذلك فإن هذا المنهج يمتاز بإقامته توازنًا فنيًّا بين المحتوى والشكل، ويحكم على العمل الأدبي بمقدار ما في صياغته ومضمونه من فن، ومن خلال هذا المنهج يتم تفسير العمل الأدبي في ضوء عصره، وظروفه الحضارية والتاريخية، وفي ضوء ظروف مبدع النص وأحواله الشخصية، مما يسهم في صحة النظرة، وسلامة الحكم”.. وتحدث الباحث عن المصادر التُّراثية في شعر لسان الدين، والتي تنوعتْ وتعددتْ ما بين القرآن الكريم والحديث الشريف، ونماذج من الشعر العربي القديم والأمثال والمأثورات النثرية، ولم تقف اقتباسات ابن الخطيب واستلهاماته عند هذه المصادر بلِ امتدتْ لتشمل المعارف والعلوم العامة من أمثال النحو والصرف والعروض والفلك والمنطق، حيث يقول مستلهمًا بعض المصطلحات النحوية (الديوان: 2 /546):
      هَنيئًا لِضَيفٍ فِــــي ذَرَاكَ قَــــرَارُهُ           بِحَيْثُ النَّـــوَالُ الغُمْرُ والكَرَمُ الجَمُّ
      فَآمَالُـــــهُ لِلْفِكْـــرِ نَصْبٌ وعَيْشُــهُ          كَمــــا شَاءَهُ خَفْضٌ وطاعتُـهُ جَزْمُ
      ويقول مُوَرِّيًا بالمصطلحات الفلكية (الديوان: 1 /133):
      هَابَتْ مَقَـــامَـــكَ فَـــاطَّبَبْتُ صِعَابَهَا          حَتَّـــى غَدَتْ ذُلُـــلاً عَلَـــى التَّدْرِيبِ
      إنْ كُنْتُ قَدْ قَــــــارَبْتُ فِــي تَعْدِيلِهَا          لَا بُـــــدَّ فِي التَّعْدِيــــــلِ مِنْ تَقرِيــبِ     
      كما تناول الباحث الصورة الشعرية لدى ابن الخطيب، ودرسها وفق ما احتوتْه أشعاره مِن مضامين ذات مرجعيَّة تراثيَّة أو إبداعية، “محاولاً التعرُّف على مصادر الصورة في شعره، كما حدد أصالة الشاعر في ذلك”. وخلص إلى أن ابن الخطيب جاءت مطالعه موافقة للمقياسين النفسي والفني، حسبما اشترطهما النقاد، ولم يشذَّ عن ذلك إلا نادرًا، كما برع في تخلُّصاته إلى الغَرَض الأساسي في القصيدة، عن طريق الربط الأسلوبي، باستخدام إحدى أدوات الربط، أو عن طريق الربط المعنوي.. وأنه سار على نهج القُدماء في بعض قصائده، وقلَّت المقدمات الطلليَّة، وتنوَّعت المقدمات عنده ما بين طللية، وغزلية، ووصف الطيف، وغيرها من المقدمات، ووجود قصائد بلا مقدمات، ونستطيع تسميتها بـ “قصائد من وحي المناسبة”. إن التجربة الشِّعرية عند لسان الدين جاءت صادقة، وهي صادرة عن حسٍّ مرهف، وبخاصة في قصائد المديح والرثاء والغزل، وقد تحققتْ في معظم قصائده الوحدة العضوية والشعورية معًا؛ اتسمتْ لغته بالسهولة والوضوح، والبُعد عن الغموض، والتعقيد، وجاءت ألفاظه ومعانيه معبرة تعبيرًا صادقًا عنْ أفكاره، وملبية لنداء بيئة حضارية لعبتْ دورًا كبيرًا في تهذيب أخلاقه، وصقل طباعه؛ وقد كان لعُمق ثقافته، وتنوع روافدها، وطبيعة الصراع الذي شهدته غرناطة طوال تاريخها أثرٌ كبير في احتفاء معجمه الشعري بمفردات وتراكيب تنتمي لعدد من الروافد التراثية، مستلهمًا إياها إشارة واقتباسًا وإعادة تشكيل.
      لما زار قبر المعتمد بن عباد بأغمات قال:
      قد زرت قبرك طوعــــــا بأغمات          رأيت ذلك من أولـــي المهمـات
      وقد نقشت أشعار لسان الدين في جدران قصر الحمراء بغرناطة، وفي جدران المدرسة المرينية بسلا، من ذلك قوله بشكل بديع:
      والسّعـــدُ متّصلا من غيــر منفصــلٍ          والعيشُ في رغدٍ والعمــر في جَدلٍ
      سيبقى لسان الدين بن الخطيب -بما له وما عليه- علما كبيرا من أعلام هذه الأمة، ويكفيه فخرا أنه كان يعشق العلم حتى النخاع حتى لقب بذي العمرين؛ لأنه كان يقضي النهار في وظائفه، وجزءا كبيرا من الليل في القراءة والتأليف. مات ابن الخطيب مقتولا بفاس سنة 776هـ، وقبره مشهور بالقرب من باب المحروق. رحمه الله ونفعنا بعلمه.   
      والله الموفق للخير والمعين عليه..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق