قال الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، إن العلوم الإسلامية رغم ما هي عليه اليوم في وضعها الحالي، تبقى قادرة على إلهام المفكرين وإعطائهم مجموعة من الآليات في غاية الفاعلية لتيمم شطر قِبلات أهدى سبيلا.. إلا أن واقع العلوم الإسلامية الحالي، يضيف د. أحمد، يحتاج إلى مراجعة وتجديد... ودعا د. عبادي في حوار معرفي مع مجلة الإحياء إلى تجاوز العوائق التي تعترض سبيل العلوم الإسلامية، من هذه العوائق: أن هذه العلوم قد دلفت نحو قُطب التقليد، وثانيها: انفكاكها من مصدرها الذي هو القرآن المجيد، وثالثها: هذه العلوم قد توزعتها نزاعاتٌ مذهبية في فترة من الفترات. وهذه العلوم، رابعا قد تسربت إليها في فترة من الفترات مناهج دخيلة. كما أكد د. عبادي ضرورة استئناف الحوار مع القرآن الكريم، لأنه حين يُستأنف الحوار يكون الإبداع والنظر المتجددان، وحين ينقطع الحوار تحل السلبية ويطفح الجمود مرة أخرى. من جهة أخرى، دعا د. عبادي إلى تحرير وتجريد الباراديغمات الكامنة من جهة وراء العلوم الإنسانية حتى نتعامل معها برشد وفاعلية واتزان، وتجريد من جهة ثانية الباراديغمات الكامنة وراء علومنا ومعارفنا حتى نتأكد من قرآنيتها وسلامتها، واتصالها بالمعطيات التي في الكتاب المسطور وفي الكتاب المنظور.
حاوره: جواد الشقوري وفيما يلي نص الحوار.
العلوم الإسلامية: مقومات العطاء وعناصر الثراء
هناك من الباحثين والدارسين من يُحمّل العلوم الإسلامية بشكلها الراهن مسؤولية ما آل إليه الوضع الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلامية من تراجع ملحوظ على مستوى الإبداع الفكري والعلمي. هل توافق هذا الرأي؟
واقعنا الفكري والثقافي ليس نتيجة فقط لما عليه اليوم العلوم الإسلامية، وإنما أسباب هذا الواقع متعددةٌ ومتداخلة، تنطلق من التصوّري التمثّلي مرورا بالمنهجي والتربوي والسياسي والتنازعي داخليا وخارجيا؛ ولها صلة بسائر التمظهرات العلائقية التي يُصطلح على تسميتها بـ (نسيج العلاقات الاجتماعية)، كالعلاقة مع الآخر، ومختلف خيوط شبكة العلاقات الذاتية الداخلية مع استحضار للمواجهات التاريخية الذاتية الداخلية التي كانت سمة من سمات هذه العلاقات، وغير ذلك من الأسباب... فحصرُ أسباب هذا الواقع في قضية العلوم الإسلامية، على أهميتها ومحوريتها، غيرُ عادل بتاتا إلا ما نزر، العلوم الإسلامية ليست علوما معروفة ومعلومة من لدن عموم المسلمين، وإنما هي معلومة عند نخبة الأمة وينساب منها إلى واقع المسلمين بالقدر الذي تجهد هذه النخبة لإيصال العلوم إلى العموم، شريطة القيام بالمراجعات والتجديدات المقتضاة. مما يعني أن الذي يشكل اليوم واقعنا الثقافي والفكري ليست ترفده هذه العلوم فقط، بل له مصادر أخرى مثل الفكر الغربي من خلال حركة الترجمة في العصور الإسلامية الأولى، ومن خلال الميل الحضاري في العصر الراهن؛ وفكر ما قبل الإسلام... فليس هذا الواقع المعرفي متفرعا مباشرة ولا كليا من العلوم الإسلامية. والعلوم الإسلامية رغم ما هي عليه اليوم في وضعها الحالي، تبقى قادرة على إلهام المفكرين وإعطائهم مجموعة من الآليات في غاية الفاعلية لتيمم شطر قِبلات أهدى سبيلا.
للعلوم الإسلامية هذه القدرة التي ذكرت رغم أنها منتج بشري وتنتمي لمجال الاجتهاد البشري الزمني النسبي!
هي لا شك منتجٌ بشري، ولكنه منتجٌ نُسِج في فترة نشأته حول الوحي وفيه تجليات لعبقرية كبيرة، كما فيه آليات منهجية يمكنُ أن تلهمَ المفكر في العصر الراهن. طبعا، واقع العلوم الإسلامية الحالي يحتاج إلى مراجعة وتجديد، بل ربما يحتاج في بعض مناحيه إلى تصحيح واستدراكات.
متى يمكن أن تصير هذه العلوم عائقا وحائلا يحول دون ممارسة الاجتهاد الشرعي المسؤول والإبداع الفكري الخلاق؟
أنا لا أزكي هذه العلوم بشكلها الحالي بإطلاق، فهذه العلوم اليوم على الفضل والخير الكبيرين اللذين فيها، فيها أيضا مجموعة من العوائق الذاتية والتي يمكن ترتيبها كما يلي: أول هذه العوائق أنها قد دلفت نحو قُطب التقليد، وثانيها: أن هذه العلوم قد انفكت من مصدرها الذي هو القرآن المجيد (النص المؤَسِّس، الوحيُ ومعطياته)، وثالثها: أن هذه العلوم قد توزعتها نزاعاتٌ مذهبية في فترة من الفترات، نزاعات قد أدت إلى سجالات لم تكن دائما إيجابية. وهذه العلوم، رابعا قد تسربت إليها في فترة من الفترات مناهج دخيلة كالمنطق الصوري الأرسطي، مثلا، ممّا أدخل عليها إفسادا كبيرا؛ لأن المقاربة الأرسطية تعتبر أن العقل هو المولِّد للمعرفة، في حين أن العلوم الإسلامية تأسّست انطلاقا من النقلة الكبيرة التي في الوحي، والتي تَعرض العقل باعتباره مكتشِفًا لهذه المعرفة ومستنبطا لها، وليس مولِّدا لها. وشتان بين المقاربتين: مقاربة التوليد ومقاربة الاكتشاف والاستنباط! وهذه العوائق حين استحكمت صيرت هذه العلوم كما استقرت بعدُ، في بعض مناحيها وأبوابها عوائق دون الاجتهاد والإبداع مما يستدعي مراجعات في ضوء هذه العوائق بغرض تخليص علومنا من آثارها.
لكن ما الذي جعل هذه العلوم معطاءة في بدايات تأسيسها، وأيضا بعد التأسيس؟
هذه العلوم، في فترة تأسيسها كانت عبارة عن حوار مع الوحي (النص المؤَسِّس) للاتصال الوثيق والمبدئي معه، وهذا الحوار كان يُعطي بالفعل القابلية لاكتشاف مجموعة من الآفاق، ويكون ذلك استنادا على استثمار المعطيات الموجودة، واستنادا على المقاربة الآياتية للوحي وللكون، استضاءة بالإشارات النبوية المنيرة الموجودة في السنة النبوية المطهّرة... ممّا جعل هذا الحوار في الفترة الأولى يُولِّد مجموعة من المعارف، ولكن حين كَفَّ الحوار، بقينا منحسرين فيما أنجز خلال تلك الفترات الوضيئة الأولى، دون البناء على مكتسباتها، والقيام بما علينا نحن أيضا من الواجب إزاء هذا الوحي المبارك، وإزاء متطلبات واقعنا. وإنه ليتعيّن على المسلمين اليوم استئناف هذا الحوار. خذ مثلا في الجانب الكوني، لو أن الحوارَ مع الكون كَفَّ لما استطعت أن ترى الآن السبرنتيقا la cybernétique، ولا كل هذه المعارف الطبية التي تمكِّن من إشفاء مجموعة من الأدواء. ولو كَفَّ الحوارُ في الجانب الفيزيائي مع الكون لما استطاع الإنسان أن يطيرَ ولا أن يستكشف الفضاء. ولو أن هذا الحوار كَفَّ في الجوانب الرياضية والتقنية لما استطاع الإنسان أن يتوفر على هذه الأداة الرقمية التي تُيسِّر أمامه مجموعة من الأمور، وتمكنه من قضاء جملة من المآرب... لوأن هذا الحوار توقف واقتصر الناس على التذييل على كتابات فيتاغورس وأرخمييس... وغير هؤلاء من الرواد الأوائل، أو اقتصروا على ما كتبه ابن الهيثم أو جابر ابن حيان وابن زهر، وذيَلوا وحشَّوا على هذه الكتب فقط، دون أن يستمروا في الحوار واكتشاف الأسئلة، والبحث عن أجوبة لها... وحينَ يُتلقّى الجواب يُحوّل بدوره إلى سؤال تماشيا مع آلية "عمّ يتساءلون" التي جاءت في سورة النبإ. لما كان للمعارف التي ذكرناها آنفا وغيرها اليوم وجود! الحوار مع الكون استمر، ولذلك أُنتجت كل هذه المعارف. ولكن هذا الحوار كَفَّ في جانب الوحي، ولذلك وقع انحسار في كسبنا المعرفي وعطائنا العلمي المتعلقين بالكتاب المسطور.
العلوم الإسلامية: قراءة في العوائق المعرفية
ألا تعتقد أن كل ما ذكرته هو من باب وصف وتوصيف المشكلة، وليس بحثا عن أسبابها البنيوية الكامنة وراءها؟ فالقول مثلا إن المشكلة تكمن في توقف الحوار مع الوحي، يستدعي بالضرورة تساؤلا آخر هو: لماذا توقف هذا الحوار؟
الحوار لابد له ممّن يمارسه، وهو الإنسان. وإذا حصلت إصابات في كيان هذا الإنسان المعنوي والنفسي... فإن هذا الإنسان الذي من المفروض أن يمارس الحوار، سوف يُعَطَّل جزئيا أو كليا. ومن ثمَّ سيعطل الحوار. حينَ مُورست على الإنسان المسلم مجموعة من الضغوط والتقليصات والاستبدادات؛ سواء معنوية أو مادية. وحين استُبدل واقع (قل يا ابن أخي ولا تحقر نفسك) (الذي كان يُمارس في الصدر الأول حين قال عمر بن الخطاب هذه الجملة الرائعة لعبد الله بن عباس وكان فتى ساعتئذ)، بواقع (صه! واخرس قاتلك الله!) بدأنا نرى أن بعض العلماء شرعوا في تبوّء مقامات فيها الإطلاق والكليانية ودعوى امتلاك الحقائق... مما أسهم في إصابة العقل المسلم بالشلل. فحين تجد، مثلا، في فاتحة كتاب: (كتبه النحرير الجهبذ فريد زمانه ووحيد دهره، بازّ أقرانه... وشمس المعارف)... إلخ، أو تجد: من قال بخلاف هذا فقد كفر!... فإن ذلك يقلص الهوامش النقدية إن لم يغيبها تماما، ويضيّق مجالات الاجتهاد، مما قد يؤدي إلى ظهور عبارات من مثل قولهم: ليس في الإمكان أبدع ممّا كان! وظهور أنماطٍ من التبعية تحت دعوى القداسة في بعض الأحيان. حين طغت مجموعة من الاستبدادات باسم الدين أو باسم السياسة فإن الإنسان الذي من المفروض أن يُبدع قد حُجّم وقُلِّص! وشاعت في واقعنا أيضا فهومٌ سلبية للزهد، وأصبح من الزهد عدم الاشتغال بالعلوم وبالدنيا (المستنجَسة)... وانتشرت مقولات من قبيل:
عليك بتقوى الله إن كنت غافــلا *** يأتيك بالأرزاق من حيث لا تــدري
فعُطِّلت السببية!
ولو كان الرزق يأت بقـــــوة *** لما أكل العصفور شيئاً مع النســرِ فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهـر وكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكا *** وأكفانه في الغيب تنسج وهو لا يدري
إلى غير ذلك من الفهوم التي حين توضع في غير موضعها وتورد في غير موردها تجعل الإنسان المسلم ينسحب من ساحات الإبداع المباركة نحو ساحات التقليد والانكماش الاستهلاكي لما يُعْرَض! فالإبداع وحرية الفكر صنوان. والإبداع والكرامة صنوان. في الصدر الأول كنا نجد سلوك الإمام المعلم مع تلامذته فيه التشجيع على القول، وقد تقدم مثال عمر بن الخطاب. لكن التاريخ ينقل لنا كذلك أن أبا حنيفة كان يُعجبهُ حين تتعالى أصوات تلامذته محمد بن الحسن الشيباني وأبي يوسف وزفر..كما كان ذلك يعجب الإمام مالك والإمام الشافعي مع أصحابهما... لما كان ينتجه هذا التعاطي من مداولات وسؤالات وأخذ ورد وثمار. حين استُبدل بهذا الواقع واقع آخر فيه الكليانية والإطلاقية، وعدم المشاركة مع الأستاذ في البحث عن المعلومة وصوغها بدل الاقتصار على التلقي غير التفاعلي... بدأت الأمور بالفعل تظهر فيها هذه الإصابات التي ذكرناها آنفا.
هل كان لما سمّيته بـ (انفكاك العلوم الإسلامية من النص المؤسس) آثارٌ معرفية بارزة؟
حين تنفك العلوم الكونية من مصدرها الكون، يكون اندحارها! هل تتصور علم البيولوجياLa Biologie بدون الرجوع إلى الكون وإلى الكائنات الموجودة فيه؟! هل تتصور "علم" البوتانيكا La Botanique في انفكاك عن النباتات وعن الكائنات التي هي موضوع هذه العلوم؟! هل تتصور علم فيزياء «La Physique» دون الرجوع إلى الكون؟! وللتذكير فإن هذه العلوم الكونية ما أخذت بُعدها الحقيقي إلا بعد أن أحدث القرآن نقلة المقاربة الآياتية وتفكيك المجملات من خلال القدرة على تسمية الأسماء، ونقلة عرض العقل البشري باعتباره مكتشفا ومستنبطا ومنظّما للعلوم وللمعرفة وليس مولِّدًا لهما من خلال قوله تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الاَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" [سورة العنكبوت / الآية: 19]. وقوله سبحانه: "وجعلنا اليل والنهار ءايتين فمحونا ءاية الليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة" [سورة الاِسراء / الآية: 12]؛ وغيرها من الآيات التي تحض الإنسان على السير في الأرض والنظر إلى المعطيات لصياغة العلوم، واكتساب المهارات والخبرات، وحين حدثت هذه النقلة ظهرت قضية الجبر والمُقابلة في الرياضيات. أي: التسديد والتقريب، واكتشف الصفر كما اكتشفت اللوغاريتمات وغير ذلك مما لا يتسع المقام للإفاضة فيه، كل ذلك من خلال الارتباط بالكون الذي هو موضوع هذه المعارف والعلوم والردّ إليه انطلاقا من هذه النقلة التي أحدثها القرآن المجيد. تصوّر معي لو أن هذه العلوم انفكت عن الكون ماذا كانت سوف تكون النتيجة؟! الأمرُ لاشك بالخطورة نفسها حين يكون انفكاك العلوم الإسلامية عن الوحي، حين انفصل علم أصول الفقه عن الوحي من خلال توقّف الحوار مع الآيات ومع الأحاديث، كان من الآثار المباشرة لذلك، الانحسار في ما سبق من الاستنباطات باعتبارها مصدر هذا العلم فأصبح اشتغال من تلى من العلماء منحبسا في جهود من سبقهم شرحا وتحشية وتذييلا، عوض أن يكون هذا الاشتغال منصبا على الحوار مع النص المؤسس، استفهاما واستلهاما واستكشافا واستنباطا.. وحين انفصلت علوم التفسير عن الآيات المفسّرة وانحسرت في التفسيرات التي سبقت، دون تفكير في تطوير مناهج استنطاق الوحي والحوار معه انطلاقا من تمظهرات واقع الإنسان المختلفة التي تبرز معها حاجات متجددة، وتستدعي حلولا مستأنفة من القرآن المجيد، حصل نوع من الجمود في علوم التفسير، وأصبح سقفها محددا بسقف المجامع التفسيرية التي ألفها العلماء الأماجد السابقون، الذين أدّوا الذي عليهم وكان على الذين من بعدهم أيضا تأدية الذي عليهم بدورهم... وكذا الشأن في سائر العلوم الإسلامية حيث آثار هذا الانفصال بارزة في المناهج والنتائج. فحين يكون انفكاك هذه العلوم من المعطيات والآيات التي في الوحي فإنها تصبح علوما نظرية مبنية على التفريعات والتخريجات المهَوِّمة في التنظير. وجب أن تكون هذه العلومُ، إذن، متصلةً بمصدرها الذي هو الوحي، كما أن العلوم الكونية متصلةٌ بمصدرها الذي هو الكون... وإلا فالسلبية والانحسار.
البناء الحضاري الإسلامي.. ومركزية العامل التاريخي!
يجرنا الحديث عن وجوب ربط العلوم الإسلامية بمصدرها الذي هو الوحي إلى الحديث عن إشكالية ربما ساهمت في بروز تلك المسافة التي نلحظها بين هذه العلوم وبين الوحي، ويتعلق الأمر هنا بإشكالية النظر إلى "تاريخ المسلمين الذهبي" باعتباره محددا رئيسا فيما يمكن أن يكون عليه الحاضر والمستقبل معا، دون القدرة على إنتاج تاريخ جديد تُشكله نصوص الوحي.
التاريخ يسكننا كما يسكنُ سائر الأمم والشعوب. ولكن بالنسبة إلينا فإن التاريخ متصل من حيث انطلاق هذه الدورة الحضارية الإسلامية بالرسول الأكرم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحبه الكرام، الذين أسسوا الأنموذج. فالنظر إلى هذه القضية حين انفك هو بدوره عن مقصديته القائمة على أن هذا الأنموذج يشكل وحدة قياسية، أي أنها معيار أو حالة سواء، وجب أن يتم ردُّ الأمور إليها بعد دراستها حتى يُصبح هذا الاستعمال لهذا الجزء المشرق من تاريخ المسلمين استعمالا وظيفيا، وتكون مقاربته مقاربةً وظيفية أيضا. حين لم يتم تجريدُ حالة السواء هذه وتجلية معالم الوحدة القياسية التي تحدثنا عنها، ولم تتم (مَنهَجَة) كيفية التعاطي معهما، والاستمداد منهما، بكل الواقعية وكل المرونة اللتين تجعلان الإنسان دائمَ الارتباط بواقعه، غيرَ غافل ولا لاهٍ عنه ولا عن ضروراته وإكراهاته؛ بحيثُ إنهُ يُطالب في إطار هذا المنهج، بأن يكون دائمَ القيام بخطوات ثلاث: الخطوة الأولى: هي تَمثُّل الوحدة القياسية وحالة السواء، بطريقة علمية بحيث تكون مبوّبةَ وممفصلةً وممنهجة. والخطوة الثانية: هي النظر إلى الواقع وتحليله، والوقوف على مقوماته ومكوناته وأدواره وسُلطه ومراكزه... وحين يعي الإنسان واقعه في استحضارٍ للوحدة القياسية ولحالة السواء تكون الخطوة الثالثة: خطوةً تلقائيةً وهي تجاوز الواقع في استلهامٍ لحالة السواء. مع استدامة الوعي بأن هذه الحالة أيضا كانت محكومةً بواقعها وبأسيقتها في ما عدا الثوابت. فإذا لم تلحظ الفوارق وأردت أن تستعمل القياس بشكل آلي أوتوماتيكي فإنك سوف تُخطئ التقدير. وهذا هو (مفهوم الأسوة). إذ هناك فرقٌ بين (الأسوة) و(القدوة). القدوة في القرآن المجيد تجدها مرتبطة بالهدى "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" [سورة الانعام / الآية: 91]. أمّا بالنسبة للرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام فهو أُسوة؛ أي: أنك تعي واقعك وتتمثّل نموذجية المتأسَّى به وتعي الفوارق. فالتأسي ليس هو الاقتداء. وهذا أمر محوري في هذا الباب. حين ذهلنا عن هذه المنهجية في التعاطي مع تاريخنا أصبحنا نجعل كل فترات هذا التاريخ نموذجية تتركب بعضها على بعض! حين لم نُحكم الفصلَ بين الوحدة القياسية (حالة السواء) وبين سائر المراحل، ولم نجعل كل المراحل الأخرى خاضعةً لهذه الخطوات الثلاث التي أشرنا إليها... حدثت أزمة. وحين اعتقدنا لفترة أن المراد هو الاقتداء وليس هو التأسي حدثت أيضا أزمة؛ لأننا أردنا -في فترات معينة- إعادة إنتاج هذا الواقع بكل حيثياته. في حين أن هذا منالٌ يستحيل؛ لأن الأسيقة الكونية والمحلية والنفسية والفكرية، والأفق المعرفي، كل ذلكم قد تغير. فلا يُمكن أبدا أن تُعيد إنتاج هذا الواقع بحذافيره. ولذلك فإن آلية التأسي المنصوص عليها في القرآن المجيد محوريَّةٌ في هذا الباب. وبوعي ما سلف فإن تاريخنا سوف يكون عنده حضور استلهامي واعتباري، وليس حضورا تأزيميا.
هناك من يقول بأن سلطة ومركزية التاريخ في وعي ومخيال المجتمعات الإسلامية قد جعلها منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم تعيش أجواء من الصراعات المذهبية والعقدية التي كانت وليدة سياقات معينة.
هذه المقاربة لابد من تدقيقها؛ لأن فيها حيفا على هذه الأربعة عشر قرنا! فهذه القرون لا تخلو من الوضاءة والتميز والإبداع، ولا تخلو من العطاء الكبير جدا. وهذا التاريخ فيه إشراق مقدّر، ولا سيما فيما يمس إزالة الحيف والظلم عن كثير من بقاع المعمور. وبحسبنا الاطلاع على تاريخ ما قبل الإسلام ثم ننظر إلى ما حدث باستنارة الوجود بدين الختم. مارشال هودكسون Marshall G. S. Hodgson يذكر في كتابه: Rethinking World History: Essays on Europe, Islam and World History أن الإسلام كان النموذج المقتدَى إلى حدود أواخر القرن السابع عشر، وكان يُنظر إلى الكونِ كأنه سيصبح مسلما لولا النقلة العلمية الأوروبية التي كانت صدى لمحاولات كل من هنري الملاح... وغيره... والاكتشافات الجغرافية: اكتشاف الأمريكيتين، واكتشاف رأس الرجاء الصالح الذي أضحت الثروات تتدفق عبره نحو أوربا من مختلف الآفاق دون الاضطرار إلى الخضوع لشروط الشرق... كل ذلك أحدث حالة عدم توازن. وهذه الحالة هي التي تجلّت بعد ذلك في القرون الثلاثة التي تبعت هذا (الثامن عشر، والتاسع عشر، والعشرين)... الاستعمارات التي حدثت، وكل ما وقع خلال تلك الفترة، من جرّاء الفاعلية في السلاح التي أصبحت عند الغرب... وغير ذلك من العوامل، مع الإشارة إلى أنه في الحقبة نفسها كانت المدارس الإسلامية لا تخلو من خير وفضل. طبعا، لا يعني هذا بأن تاريخ المسلمين جسّد الفردوس، ففيه أيضا جوانب سلبية وينبغي أن نكون متسمين بالعدل والإنصاف أثناء التعاطي مع هذا التاريخ. أو بعبارة أخرى: وجبَ ألا نجرِّد تاريخنا من الوضاءة والإشراق اللذين كانا فعلا فيه، كما وجبَ ألا نعرضه باعتباره الكمالَ المطلق. غير أن الذي لا شك فيه هو أننا لم نَرْقَ إلى المستوى الذي يبشرنا به القرآن، ولم نعانق بعدُ الأفق القرآني، ولم نفهم بعد كما ينبغي التوجيه النبوي... فهناك جهدٌ وجب أن يُبذل في هذه المضامير. والذي سيباشر مثل هذه الجهود من أجل إعادة الأمور إلى أنصبتها لن ينطلق من فراغ. فهناك جهودٌ كبيرةٌ في غاية الجودة موجودة في هذا الباب لفهم النص ومقاصده وروحه. غير أن القضية التي وجب التنبيه إليها في هذا الصدد هي أن تاريخنا كتاريخ الديانات كلها؛ شهد معارك اصطلح عليها بـ (معارك البارديغمات) Paradigmes وهي معارك خفية؛ غُبارها يكون متعاليا في عنان العقول والوجدانات، لكن لا يُرى له الأثر إلا بطريقة بَعدية في واقع الناس. من مظاهر هذه "المعركة الباراديغماتية" التي جرت في فضائنا العلمي الإسلامي في زمن مبكر، والتي كانت نتائجها حاسمة، هي: هل التشريعات الموجودة في القرآن والسنة نسيج ابتلائي وأنها فقط مجموعة من الشروط التي يتوقف عليها الخلاص؟! أم أن هذه التشريعات إنما هي لجلب المصالح للإنسان ودرء المفاسد عنه، ولتحقيق وتحصيل السعادتين له فردًا و نوعًا في العاجل والآجل؟! هناك إشارات قد تقدم بها الراغب الأصفهاني في كتابه الشامخ: (تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين)، والعز بن عبد السلام في: (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)، وابن القيم في كتابه: (مفتاح دار السعادة)، والشاطبي في: (الموافقات في أصول الشريعة)... وغير هؤلاء الذين كانوا يُبيِّنون أن الشريعة ليست فقط مجموعة من الشروط لتحقيق الخلاص، أو أنها مجرّد نسيج ابتلائي، وإنما جاءت لجلب السعادة وتحصيلها، وجلب المصالح ودرء المفاسد. حين حُسمت هذه المعركة (الباراديغماتية) عمليا لصالح المقاربة والمدرسة الأولى كان لهذا تجلياته في العلوم الإسلامية، وهي تجليات لا تزال منسحبةً علينا آثارها اليوم، وهذا ملف وجب أن يكون لعلماء الأمة اليوم فيه نظر مستأنف.
العلوم الإسلامية بين المقاربة الحرفية والمقاربة المقاصدية
هل ما تزال الغلبة اليوم للمقاربة الأولى على حساب المقاربة المقاصدية؟
بدأت تظهر اليوم بفضل الله مبشراتٌ ومؤشراتٌ لاستئناف هذه (المعركة الباراديغماتية) من جديد، ولإدارة دواليبها بطريقة أكثر إيجابية. ولكن هناك عوامل يمكن أن تجتال الجهود. ولذلك وجبَ أن تُدار هذه المسألة بأصالة، وأن تُدبَّر مآلاتها بحكمة وحذر بالغين. فهناك أطراف وجبَ المشيُ بينها دون أن تجتالنا وتتخطفنا كلاليب هذا الطرف أو ذاك.
يقودنا الحديث عن مسألة الحرفية في التعامل مع النصوص الشرعية إلى الحديث عن المحاولات التي بُذلت منذ الإمام الشافعي لضبط حركة الاجتهاد الفقهي والأصولي. ألا تعتقد أن هذا الضبط لم يمنع من بروز مثل هذه المدارس التي لها مقاربة لهذه النصوص بعيدة عن مقاصدها؟
لا ينبغي أن ننسى أن ما قام به الشافعي كان قبل اثني عشر قرنا من اليوم (ت. 204 هـ)، وأن جهدَه رحمه الله كان مؤسَّسًا على الحوار الجادّ مع القرآن المجيد. فدخل إلى المختبر / الآيات من أجل أن يكتشف الهدى المنهاجي الموجود في الكتاب والسنة لتأطير حركة العقل المسلم لاستنباط مراد الله تعالى وأحكامه وهديه وهذا هو النفس البارز في كتابه الفريد (الرسالة). كما وجب أن لا ننسى أن هذا الذي قام به الشافعي رحمه الله هو عينُهُ كان اجتهادا. فالشافعي من أجل أن يجد دليل القياس قرأ القرآن أكثر من مرة ليعتمد قوله تعالى: "فاعتبروا يأولي الاَبصار" [سورة الحشر/الآية: 2]. وقرأ القرآن مرات من أجل أن يقف على دليل الإجماع في قوله تعالى: "وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُومِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً" [سورة النساء/الآية: 114]. بمعنى أن هذا كان حوارا، مثل الحوار الذي قام به ابن الهيثم أو ابن النفيس أو غيرهما في الجوانب الكونية، وكما أن الحوار استمر فيها فأعطى ما أعطى من خيرات، فقد كان جهد الشافعي بدوره يحتاج إلى استمرار. إذ تِلْكُم كانت بداية أولية مشرقة لهذا الجهد، غير أننا حين نظرنا إلى هذا الذي سطّره يراعُ الشافعي باعتباره المنتهى، وقصرنا جهودنا بعدهُ على البيان لما قال، وعلى الشرح لكلامه. فقد كان لهذا السلوك أثره. فالشافعي رحمه الله أدى الذي عليه وكان على أجيال العلماء اللاحقة أن تؤدي بدورها الذي عليها على وجه الكفاية، وجب هنا أن نذكر إنصافا لتاريخنا العلمي أنه لم يكن خلوا من العلماء الذين أدوا الذي عليهم، وبحسبك أن تتذكر كُلاًّ من ابن دقيق العيد، وابن عقيل، والغزالي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، والشوكاني، وشاه الله الدهلوي، والطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي رحمهم الله أجمعين والذين حاولوا أن يُجددوا وأن ينظروا النظر المستأنَف، وأن يبدؤوا المسيرَ من حيث كان قد توقف. وبالفعل، فإن التقدم الذي تراه في علم أصول الفقه قد تحقق على أيدي الذين استأنفوا الحوارَ مرة أخرى مع القرآن المجيد ومع السنة النبوية وربطوا هذا العلم بأصله ومصدره: الوحي. إن أنت نظرتَ في الموافقات للشاطبي فسوف تقضي العجب من عدد الآيات والأحاديث التي عُجِنَ منها هذا النص. حيث لا تخلو فقرة مِنَ الآيات ومِنَ الأدلة. أي أن الرجل ينظر إلى النص المؤسِّس قبل أن يدخل إلى هذه اللجة ويخوضها ومن هنا أثر الكتاب. فالقضية، إذن، قضية انقطاع الحوار أو استئناف هذا الحوار. حين يُستأنف الحوار يكون الإبداع والنظر المتجددان... وحين ينقطع الحوار تحل السلبية ويطفح الجمود مرة أخرى. هاهنا إشكال كبير وجب أن يتم تجاوزُه لتجاوز أزمة العلوم الإسلامية الراهنة.
العلوم الإسلامية: الحوار مع القرآن وامتلاك ناصية الواقع
في سياق الحديث عن محورية استئناف الحوار مع القرآن المجيد والسنة النبوية المطهرة في عمليتي الإبداع والاجتهاد، تبرز إشكالية تتعلق بمن يحق له ممارسة هذا الحوار؟ هل يجب الاقتصار فقط على علماء الشرع (الفقهاء)؟ أم إنه يجب توسيع دائرة المتحاورين مع الوحي لتشمل ذوي التخصصات المعرفية الأخرى، كالأطباء مثلا مما سيقود إلى توليد نماذج ورؤى دقيقة من داخل النصوص ربما لم يستطع (الفقهاء) أو (علماء الشرع) إدراكها؟
هل تتخيل طبيبا يدخل إلى مختبر للفيزياء النووية ويقوم بتشغيل آلات هذا المختبر؟! هل تتصور فيلسوفًا يدخل إلى غرفة عمليات الأعصاب أو جراحة الدماغ فيقوم بعملية، أم أنه لابد من أن يكون عنده الأدواتُ والعلومُ التي تُمكِّنه من ذلك، والخبرة والمهارة المستلزمتان لذلك؟! وكذا الأمر حين تدخل إلى مختبرات الاستنباط... فهي مختبرات أيضا لها أدواتها وعلومها وخبراتها ومهاراتها التي لابد منها. أكيد أنني أتفق معك أن غير المشتغل بهذه الأمور يمكن أن تكون عنده آراء، ولكنها آراء تُقدَّر بقدرها. أما ما ذكرته عن الطبيب الذي ينظر إلى القرآن فإنه ينظر من باب تخصصه إلى الآيات التي فيها ذِكر للشفاء أو الأمور التي فيها نهيٌ عن الإسراف... وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الاختصاص... فهذا متاحٌ ومباح. بل إن الطبيب سوف يكون أكثر تأهيلا للنظر في الآيات المتعلقة بتخصصه. أما النظر إلى الآليات والاستنباطات ودقائقها... فإنها تكون في بعض الأحيان أكثر تعقيدا من الجوانب التي في العلوم الكونية. فعلوم التيسير لها آلياتها كما أن لعلوم التسخير آلياتها كذلك، مما وجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.
لماذا يتم التركيز دائما عند الحديث عن التجديد في العلوم الإسلامية على علم أصول الفقه؟
لأنه العلم الذي رام تأطير حركة العقل المسلم في التعامل مع النص، والعلوم الأخرى كلها فيها ثمرات هذا العلم؛ لأنه يستعمل الآليات الموجودة في العلوم الأخرى التي يسميها العلماء (علوم الآلة)، فتجد في علم أصول الفقه آلية العلم بالنصوص: هل هي قطعية الثبوت أم غير قطعية الثبوت؟ ثم الآلية اللغوية: هل هي قطعية الدلالة أم غير قطعية الدلالة؟ ثم تجد آلية المقابلة والحسم في الخلافات التي قد تظهر بين بعض النصوص. وتجد علم العلل المتعلق بالسند والمتعلق بالمتن. وتجد علم القراءات القرآنية وعلوم القرآن وعلوم التفسير وما رُوي في ذلك... تجد النحو والبلاغة والمنطق...، داخلة كلها داخل دائرة علم أصول الفقه. فعلم أصول الفقه مستوعِبٌ لسائر العلوم الأخرى دون الاستغناء عن أهل التخصص فيها، لأنه -كما سلف- هو العلم الذي يقود ويؤطر حركة العقل المسلم في عملية الاستنباط واستخراج الهدى المنهاجي. ولذلك يتم التركيز عليه حين الحديث عن التجديد في العلوم الإسلامية.
سبقت الإشارة إلى أن الشافعي استعمل آلية الحوار مع الوحي من أجل ضبط حركة الاجتهاد. ألا تعتقد أن الحوار مع الوحي سبقه حوار مع الواقع الذي كان يعايشه الشافعي بمتطلباته واستحقاقاته المختلفة، فجاء حواره مع الوحي من الإجابة على أسئلته الناجمة عن حواره مع الواقع؟
هذا تقدم الحديث عنه في الخطوات الثلاثة التي ذكرناها، وأن العالِم الأمثل هو الذي يستوعب النموذج (الوحدة القياسية وحالة السواء)، ويستوعب واقعه، وينظر إلى كيفية تحقيق التأسي انطلاقا من واقعه صُعُدًا نحو الوحدة القياسية وحالة السواء. الإمام الشافعي لم يكن بدعا ولا خارجا عن هذا المنهج؛ فهو كان شديدَ الوعي بواقعه وشديدَ الوعي بالوحدة القياسية وحالة السواء، ثم كانت عنده اجتهادات منيرة في كيفية الانتقال من هذا الواقع نحو النموذج بالتدرج المطلوب، وأيضا مع الأخذ بعين الاعتبار للأعراف، وآية ذلك أنه حين دخل إلى مصر غيّر مذهبه بناء على العرف.
في سياق الحديث عن أهمية ضبط علوم الواقع ومعرفة أسئلته الحقيقية... هناك من المشتغلين في حقل أصول الفقه من يربط الشروط التي وضعها الأصوليون لمن يتصدى للاجتهاد الفقهي والأصولي بالعلوم التي كانت حاضرة في واقعهم وسياقهم. ألا ترى أن الإلمام بالعلوم الاجتماعية والإنسانية شرط لممارسة الاجتهاد في عصرنا الحاضر؟
الذي لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا هو (النسبية) التي هي من سمات الكائن البشري، وهذه النسبية تنسحب على كلامه واجتهاده وعلومه وفهومه. فإذن، هذا الكلام الذي تكلمه علماؤنا عن شروط الاجتهاد تنسحب عليه نسبيتهم وسقفهم المعرفي الذي يكونون فيه، وتنسحب عليه المعطيات التي تكون موجودة في سياقهم وواقعهم، ممَّا يُلزم من يأتي بعدهم بأخذ هذه الأمور كلها بعين الاعتبار، والقيام بعملية الاستيعاب والتجاوز التي يعلمنا إياها القرآن تحت مسمّى (التصديق والهيمنة)؛ وهي آلية لم تُعط بعدُ حقها في الدراسة. فحين تكلمتَ عن شروط الاجتهاد وذكرتَ أن العلوم الإنسانية أصبحت شرطا أساسا من شروط ممارسته، وجب أن لا نغفل هنا أن هذه العلوم أيضا اجتهاد بشري وأن النسبية تنسحب عليها من باب أولى، مما وجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أثناء توظيفها باعتبارها آلة من آلات إدراك هذا الواقع وتفكيكه للوقوف على عناصره ومكوناته بجلاء. وهذا التفصيل للمجملات والتفكيك للعمومات هو الذي يجعل العالِمَ عالِمًا... ودون هذه القضية فالأمر يصعب، إذا لم تستطع أن تُفكك مجملا إلى وحداته التي تُكوِّنه، فلن تستطيع التعامل مع هذا الرُّكام وهذا العموم الكبير. ولذلك فكلُّ ما يُمكنه أن يُسعف في هذا التفكيك مطلوب الآن. طبعا هاهنا إشكال ستجده منسابا في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو قضية الثابت والمتحول، وما هي الطريقة والمنهجية التي بها نُمقدرُ Le dosage الثابت ونعرفه ونعرف حدوده، حتى لا نصادمه ولا نتجاوزه. ثم نعرف ونُمقدرُ هذا المتحوِّل الذي سيكون موضوعًا للاجتهاد المستأنَف في كل عصر. حين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها غير بينة المعالم حصلت مشاكل كثيرة. فنحن الآن مطالبون مرة أخرى بفتح ملف الثابت والمتحول في مجال العلوم الإسلامية... بما يلزم من مقدرة Dosage واتزان وتشرّع حتى نستطيع أن نتجاوز هذه الأزمات التي نعيشها اليوم. وهنا وجب الانتباه إلى قضية تفرض ذاتها، وهي قضية الباراديغمات أي الأنساق والأطر المرجعية والمركبات المفاهيمية التي تقود عمليتنا التفكيرية والتحليلية، وتؤطر أضرب النظر الذي نستعمله ونوظفه. هذه الباراديغمات أمرٌ أيضا لم يُعطَ حقه، ووجَبَ أن يُستثمر الجهد في هذا المجال لكي نُحرِّر ونجرِّد الباراديغمات الكامنة من جهة وراء العلوم الإنسانية حتى نتعامل معها برشد وفاعلية واتزان، ونجرّد من جهة ثانية الباراديغمات الكامنة وراء علومنا ومعارفنا حتى نتأكد من قرآنيتها وسلامتها، واتصالها بالمعطيات التي في الكتاب المسطور وفي الكتاب المنظور؛ حتى لا نبقى ضحية باراديغمات غير سليمة نُضفي عليها سربال القداسة ويكون لها من التأثير السلبي علينا وعلى تاريخنا ما يكون، غير أننا نأبى إلا أن نختم هذا الحوار بالاستبشار بكل ما يُبذل بحمد الله من جهود طيبة في كل المجالات التي أتينا على ذكرها.
السلام عليكم ورحمة الله.. ارجو منكم أن تبعثوا لي بالتوثيق الكامل لمجلة الإحياء التي ورد فيها هذا المقال، وهذا لغرض علمي ضمن بحث في ندوة.. المجلة وعددها والسنة والصفحة. ولكم مني جزيل الشكر.
الدكتور محمد العلوي بني ملال