مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهِمَّته في طلب العلم.

 

 

 

 إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

هو عبد الله بن عباس بن عبد المطَّلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَبْرُ هذه الأمة، ومفسِّر كتاب الله وترجمانه.

روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شيئاً كثيراً، وعن جماعة من الصحابة، وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله، رضي الله عنه وأرضاه.

وأمُّه أمّ الفضل «لُبابة بنت الحارث الهلالية» أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وهو آخر إخوة عشرة ذكور من أم الفضل للعباس.

ولد رضي الله عنه، قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: عام الهجرة.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، قد بشَّر بمولده، فعن ابن عباس قال: حدثتني أمُّ الفضل بنت الحارث قالت: بينا أنا مارَّة والنبي، صلى الله عليه وسلم، في الحِجْر.

 فقال: «يا أمَّ الفضل».

قلت: لبيك يا رسول الله.

قال: «إنك حامل بغلام».

قلت: كيف وقد تحالفت قريش لا يولدون النساء؟

قال: «هو ما أقول لك، فإذا وضعتيه فأتيني به».

فلما وضعتُه أتيتُ به النبي صلى الله عليه وسلم، فسمَّاه عبد الله وألباه([1]) بريقه، قال: «اذهبي به، فَلَتَجِدْنَهُ كَيِّساً».

قال: فأتيت العباس فأخبرته، فتبسَّم، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قام إليه فقبَّل ما بين عينيه وأقعده عن يمينه، ثم قال: «هذا عمِّي، فمن شاء فَلْيُبَاهِ بِعَمِّه».

فقال العبَّاس: بعض القول يا رسول الله، قال:

«ولم لا أقولُ وأنت عَمِّي وبقيةُ آبائي، والعمُّ والدٌ» ([2]).

ومن فضائله رضي الله عنه:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:

بِتُّ في بيت خالتي ميمونة، فوضعتُ للنبي صلى الله عليه وسلم، غُسْلاً، فقال: «من وضع هذا؟».

قالوا: عبد الله.

فقال: «اللهم علِّمه التأويل وفقهْهُ في الدِّين» ([3]).

وعن أبي وائل قال:

قرأ ابن عباس سورة: «النور»، ثم جعل يُفَسِّرُها، فقال رجل: «لَوْ سَمِعَتْ هَذَا الدَّيْلَمُ، لَأَسْلَمَتْ»([4]).

وعن طاوس، قال:

جالست سبعين أو ثمانين شيخا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحدٌ منهم خالف ابن عباس، فيلتقيان إلا قال: القول كما قلت، أو قال: صدقت([5]).

وروى البخاري في: «صحيحه» عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «ضَمَّنِي النبي صلى الله عليه وسلم، إلى صدره، وقال: «اللهم علِّمْهُ الحِكْمَة»([6]).

همَّتُهُ في طلب العلم:

كان ابن عباس رضي الله عنهما، ذا هِمَّة عالية في العلم والعمل…والداعية إلى الله تعالى بغير علم كقوس بلا وتر…وها هو ابن عباس…قدوة للاقتداء والاهتداء…يخبرنا عن نفسه فيقول:

«لمَّا تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجلٍ من الأنصار:

هَلُمَّ نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير؛ فقال: واعجباً لك يابن عباس! أترى الناسَ يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، مَنْ ترى؟ فترك ذلك. وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديثُ عن الرجل، فآتيه وهو قائل([7])، فأتوسَّد ردائي على بابه، فتَسفى الرِّيح عليَّ الترابَ، فيخرجُ، فيراني، فيقول: يابن عم رسول الله! ألا أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحقُّ أن آتيك، فأسألك. قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناسُ عليَّ، فقال: هذا الفتى أعقل مني»([8]).

وبلغت درجة تحرِّيه في تحصيل العلم إلى أنه كان يسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم([9]).

قلت: وهذا غاية الإتقان.

وظلَّ ابن عباس رضي الله عنهما، يَنْهَلُ من العلم إلى أن رَسَخَتْ قدمُه، وعلا كَعْبُهُ، واشتهر أمْرُه، وظهرت عليه بركاتُ دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام.

يقول أبو صالح:

«لقد رأيتُ من ابن عباس مجلساً لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر؛ لقد رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحدٌ يقدر أن يجيء ولا أن يذهب، قال: فدخلتُ عليه فأخبرته بمكانهم على بابه.

فقال لي: ضع لي وضوءاً، قال: فتوضأ وجلس، وقال: اخرج فقل لهم: من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أريد منه فليدخل.

قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة!!.

فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه أو أكثر، ثم قال: إخوانكم، قال: فخرجوا. ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل.

 قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة!!.

 فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله أو أكثر، ثم قال: إخوانكم قال: فخرجوا، ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها، فليدخل.

 قال: فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة!!.

فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم مثله أو أكثر، ثم قال: إخوانكم فخرجوا، ثم قال: اخرج فقل: من أراد أن يسأل عن العربية والشِّعْر والغريب من الكلام فليدخل.

 فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت والحجرة!!.

 فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال: إخوانكم، فخرجوا !! قال أبو صالح: فلو أن قريشاً كلها فخرت بذلك لكان فخراً، فما رأيتُ مثل هذا لأحد من الناس»([10]).

الدروس والعبر المستخلصة من هذه القصة:

1-  ابن عباس رضي الله عنه، طَيِّبُ الأصْل والفَصْل، بشَّر به النبي، صلى الله عليه وسلم.

2-  سمَّاهُ النبي، صلى الله عليه وسلم، عَبْدَ الله، وَحَنَّكهُ بِرِيقِهِ الشَّريف، وضَمَّهُ إلى صدره، ودعا لهُ قائلاً: «اللهم علمه الحكمة»([11]).

3-  ابن عباس هو ابن عم الرسول، صلى الله عليه وسلم، نشأ وتربَّى في بيت الوحي والنبوة؛ فكثر علمه، وفاض خيره، وعمَّ نفعُه. (والبلد الطَّيِّب يَخْرُجُ نباته بإذن ربِّه)([12]).

4-  يكفي ابن عباس فخراً: أنه حظي بلقبين عظيميْن: «حَبْرُ الأمة، وترجمان القرآن»، استجابة للدعاء النبوي له: «اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل»([13]).

5-  المشيخة الصالحة تؤثِّرُ في الطالب العاقل النَّجيب إيجاباً وخيراً وبركة، وفي مقدمة من تلقَّى عنهم ابن عباس، رضي الله عنه،: النبي صلى الله عليه وسلم، وأمهات المؤمنين، بما فيهنَّ خالتُه ميمونة بنت الحارث الهلالية، وكبار الصحابة، فازْداد فهمه، وكثر علمُه، وتنوَّعت معارفه.

6-  البرور والتَّباهي بالوالدين عامة واجب شرعي، وخاصة الأعمام؛ فالعَمُّ والدٌ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

7-  خدمة ابن عباس للنبي، صلى الله عليه وسلم، نال بها خيراً وبركة، واستجابة دعائه: «اللهم علمه التأويل، وفقهه في الدين»، وبها تُقاس بركة خدمة الصالحين في كل زمان ومكان.

8-  تأثير ابن عباس بقراءته وتفسيره سورة النور في كل من استمع إليه، حتى ولو كان أعجمِيّاً لأسلم؛ نظراً لصوته العَذْب، وتشخيصه للمعاني القرآنية، وتفسيرها الهادف.

9-  كل من خالف ابن عباس من علماء الصحابة وفقهائهم في أيَّة مسألة علميَّة، يرجع في الآخر إلى قوله؛ لعلمه الغزير، ورأيه المسَدَّد، وَيُصَدّقه فيما ذهب إليه. ولا يستبعد ذلك ممَّن ضمَّهُ النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى صدره، وقال: «اللهم علِّمه الحكمة»([14]).

10- ضَرَب ابن عباس المثل الأعلى في طلب العلم، والرِّحلة إلى شيوخ الصحابة واحترامهم، وتحمُّل المشاق في سبيل ذلك، ممتثلا أدب القرآن الكريم: (وَلَو اَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)([15]).

11-  وجوب التَّحَرِّي والتَثَبُّت في نقل العلم؛ لأنه أمانة عظمى، ومسؤولية ثقيلة؛ كما كان يفعل ابن عباس؛ حيث كان يسأل عن الأمْر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

12- مَجَالس ابن عبَّاس العلمية المتنوعة كانت مَبْعَثَ فخر لكل مسلم، ومحلَّ إعجاب وتقدير؛ فما سئل عن شيء إلاَّ أجاب عنه، وأضاف أضعاف ما سئل عنه. وفي هذا إغراء لكل عالم ومتعلم بالمزيد من أخذ العلم، وضبطه، وحُسن تعلُّمه وتعليمه…

13-  موسوعية ثقافة ابن عباس هِبَةٌ عظيمة، ومسعى نبيل، نفَّع الله به الأمة. (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُون)([16]).

  والحمد لله رب العالمين

 


([1])  ألباه: حَنَّكَه.

([2]) رواه الطبراني في: المعجم الكبير: 10/ 235،  والهيثمي في: مجمع الزوائد، باب مناقب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، رقم: (15514) 9/ 275، وإسناده حسن، كما ذكر ذلك الألباني في: السلسلة الصحيحة: 3/ 34.

([3]) رواه أحمد في: «المسند»، مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: 3/ 337، والطبراني في: المعجم الكبير، باب العين، من اسمه عبد الله، أحاديث عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، ومن مناقب عبد الله بن عباس وأخباره رقم الحديث: (10587) 10/ 238، والحاكم في: المستدرك على الصحيحين، ذكر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، رقم: (6287) 3/ 617. والحديث صحيح الإسناد، اتفق عليه الشيخان ولم يخرجاه.

([4]) رواه يعقوب بن سفيان في: «تاريخه» بإسناد صحيح عن أبي وائل: 1/ 495، وابن حجر في: فتح الباري، رقم: (3756) 7/ 100، ورواه أبو نعيم في: «الحلية» من وجه آخر بلفظ: «سورة البقرة»: 1/ 324.

([5]) رواه الهيثمي في: «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد»، باب جامع فيما جاء في علمه، وما سُئِلَ عنه، وغير ذلك، رقم: (15522) وقال فيه: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح»  9/ 277.

([6])  رواه البخاري في: صحيحه، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، رقم: (3756) 5/ 27.

([7]) قائل: المقيل والقيلولة: الاستراحة نصفَ النهار، وإن لم يكن معها نومٌ، يقال: قال يَقِيلُ قَيْلُولة فهو قائِل. انظر: لسان العرب؛ لابن منظور، مادة: (قيل).

([8]) رواه الدارمي في: سننه، باب الرحلة في طلب العلم، واحتمالِ العناء فيه، رقم: (590) 1/ 467، وصححه الحاكم في: المستدرك على الصحيحين، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط البخاري وهو أصل في طلب الحديث وتوقير المحدِّث»، ووافقه الذهبي 1/ 188.

([9])  تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال؛ للذهبي: 5/ 193.

([10]) البداية والنهاية: 6/ 60، 61. والقصة من كتاب: (صور ومواقف من حياة الصحابة)؛ لسعد يوسف أبي عزيز، ص: 273- 277.  

([11]) سبق تخريجه.

([12]) سورة: الأعراف، من آية: 52.

([13]) سبق تخريجه.

([14]) سبق تخريجه.

([15]) سورة: الحجرات، آية: 5.

([16]) سورة: المطفِّفين، من آية: 26.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق