مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (14): التشوف إلى مقامات التصوف (3) درر من تفسير ابن جزي الغرناطي (مقام الذكر)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده

وبعد فهذه درة ثالثة من نفائس درر الإمام العلامة أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي المالكي (ت:714) اقتنصت من تفسيره المسمى بـ«التسهيل لعلوم التنزيل» منتزعة من قوله سبحانه في سورة البقرة ﴿فاذكروني أذكركم﴾ [البقرة:152] فصل بها مقام الذكر الذي هوأقرب المسالك إلى الترقي في مدارج الأصفياء، وأدناها إلى حميد الاصطفاء، وأسهلها على العباد، وأفضلها عند الله، وهو ما أشار إليه الإمام ابن جزي فيما يأتي؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم..﴾ الحديث..

فلا غضاضة أن يكون ديدن الأنبياء، وترنم الأولياء، وأنين الصالحين، وسلم المرتقين، وبريد الواصلين، وباب الداخلين، فمن أعطيه فقد وفق وارتقى، ومن حرمه فقد هوى، قال صلى الله عليه وسلم:  ﴿ما عمل ابن ءادم عملا قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله﴾([1]) وقال قائلهم:

والذكر أعظم باب أنت داخله** لله، فاجعل له الأنفاس حراسا

والذكر بمفهومه الواسع يسع القول باللسان، والتأمل بالجنان، والفعل بالأركان؛ ليشمل شطري الأحكام اكتسابا واجتنابا: فيدخل في الأول الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والصدق والأمانة، وبر الوالدين، وحسن الجوار، ومحاسن الأخلاق برمتها.

 وفي الثاني: المحارم بكليتها كالكذب والخيانة، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وانتهاكِ الحرمات في الدماء والأموال والأعراض، فلا عجب أن يكون من جوامع كلم المصطفى قوله عليه السلام لمن سأله قائلا: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فأوصني بشيء أتشبث به. قال: ﴿لا يزال لسانك رطبا بذكر الله﴾([2]) وهو فحوى قول الشاعر:

ذكرتك لا أني نسيتك لمحة**وأيسر ما في الذكر ذكر لساني

وللذكر ثمرات وافرة وارفة، أعلاها سمو في المقام، ودنو من الرحمان، واصطفاء واجتباء، فينعكس ذلك في إنسان سوي طائع لله: بقلب أرق وأصلب وأصفى، ونفس مطمئنة أسعد وأهنا، وعمل أتقن وأنقى، ورأي أسد وأهدى، إنسان متصل بالله، معمور بتقواه، يُصدر بنور منه سبحانه، قد اشتملت عليه مكارم الأخلاق: يفرج هما، ويكشف كربا، ويجبر كسيرا، ويعلم جاهلا، ويهدي ضالا، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانيا، ويشبع جائعا، ويكسو عاريا، ويُقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمن روعة. انطبع في صفاء ذهنه ما يفعل وما يذر في طاعة وامتثال، وتجرد وإخلاص، وحلم وأناة: نافع لنفسه، منتج لوطنه، مسهم بالخير في أمته، وذلك من نتاج الصقالة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لكل شيء صقالة، وإن صقالة القلوب ذكر الله﴾([3])

أما من غفل عن ذكره، وأعرض عن مناجاته ، فقلبه صدئ بتراكم الذنوب والأوزار، ونفسُه مطمورة بأوحال من الهموم والأحزان، حيران لا قرار له، مشتت الذهن لا أهداف لديه، يزور ذات اليمين وذات الشمال، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه: عبء على أسرته ووطنه وأمته وذلك معنى الفرط في قوله سبحانه: ﴿ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هويه وكان أمره فرطا﴾ [الكهف:28]

فثمة بون شاسع بين ذاكر لله مطمئن مرتاح، وسادر لاه مرتجف حذر، تماما كما قال عليه السلام ﴿مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت﴾([4])

وبه ندرك مقام الذكر عند القوم، وخطير أهميته في العروج  بتدرج إلى الله من غفلة إلى يقظة، ومنها إلى حضور، ومنه إلى فناء في الذكر عما سوى المذكور، قال ابن عطاء الله في الحكم: «لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه؛ لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عما سوى المذكور ﴿وما ذلك على الله بعزيز﴾..»([5])

وإنها لوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم كما صح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلت: أيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ﴿أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله﴾.([6])

فلعظيم موقعه الذي ترى، وكبير فضله، ويانع ثماره احتفى به الإمام هـهنا أيما احتفاء من خلال جمل خمس: أنواع الذكر بحسب آلته، وفضله مع أدلته، ومقاصده ثم أقسامه مع خواصه وثمراته، فإليكم هذه الجمل مفصلة عند أبي القاسم رحمه الله.

قال: ﴿فاذكروني أذكركم﴾ [البقرة:152]. قال: سعيد بن المسيب: معناه اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، وقيل: اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحو ذلك، وقد أكثر المفسرون، لا سيما المتصوفة في تفسير هذا الموضع بألفاظ لها معاني مخصوصة، ولا دليل على التخصيص.

وبالجملة فهذه الآية بيان لشرف الذكر، وبينها قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يرويه عن ربه: ﴿أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه: ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ: ذكرته في ملأ خير منهم﴾([7])

والذكر ثلاثة أنواع: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وبهما معا.

واعلم أن الذكر أفضل الأعمال على الجملة، وإن ورد في بعض الأحاديث تفضيل غيره من الأعمال كالصلاة وغيرها؛ فإن ذلك لما فيها من معنى الذكر والحضور مع الله تعالى.

والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه:

 الأول: النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال، قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ﴿ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله﴾([8]) وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: ﴿ذكر الله﴾ قيل: الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ﴿لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه ويختضب دما لكان الذاكر أفضل منه﴾.([9])

 الوجه الثاني: أن الله تعالى حيث ما أمر بالذكر، أو أثنى على الذاكرين اشترط فيه الكثرة، فقال: ﴿اذكروا الله ذكرا كثيرا﴾ [الأحزاب: 41]، ﴿والذاكرين الله كثيرا﴾ [الأحزاب: 35] ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال.

 الوجه الثالث: للذكر مزية هي له خاصة وليست لغيره، وهي الحضور في الحضرة العلية، والوصول إلى القرب الذي عبر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية، فإن الله تعالى يقول: ﴿أنا جليس من ذكرني﴾([10]) ويقول: ﴿أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني﴾ متفق عليه من حديث أبي هريرة. وفي رواية البيهقي: ﴿وأنا معه حين يذكرني﴾.

وللناس في المقصد بالذكر مقامان: فمقصد العامة اكتساب الأجور، ومقصد الخاصة القرب والحضور، وما بين المقامين بون بعيد. فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب، وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب.

واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة: فمنها التهليل، والتسبيح، والتكبير، والتحميد، والحوقلة، والحسبلة، وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والاستغفار، وغير ذلك.

 ولكل ذكر خاصيته وثمرته:

 فأما التهليل فثمرته التوحيد أعني التوحيد الخاص؛ فإن التوحيد العام حاصل لكل مؤمن.

 وأما التكبير فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال.

 وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة كالرحمن الرحيم والكريم والغفار وشبه ذلك، فثمرتها ثلاث مقامات، وهي: الشكر، وقوة الرجاء، والمحبة؛ فإن المحسن محبوب لا محالة.

 وأما الحوقلة والحسبلة: فثمرتهما التوكل على الله، والتفويض إلى الله، والثقة بالله.

وأما الأسماء التي معانيها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك فثمرتها المراقبة.

 وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فثمرتها شدة المحبة فيه، والمحافظة على اتباع سنته.

 وأما الاستغفار فثمرته الاستقامة على التقوى، والمحافظة على شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدمة.

ثم إن ثمرة الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قولنا: الله، الله. فهذا هو الغاية وإليه المنتهى.

التسهيل لعلوم التنزيل للعلامة لأبي القاسم الغرناطي:1/248..


([1]) المعجم الأوسط للطبراني:5/3.

([2]) سنن الترمذي ح رقم: 3375.

([3]) الترغيب والترهيب للمنذري: 2/327.

([4]) صحيح البخاري:ح 6407.

([5])شرح الحكم العطائية للبوطي:1/55.

([6])الترغيب والترهيب للمنذري:2/326

([7]) البخاري ح 7405، ومسلم ح4832.

([8]) سنن الترمذي ح رقم:3377.

([9])  نفسه: ح رقم:3376.

([10]) حديث مشهور لا أصل له، ن النوافح العطرة في الأحاديث المشتهرة لمحمد بن أحمد بن جار الله الصعدي. تحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا: 58

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق