مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةحوارات

حوار مع الدكتور أحمد جبار

-اعتبر أفلاطون في نظرية المثل، الموضوعَ الرياضي في عداد الصور الوسطى idées médianes، بصفة عامة، كيف كانت ردة فعل رياضيي البلدان الإسلامية تجاه النظرية؟

أحمد جبار: بداية، يجب أن ندقق القول، فرياضيو البلدان الإسلامية لم يكونوا بالضرورة فلاسفة، لذا لم يكونوا يعرفون ضرورة كتابات أفلاطون. زيادة على ذلك فإن المسلمين ترجموا أرسطو بشكل خاص. نعم، ترجموا أفلاطون لكنهم اشتغلوا أكثر على أرسطو، فكانوا على معرفة أفضل به. بناء على ذلك، عندما يريد رياضيو الشرق والغرب استعمال الفلسفة للتعبير عن بعض الأفكار فإنهم يستشهدون بأرسطو دائما لا بأفلاطون. إذن فقد وصف أفلاطون الرياضيات المثالية، الموجودة في عالم “المثل”، وهذه فكرة كانت مقبولة من قبل العديد من الرياضيين حتى لو لم يقرأوا أفلاطون، ذلك أن الرياضيين يشتغلون على أفكار تأتي مع ذلك من بيئة مشخصة.

     ففكرة الدائرة والمستقيم والخط والمربع وكذا بعض المنحنيات المعقدة… تُرى جميعُها بداية في الطبيعة. فلدى الرياضيين بصفة عامة توجه أفلاطوني دون أن يعرفوا أفلاطون، مثل السيد    Jourdain الذي مارس النثر دون أن يعرفه ! لكن رياضيي البلدان الإسلامية لم يمارسوا الرياضيات بطريقة أفلاطونية، لأنهم  كانوا واقعيين أكثر. كان هناك نوعان من الرياضيات:

(الأولى) رياضيات ملموسة، وهي التي استجابت لحاجيات المجتمع، وطورت أدوات لحل مشاكل مسح الأراضي والهندسة المعمارية، والميكانيكا، والفيزياء. وبحثت في فهم كيفية تشكل الضوء. كيف يأتي إلينا؟ كيف تتم الرؤية؟ لماذا لقوس قزح ألوان عديدة؟ هذه أسئلة نظرية وعملية معا.

و(الثانية): رياضيات نظرية، لأن الرياضيين لم يقوموا بحل المشاكل المشخصة فحسب، بل وضعوا أيضا أسئلة نظرية. وتكون هذه الأسئلة جد بسيطة أحيانا، ولكن نتائجها يمكن أن تكون جد معقدة، ولا تفيد ما هو تطبيقي أو آني في شيء، وإنما تسمح للرياضيين بامتحان وتطوير أدوات نظرية في محاولة لإيجاد الحل حبا في الإطلاع فقط. غير أنه لا وجود للمعجزات في الميدان الرياضي. فالرياضيات هي قبل كل شيء عبارة عن تراكم وتراكيب وبناءات متطورة متقنة. ولحل مشكل معقد، يجب الاعتماد غالبا على كل إرث السابقين. إذن، ففائدة هذه الأعمال ليست في الغالب البرهنة على النتيجة، بل في تطوير أدوات رياضية جديدة، تخدم إنجاز هذه النتيجة نفسها. من الممكن ألا يفيد هذا في شيء، لكن الأدوات التي تم تطويرها لإيجاد النتيجة تستطيع خدمة الفيزياء والرياضيات، لأنها لا تشتغل في الغالب لأجل الحاضر ولكن للمستقبل بشكل أكبر. في هذا كله تكمن قوة الرياضيات، وضعفها أيضا.

– ما هي العلاقات التي وُجدت بين العلم و الروحانيات (spiritualité) إبان هذا “العصر الذهبي” الذي نحن بصدد الحديث عنه؟ هل عمِل العلماء على تحقيق أهدافِ الفضول الفكري وتحسين شروط الحياة المادية، أم أنهم ارتبطوا بطريقة أو بأخرى بمذهب متعال؟

أحمد جبار: لا نملك نصوص رياضيين يقولون هذا. كما تعرفون، فالرياضيون كالحرفيين، يتجهون نحو التخصص حسب كفاءاتهم. ويعتقد الناس غالبا أن رياضيي البلدان الإسلامية كانوا كابن سينا الذي يعرف كل شيء، في حين أن هذا أبعد ما يكون عن واقع الحال. لقد كان ابن سينا عالما موسوعيا، بيد أن غالبية علماء الإسلام لم يتخصصوا إلا في مبحث أو مبحثين أحيانا. فالعديد من الرياضيين لم يكونوا فلاسفة ولا رجال دين ولا فيزيائيين، وحتى الرياضيون لم يكونوا مهندسين أو منظرين، ولكن كانوا على سبيل المثال جبريين فقط. لقد أقاموا دون شك روابط بين بعض المسائل التي وضعوها وبين ما هو روحي، لكن للأسف لا نملك كتابات تثبت هذا، إننا كباحثين نعتمد على نصوص، لا نستطيع السماح لأنفسنا بمجرد التكهن.

– يعتبر رشدي راشد أن أعمال ديكارت، في المجال الرياضي، تقتفي أثر أعمال الخيام، ما رأيكم في هذا؟

لا يوجد بين المتخصصين دائما نفس الرأي حول مسألة ما. ففي نطاق ما قدمه عمر الخيام من دراسة للمعادلات من الدرجة الثالثة، يمكن القول بصفة عامة إن رياضيي أوروبا سيواصلون الأبحاث التي تم التوصل لها في البلدان الإسلامية، وخصوصا تلك الأبحاث التي لم تلق حلا. كان الخيام أول من وضع نظرية في هندسة المعادلات التكعيبية، لأنه فشل في حل المعادلات بالجذور كما يقول هو نفسه. وسوف يتم إيجاد الصيغة المطلوبة في القرن 16م في إيطاليا من قبل “ترتاغليا” Tartaglia و”كاردن”،Cardan  و”بومبيللي” Bombelli . لماذا وجد الإيطاليون الصيغة بينما فشل المسلمون في ذلك؟ إن الفرضيات مركبة وتهم طريقة كل واحد منهم في ممارسة الرياضيات. هذا لا يرتبط البتة بالذكاء، لأن لكل مرحلة رجالها الأذكياء، لكن طريقة ممارسة الرياضيات في فترة ما، تُمَكن من إيجاد بعض النتائج التي تعكس انشغالات المجتمعات في تلك اللحظة.

   لإقامة رابط بين ديكارت والخيام، يجب البحث لمعرفة ما إذا كان ديكارت على معرفة بأعمال الخيام، وليس لدينا دليل مكتوب بخصوص هذا. كباحث ينتابني شك ولا أتوفر على أي معطى يسمح لي أن أثبت أن كتابه قد وصل إلى الغرب، كما لا نملك أدلة عن وصول كتابه “مقالة في الجبر والمقابلة” إلى المغرب أوالأندلس. بينما – بشكل عام – لكي يصل كتاب ما لرياضيي الإسلام إلى أوروبا، يجب بداية أن يمر من المغرب، وإسبانيا المسلمة، أو إيطاليا، ولا نملك دلائل على أن أعماله قد ترجمت بطليطلة أو بالرمو، ولدينا مع ذلك شاهد واحد هو المؤرخ الكبير ابن خلدون، الذي ولد بتونس وتوفي في سنة 1406م. يشير في كتابه الأساسي، “المقدمة”، إلى أن رياضيا من الشرق درس أكثر من ست معادلات ليصل حتى 25. إذن فالمعلومة ليست دقيقة. يمكن التأكيد إذن على أن أعمال عمر الخيام لم تكن معروفة في المغرب إبان القرن 14. ولهذا يبدو أنه من المستبعد أن تكون قد عُرفت من قبل الأوروبيين. الشيء الوحيد الذي يمكن إذن تأكيده هو أن الأعمال الرياضية لديكارت قد ارتبطت بتقليد جديد خاص بأوروبا، والذي شُيد على الرياضيات اليونانية ورياضيات البلدان الإسلامية. أما الباقي فلا يعدو كونه مجرد فرضية.

– ما هي العوامل التي أدت إلى تدهور العلم المنجز في البلدان الإسلامية؟

أحمد جبار: عندما يتم الحديث عن التدهور، يعتقد في الغالب أنه في لحظة محددة، وفي كل مناطق الإمبراطورية، تُلاحَظ ظاهرة تتجلى في تراجع وتباطؤ وفقر الأنشطة العلمية، وتؤدي إلى غياب الابتكار. لقد حدثت هذه الظاهرة بالفعل، لكنها لم تكن معممة في كل أنحاء الإمبراطورية. بالإضافة إلى ذلك، لم تنطلق في نفس اللحظة في المناطق المختلفة، كما لم يكن لها نفس القوة في كل الأمكنة. ذلك أن البلاد الإسلامية كانت امبراطورية مترامية الأطراف، ولا يجب أن نحكم عليها كاليونان أو أوروبا نفسها، لأن الإمبراطورية الإسلامية امتدت على ثلاث قارات. عندما نطرح مسألة الانحطاط، لا نفكر في الغالب إلا في منطقة البحر الأبيض المتوسط حيث كان الانحطاط بالفعل جليا، خصوصا في فترة حرب الاسترداد الإسبانية. فحرب استرداد طليطلة وقرطبة وسرقسطة وإشبيلية في القرن 12م ستوقف بالفعل الأنشطة العلمية لهذه المدن. وستنتقل المراكز العلمية التي كانت موجودة في هذه المدن نحو الفضاء الإسلامي الأكثر ملاءمة لثقافتها، لأنها لم تعد تجد هناك نفس الجو ونفس أسلوب العيش. إذن، فقد أدت هذه الغزوات إلى هجرات ثقافية كبرى من مصدر الانحطاط الواضح الذي كان موجودا بالأندلس، وذلك من القرن 12م إلى 14م. هذا في حين سيستفيد المغرب من التراجع الذي عرفته إسبانيا، وسيعرف في نفس اللحظة ازدهارا في الرياضيات والفلك. وبالتالي فقد كانت هناك تراجعات جزئية خلال هذه الفترات المحددة، بينما ستستفيد مناطق أخرى من بعض هذه التراجعات وستسهم في إعادة الحيوية لأنشطتها. بصفة عامة، فكثير من المناطق ستبدأ في رؤية توقف أنشطتها لأسباب اقتصادية وعسكرية وسياسية، وذلك بعد الحروب الصليبية التي حدثت من 1099 إلى 1270. وبعد هذه الحروب الصليبية شن المغول على الامبراطورية الإسلامية، من آسيا وإيران، غزوا كانت نتائجه كارثية على كل الصعد الاقتصادية والعقلية والثقافية وذلك بالرغم من أن المغول قد أصبحوا مسلمين في ما بعد، ثم حاولوا إعادة نَفَس ثانٍ للمنطقة التي دمروها. وبينما كانت الأندلس في طريقها إلى التدهور، كانت إيران تعرف بعض التجديد العلمي. لكن المشكل هو أن المستشرقين غالبا ما يتجهون إلى تحليل مجموع الإمبراطورية انطلاقا مما حدث في الأندلس، في حين أنه يجب دراسة كل منطقة على حدة وبالتفصيل.

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية
Science

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق