مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع الدكتور أحمد جبار

– هل استطاعت الميتافيزيقا وخصوصا، الأنطولوجيا، أن تشكل أساسا لإنجاز نوع معين من الرياضيات؟

أحمد جبار: يفترض سؤالكم أن اعتبارات فكرية ميتافيزيقية استطاعت أن تؤدي إلى أبحاث رياضية. نظرا للمعارف الحالية حول التقليد الرياضي الإسلامي، والتي تظل جزئية بسبب اعتمادها على المخطوطات التي اكتشفناها وندرسها، فإننا لا نستطيع تأكيد أي شيء. وهذا لا يعني أنه لن يتم في يوم ما إيجاد كتابات حول هذا الموضوع. لكن في الوقت الراهن، لا أعرف باحثا انطلق من مسائل ميتافيزيقية لوضع نتائج رياضية، باستثناء بعض الأمثلة المحدودة، يمكن الاستشهاد خصوصا ببعض الدراسات الفلسفية لنصير الدين الطوسي في القرن 13م، أو تلك التي ترجع لرياضيين جد متأخرين أرادوا شرح ابن سينا وحاولوا إدخال بعض الإجراءات الرياضية وليست الميتافيزيقية بغرض حل مشاكل منطقية. وفي هذا السياق مارسوا التحليل التوافيقي الذي بقي مع ذلك ابتدائيا. لكن بصفة عامة، لا يمكن أن نعتبر أن المشاكل المرتبطة بالفلسفة قد استطاعت أن تؤدي إلى تطور رياضي مهم. بالمقابل، فإن بعض المشاكل اللغوية أو التطبيقات الدينية قادت إلى أعمال رياضية وفلكية مهمة، بينما قاد كل هذا إلى تطوير أدوات رياضية جديدة. على سبيل المثال، فإن دراسة اللسانيات ونحو اللغة العربية التي كانت في تلك الفترة لغة السلطة هو ما أسهم في وضع مسألة صناعة المعاجم. فعند دراسة لغة ما، يتم وضع مسألة إنجاز المعجم، التي تؤدي إلى مسألة طريقة اشتقاق كل كلمات اللغة وترتيبها لصناعة هذا المعجم. إنها مشكلة رياضية حقيقية برزت مع نهاية القرن الثامن، ولم تجد حلا فوريا. في حين أنها كانت أساس الأبحاث التي ستُنجَز أساسا في مراكش وليس بمركز الإمبراطورية، والتي ستتطور إلى حدود القرن 12م. هذا يبرز بداية أن العلوم كانت تنتشر بطريقة جد مهمة من سمرقند إلى سرقسطة، وأنه بالرغم من شساعة الإمبراطورية فإن المراكز العلمية حافظت على روابط متينة فيما بينها. هذه إذن مسألة خارجة عن الرياضيات قادت إلى تطوير البحوث في الرياضيات. لكن للعودة إلى سؤالكم، يمكن إيجاد علاقة معاكسة: ليست الميتافيزيقا هي التي أدت إلى أبحاث رياضية، لكن الرياضيين  الذين يمارسون الرياضيات هم الذين يضعون أسئلة تخرج عن ميدانهم.

-ماهو دور ووضع الخيال ضمن الأنشطة العلمية، وخصوصا في مجال الرياضيات المنجزة في البلدان الإسلامية؟

أحمد جبار: يمكن اعتبار الخيال والحدس عنصريين ذاتيين في المجال العلمي، ولا ينظر إليهما بنفس الطريقة في المجال الفلسفي والصوفي. فعندما نقول مثلا إن التحليل والتركيب يشكلان أداتين قويتين للفكر، فدلالة هذا عند الفلاسفة غير دلالته عند الرياضيين. فكثير من الناس يتحدثون عن الرياضيات واضعين في اعتبارهم تجربة الفلسفة والميتافيزيقا فقط. يجب أن نلاحظ جيدا بأن هذه المباحث قد كانت منفصلة عن بعضها تماما في البلدان الإسلامية. ومنذ مدة كان هؤلاء الذين يتحدثون عن الرياضيات أناسا يعرفون جيدا تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة وعلم النفس أو الأنشطة الدينية كالفقه، وقد حاولوا أن يشرحوا على ضوء مفاهيمهم ما كان يجري في الميدان الرياضي، بينما لم يكونوا هم أنفسهم بالضرورة على معرفة كبيرة بالمعارف العلمية. فجيلنا من المؤرخين المتخصصين في تاريخ الرياضيات يفهم جيدا هذه المادة، وبهذا المعنى، لا نستطيع القول بسهولة إن رياضيا ما قد مارس التأمل الميتافيزيقي باستعمال الرياضيات. لقد مارست الأغلبية الرياضيات البحتة كما يفعل ذلك الرياضيون اليوم. وبالعودة إلى مسألة الخيال والحدس، فإنهما يوجدان في كل مكان من المنهج الرياضي، وهذا ما يتحدث عنه الرياضيون أنفسهم، فعندما يمارسون الرياضيات، يقولون إنهم يلجأون إلى الخيال، فيقولون مثلا: تستطيعون تخيل مثل هذا الخط الذي ينتقل…

استطاعوا إذن بفضل الخيال أن يدخلوا الحركة التي كانت مرفوضة من قبل اليونان، فجعلوا  طريقة ممارسة الهندسة تتقدم على هذا النحو. لقد تمكنوا إذن من إدخال الحركة التي سبق ورُفِضت من طرف أرسطو، وبذلك فقد خالفوه. لكن، كان هناك داخل جماعة الرياضيين المسلمين من سايره، وكان منهم من أراد ممارسة الرياضيات فقط. فقد كان هناك رياضيون فلاسفة، كابن سينا وعمر الخيام الذي انتقد ابن الهيثم قائلا بأنه كان رياضيا كبيرا ولم يكن فيلسوفا جيدا. كما اعتبر من وجهة نظر فلسفية فعل ادخال الحركة للبرهنة على فرضيات ما عبارة عن هرطقات. إذن، فقد أدخل البعض الحدس والخيال وبالتالي الحركة في المنهجية الرياضية، في حين اعتبر البعض الآخر أنه من الواجب ممارسة الرياضيات فقط من خلال الموضوعات الموجودة في العقل، والتي تعطى تعريفات نظرية محضة دون إدخال الحركة. على سبيل المثال، فإن هؤلاء قبلوا القول بأن الدائرة هي مجموع النقط التي على مسافة متساوية من نقطة أخرى تسمى المركز. وهذا النوع من التعريفات هو ما يفضله أرسطو وأقليدس، والذي ينتمي إلى مجال الهندسة الثابتة. لكن إذا قال رياضي ما إنه حر بأن يعرف الدائرة كنتيجة لتحرك مستقيم يدور حول نقط ما، وطرفه يرسم منحنى مقوسا يسمى بعد ذلك دائرة، فقد أدخل الحركة. لكن إذا كانت النتيجة هي نفسها في النهاية، فإن بعض الرياضيين كانوا مع الحركة وآخرون ضدها لأسباب فلسفية وميتافيزيقية. فهذا نموذج على تدخل الميتافيزيقا في الخطوات الرياضية. يمكن إذن وضع تمييز بين أولئك الذين أجهدوا أنفسهم في احترام القواعد الميتافيزيقية سيرا على أثر ابن سينا، وأولئك الذين أرادوا قبل كل شيء حل المسائل، ومارسوا الرياضيات لإيجاد ما اعتبروه قوانين لا تشكل إلا حروفا صغيرة في محيط العلم الإلهي. في هذه الحالة، طالما وجدت النتيجة، فلا تهم الطريقة، لأن الله هو الوحيد الذي يبقى المالك المطلق للعلم.

-إذا تم اعتبار النزعتين الحدسية intuitionnisme والتكوينيةconstructivisme  توجهين رئيسيين في فلسفة الرياضيات، مع أي منهما تنسجم فلسفة الرياضيات المنجزة في البلدان الإسلامية بشكل أفضل ؟

أحمد جبار: لا أعتقد أن الرياضيين قد أنجزوا فلسفة للرياضيات، فقد أراد رياضيو الإسلام حل المسائل، وبناء نظريات، لكنهم لم يذهبوا بعيدا في هذا المجال. كمؤرخين نحاول كتابة نوع من الفلسفة تخص رياضيات البلدان الإسلامية، وكذلك فهم كيفية ممارستهم للرياضيات. لا أسمي هذا فلسفة للرياضيات، بل هي بالأحرى إبستمولوجيا. الشيء الذي يحيل أكثر إلى التفكير في الطريقة التي فكر بها الرياضيون المسلمون ومارسوا بها الرياضيات. كيف كانت طبيعة ممارستهم؟ ما هي العوائق الإبستمولوجية التي واجهتم؟ نحن نسعى على وجه التحديد إلى أن نعرف لماذا كان الخيام قادرا على إيجاد نظرية هندسية للمعادلات التكعيبية، لنكتشف أن ذلك قد حصل لأنه فشل في بدايةً في حل المشكلة بالطرق الحسابية. ويشير الخيام في كتابه في الجبر إلى أنه إلى حدود تلك الفترة لم يجد أحدٌ من رياضيي البلدان الإسلامية طريقةً لحل معادلة من الدرجة الثالثة بواسطة “الحساب”، ويضيف باحتراس بعد ذلك أنه من المحتمل أن يكون الإغريق قد وجدوا الطريقة، لكن لا شيء من هذا وصل إلى رياضيي الإسلام. ثم يقول إنه بعد التفكير، وانطلاقا من كل المحاولات التي قام بها سابقوه كالقوهي وابن الهيثم والبيروني… توصل إلى إيجاد نظرية عامة. كما كشف أيضا عن وجود عائق إبستمولوجي فرض على الرياضيين البحث عن طريقة جديدة. من جهة أخرى، فغالبا ما تتقدم العلوم على هذا الشكل: سواء بتجاوز العائق، أو بتحاشيه. ولإيجاد الحل بطريقة أخرى، سيتم اصطناع أدوات جديدة، ما دامت القديمة لم تسمح بالذهاب بعيدا. من الممكن أن تعادل هذه الإبستمولوجيا فلسفة للرياضيات، ويسميها بعض الزملاء هكذا. لكني أفضل عبارة أكثر تواضعا، هي إبستمولوجيا الرياضيات. لماذا مارس الرياضيون المسلمون الرياضيات في هذا الاتجاه لا في غيره؟ لماذا قاموا في لحظة محددة بتطوير الجبر وعلم الفلك؟ لماذا حصلوا على نتائج في نظرية الأعداد التي كانت لها علاقة بالتقليد الإغريقي فقط؟ هذا ما يجتهد مبحثنا في الإجابة عليه، لكننا نظل جاهلين للعديد من الأمور.

– يشار في كثير من الأحيان إلى فكرة الطلاق الذي حدث بين الفلك والتنجيم، وكذا بين الكيمياء والخيمياء، من وجهة نظر علمية، هل كانت هناك وحدة قبل الحديث عن الطلاق؟

أحمد جبار: كان العلماء يعرفون جيدا الفرق بين الفلك والتنجيم في بداية المغامرة العلمية للبلدان الإسلامية. أما فيما يخص الكيمياء، فلم يكن عند المسلمين إلا كلمة واحدة للتعبير عن لفظ “La chimie” وهي “الكيمياء”، وفكرة وجود نوعين من الكيمياء هي من تصنيف وُضع من طرف مؤرخي العلوم الأوربية بعد القرن 18م. بالمقابل، ففي الكيمياء الإسلامية كما في أي كيمياء وجدت من قبل، كان هناك كيمياء نظرية – وهي التي ستسمى في ما بعد بالكيمياء السرية أو الكيمياء ذات الامتدادات الصوفية- وكيمياء مختبرية. وكلاهما تمارَسان من قبل نفس الشخص، كانت هذه إذن هي الكيمياء. وانطلاقا من القرن 12 م، سيتُرجم جزء من الكتابات الكيميائية للعلماء المسلمين. لكن للأسف، لم تترجم إلا تلك التي كانت مكتوبة ومتحاتة في تلك الفترة، وتتصدرها الأبنية النظرية أو الكيمياء السرية التي مثَّلتْ النظرية الأساسية في تلك الفترة قبل ظهور النظرية الجزيئية. بداية وُجدت النظرية الإغريقية التي أخذها المسلمون وأعادوا تطويرها مع الرازي والجلدكي وآخرون… ثم سيعرف الأوربيون قطيعة في فترة “لافوازييه” مع “نظرية الفلوجستون” la théorie du phlogistique قبل ظهور النظرية الجزيئية. إذن فقد كان هناك على الأقل ثلاث مراحل متتابعة، شكلت تأويلات مختلفة للأشياء الملاحظة والمستعملة في التطبيق، وتسمى بـ”النظريات الكيميائية”. وكما هو الحال في النظريات الفيزيائية، فإن كل نظرية منها تحتوي على شيء من الحقيقة، ثم تُتجاوز فيما بعد لتعوض بنظريات جديدة، لأنها لم تجب عن كل الأسئلة التي يثيرها التطبيق. بيد أن كل نظرية جديدة ترفض جزءا وتحتفظ بجزء من النظرية السابقة. عندما سيكتشف الأوربيون الفلوجستون والنظرية الجزيئية سيقولون: “كل ما قام به الكيميائيون من قبلنا – أي المصريون واليونان والفرس قبل الإسلام وكذا المسلمون- كان نوعا من الكيمياء، وما نمارسه نحن كيمياء أخرى مختلفة”. وبما أن الإيديولوجيا تتدخل كثيرا في العلم، فسيسمي الأوروبيون كيمياءهم بالكيمياء المعاصرة، لكي ينعتوا فيما بعد كل ما كان موجودا من قبلُ بـ”الخيمياء” تمييزا لها عن الكيمياء التي أُنجزت من طرفهم، بينما لم تعرف أوربا كيمياءً قط من قبل؛ إذ يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الكيمياء الأوربية في القرن 12م إلى حدود القرن 17م جاءت بكاملها من الكتابات العربية المترجمة إلى اللاتينية. وهذه ظاهرة لا تقبل النقاش. لقد كانوا يملكون القليل من الرياضيات والفلك، ولم تكن لديهم كيمياء. فكل الكيمياء المنجزة في أوربا تجد مصادرها إذن في الكتابات العربية. تساعدنا البحوث إذن على تغيير نظرتنا إلى الوقائع، وتقودنا بالتوازي مع ذلك إلى تغيير على مستوى الاصطلاح. الشيء الذي يكتسي أهمية بالغة. وفي ما يتعلق بالتغيير في المصطلح: يجب علينا ألا نكتب أبدا أن المسلمين “نقلوا” علومهم إلى الأوربيين. فكلمةُ “نقل” لفظ مضلل. فلم يتخذ المسلمون أبدا قرارا على مستوى الوقائع بنقل علومهم، لأن فلسفتهم وإدراكهم للعالم، ومعرفتهم الخاطئة بجيرانهم، كل ذلك جعلهم يعتقدون أن جيرانهم كانوا غير قادرين على فهم العلوم التي أنتجت في البلدان الإسلامية. لم يفكروا أبدا في مساعدة الأوربيين كما يفعل اليوم من يريد أن يساعد الإيرانيين والجزائريين أو الأفارقة بدعوى أنهم أقل تطورا. فقد حدث العكس في تلك الفترة: اعتبر المسلمون أن من ينتج العلم يستطيع أن يمارسه معتمدا على نفسه شريطة أن يعالج كل مشاكل الحياة المادية، أي أن يأكل لسد جوعه ويحصل على مسكن لائق…، فلم يكن العلم إلا من الكماليات. في البلدان الإسلامية لم يتم اعتبار العلم أداة للتصنيع رغم أنه أسهم في حل مشاكل ملموسة وفي إيجاد حلول لمشاكل الحياة اليومية. وفلسفيا، اعتبر المسلمون العلم هبة من الله تسمح لهم بتجاوز الوسائل الفانية، وتجعلهم يقتربون أكثر من بعض الحقائق الإلهية التي تشكل قوانين الطبيعة. وفي تصورهم، أن الله يعلم كل شيء، لكنه يسمح للكائن البشري بعلم بعض الجزئيات اليسيرة. وهذا الموقف أعطاهم الحرية في أن يمارسوا العلم كما يريدون، لأنهم يقولون: مهما كانت أهمية ما يتوصلون إليه، فلن يكون شيئا بالمقارنة مع كل المعرفة الإلهية. وبهذا المعنى، لا يستطيع أحد أن يمنعهم من ممارسة العلم. فلا يستطيع أي من علماء العقائد المحافظين- وقد كانوا كثرا- أن يمنعهم من وضع فرضيات كانت أحيانا ثورية. فبعض علماء الفلك ناقشوا في إيران فرضية دوران الأرض حول نفسها، الشيء الذي كان ثوريا حقا في تلك الفترة، لأن الفكرة الشائعة آنذاك: أن الأرض ثابتة.

 

الصفحة السابقة 1 2 3
Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق