الشَّمَائِلُ النَّبَويَّةُ وأَثَرُهَا فِي إِصْلاَحِ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَع الجزء الأول-
بسم الله الرحمان الرحيم
بقلم: محمد اليولو
الجزء الأول:
مفهوم الشمائل لغة واصطلاحا، والفرق بينها وبين الدلائل والخصائص
المقدمة:
إن إصلاح الفرد والمجتمع من خلال شمائله منهج نبوي أصيل، وهو ما يسميه العلماء: التربية بالقدوة، حيث سبق الإسلام النظريات التربوية المعاصرة في تأصيله وتقريره، مثل النظريات السلوكية ونظريات التعلم الاجتماعي كنظرية: أَلْبِرت بَانْدُورَا (Bandura ‘ s Theory Of Social Learning) التي تقوم على القدوة والمحاكاة للسلوك النموذج. [1]
ومنهجه الإصلاحي صلى الله عليه وسلم من خلال شمائله ليس مجرد تعاليم نظرية، أو تطلعات فلسفية، أو كما يقال حبراً على ورق، بل منهج حياة، وسيرورة نظام ، وهو ما عبرت عنه عائشة رضي الله عنها بقولها:" كَانَ خُلُقه القُرآن". [2]
ولا بديل للأمة المسلمة اليوم إلا أن تستقي من شمائله صلى الله عليه وسلم ما يؤهلها للريادة والرقي، إذ كانت شمائله صلى الله عليه وسلم حافزا لتعليمهم بالإشارة اللطيفة دون القول المباشر، وباللفتة الطيبة دون بليغ القول، وبالبساطة الفطرية في التوجيه، التي يمتزج فيها صدق الناصح والعلم بحال المنصوح.
وسأقتطف إن شاء الله من يانع ثمار شمائله صلى الله عليه وسلم، من خلال سيرته العطرة وأحاديثه الشريفة، ثمرة هنا وأخرى هناك، لننعم جميعا بأريج شمائله وعبق سيرته، وذلك قصد استمداد مظاهر التربية والتوجيه ، التي صلح بها الفرد والمجتمع، وتكونت على أساسها خير أمة أخرجت للناس .
ولم أَرُم استقصاء كل جزئية من جزئياتها ، بل اقتصرت على ما أراه قد تَفلَّت من حياة الناس، فقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم حياة أمة وقيام دعوة ومنهاج حياة..
نعم سنعود لصفحات من سيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم، نمعن في ما بين سطورها، نقرأ ما بين حروفها وكلماتها، ونرى حاله وواقعه، ونسمع حديثه، نعيش معه صلى الله عليه وسلم في شمائله التي غيرت العالم فردا وجماعة، نستلهم الدروس، ونستشف العبر، ونستنير الطريق.
إنها عظة وعبرة، وسيرة وقدوة، واتباع واقتداء، فهو صلى الله عليه وسلم أمة في الطاعة والعبادة، وكرم الخلق وحسن المعاملة، وشرف المقام، ويكفي ثناء الله عز وجل عليه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [3].
يقول المستشرق آرثر جيلمان :"لقد اتفق المؤرخون على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان ممتازاً بين قومه بأخلاق جميلة؛ من صدق الحديث، والأمانة، والكرم، وحسن الشمائل، والتواضع.. وكان لا يشرب الأشربة المسكرة، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً"[4] .
أكرم بخلق نبي زانه خلق *** مبارك حسن الأوصاف والشيم[5]
ولهذا جاءت هذه المقالة لتسليط مزيد من الضوء على هذا الموضوع، وذلك من خلال الإجابة عن إشكاليات ثلاث، وهي:
أولا: مفهوم الشمائل لغة واصطلاحا، والفرق بينها وبين الدلائل والخصائص.
ثانيا: مفهوم الفرد لغة واصطلاحا.
ثالثا: أثر شمائله صلى الله عليه وسلم في إصلاح الفرد المسلم.
رابعا: مفهوم المجتمع لغة واصطلاحا.
خامسا: أثر شمائله صلى الله عليه وسلم في إصلاح المجتمع المسلم.
ولحصر موضوع هذا المقال قسمته إلى ثلاثة أجزاء.
الجزء الأول: سأتناول فيه المسائل الآتية: مفهوم الشمائل لغة واصطلاحا، والفرق بينها وبين الدلائل والخصائص.
الجزء الثاني: سأتناول فيه: مفهوم الفرد لغة واصطلاحا، وأثر شمائله صلى الله عليه وسلم في إصلاح هذا الفرد .
الجزء الثالث: سأتناول فيه: مفهوم المجتمع لغة واصطلاحا، وأثر شمائله صلى الله عليه وسلم في إصلاح هذا المجتمع.
وهذا أوان الشروع في المقصود.
مفهوم الشمائل لغة واصطلاحا.
أ ـ مفهوم الشمائل لغة:
يعرف اللغويون الشمائل أنها:" جمع شِمال بكسر الشين، وهو الطبع والخلق، قال لبيد:
هُم قَومي وقد أَنْكرت مِنهم *** شَمائل بَدلُوها من شِمالي[6]
واليد الشِمال: خلاف اليمين، ومنه قوله تعالى: (عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) [7] وأما الشَمال: بفتح الشين: فهي الريح التي تهب من ناحية القطب، والمشْمُولُ: المضروب بريح الشمال وهي باردة، ومن ثم يقال للخمر الباردة مَشْمُولُ: إذا كانت باردة الطعم"[8]، وتطلق العرب كذلك لفظ الشمائل على: الجميل، والكريم، والحلو، والعذب:
وما صَحبتك عن خوف ولا طمع *** بل الشَّمائل والأخلاق تُصطحبُ[9]
وتستعمل العرب لفظ الشمائل أيضا فيما يمتاز به المرء من الصفات فيقال: هذا من شمائل فلان، وليس من شمائل فلان، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يوم القادسية:" لولا أني تركت أبا محجن في القيود لظننت أنها من بعض شمائل أبي محجن"[10].
هذا من حيث اللغة أما من حيث الاصطلاح:
ب ـ مفهوم الشمائل اصطلاحا:
فيعرفها المناوي بقوله: "ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وكرم الشمائل والتواضع"[11] ، ولكثرة ورود الشمائل مقرونة بكان، خصها السيوطي بباب سماه:" باب: كان وهي الشمائل الشريفة"[12]، كما قال المناوي:" باب: كان، وهي الشمائل الشريفة"[13].
وتطلق على الشمائل ألفاظ أخرى مثل: الهدي، والسمت، والذل، ونحوها، ويُروى:" الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة"[14]، وفيه:" وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم"[15]، ومنه اقتبس ابن القيم الجوزية ـ رحمه الله ـ عنوان كتابه القيم:" زاد المعاد في هدي خير العباد".
والحق أن الشمائل فيها ما هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم لا إرادة للإنسان فيها: كالوصال في الصيام، ووجوب قيام الليل في حقه صلى الله عليه وسلم، وتزوجه بأكثر من أربع نساء وغير ذلك، مما هو من خصائص نبوته ودلائل رسالته، وفيها ما يجب على المسلم التأسي به صلى الله عليه وسلم والاقتداء به فيها، وهي أخلاقه الكريمة، وآدابه الجميلة في اليوم والليلة، وطيب معشره مع نسائه، وخدمه، وأصحابه وسائر أصناف الناس، وزهده، وورعه، وجوده، وكرمه، وشجاعته وإقدامه، وجهاده وسلمه، ورحمته بالناس...فهذه يعنى بها المؤمن المتبع لكونها تمثل سلوك الإنسان السوي المتوازن في سلوكه، وعبادته ومعاملاته، بحيث يحظى منه كل ذي نصيب بنصيبه.
خلاصة الجزء الأول من المقال:
تناولت في الجزء الأول من هذا المقال : مصطلح الشمائل، وعرفت به من حيث اللغة والاصطلاح، والفرق بينه وبين مفهوم الدلائل والخصائص.
وسأتناول ـ إن شاء الله ـ في الجزء الثاني من هذا المقال الموضوع الآتي: مفهوم الفرد لغة واصطلاحا، وأثر شمائله صلى الله عليه وسلم في إصلاح الفرد المسلم.
هوامش المقال:
------------------------------------
[1] ـ ألبرت باندورا Bandura Albert : ولد في 4 ديسمبر 1925م بقرية صغيرة تسمى موندرا بولاية البرتا بكندا لأبوين بولنديين، التحق بالمدرسة العليا وحصل على البكالوريوس عام 1949م، ثم الماجستير بقسم علم النفس بجامعة إيوا سنة 1951 م، ثم الدكتوراه عام 1952م، عمل بمركز "ويشيتا كانساس للإرشاد"، ثم بقسم علم النفس بجامعة ستانفورد، كان غزير الإنتاج نشر عددا ضخما من المقالات والدراسات والبحوث في المجلات العلمية المتخصصة، كتب كتابا عن " عدوان المراهق" عام 1963م، وكتاب عن " نظرية التعلم الاجتماعي" عام 1971م، حصل على الجائزة التقديرية كعالم متميز من الجمعية الأمريكية لعلم النفس عام 1972م، وعلى جائزة الإنتاج العلمي المتميز من رابطة كاليفورنيا لعلم النفس عام 1973م، ورأس الجمعية الأمريكية لعلم النفس وهي أرقى مركز أدبي وأكاديمي في أمريكا، ظل على مدى 25 عاما يدرس بجامعة ستانفورد مادتين: سيكولوجيا العدوان، وسيكولوجيا الشخصية. ويرى باندورا أن معظم السلوك الإنساني متعلم بإتباع نموذج أومثال حي وواقعي وليس من خلال عمليات الاشتراط الكلاسيكي أو الإجرائي. فبملاحظة الآخرين تتطور فكرة عن كيفية تكون سلوك ما وتساعد المعلومات كدليل أو موجه لتصرفاتنا الخاصة. يمكن بالتعلم عن طريق ملاحظة الآخرين تجنب عمل أخطاء فادحة عوامل التعلم بالملاحظة المتعلقة بالنموذج الملاحظ ومنها:
1. المكانة الاجتماعية للنموذج أو درجة نجوميته: فيزداد الحرص على الانتباه للنموذج، ومتابعته والاقتداء به كلما كان النموذج نجما أو ذا شهرة .
2. ما يصدر عن النموذج من أنماط استجابية مصاحبة: وتأثيره الشخصي على الفرد الملاحظ، ودرجة حياده أو موضوعيته في العرض.
3. جنس النموذج: وقد تباينت نتائج الدراسات في هذه النقطة هذه الدراسات اتفقت في معظمها حول ميل الفرد الملاحظ للاقتداء بالنموذج الملاحظ كلما زادت مساحة الخصائص المشتركة بينهما.(مقال د. علي راجح بركات: نظرية باندورا في التعلم الاجتماعي ص: 1).
[2] ـ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب جامع صلاة الليل برقم:746.
1. المكانة الاجتماعية للنموذج أو درجة نجوميته: فيزداد الحرص على الانتباه للنموذج، ومتابعته والاقتداء به كلما كان النموذج نجما أو ذا شهرة .
2. ما يصدر عن النموذج من أنماط استجابية مصاحبة: وتأثيره الشخصي على الفرد الملاحظ، ودرجة حياده أو موضوعيته في العرض.
3. جنس النموذج: وقد تباينت نتائج الدراسات في هذه النقطة هذه الدراسات اتفقت في معظمها حول ميل الفرد الملاحظ للاقتداء بالنموذج الملاحظ كلما زادت مساحة الخصائص المشتركة بينهما.(مقال د. علي راجح بركات: نظرية باندورا في التعلم الاجتماعي ص: 1).
[3] ـ سورة: ن، الآية: 4.
[4] ـ آرثر جيلمان :الشرق، ص117.
[5] ـ ديوان أبو الهدى الصيادي ص: 275.
[6] ـ ديوان لبيد بشرح الطوسي ص: 94.
[7] ـ النحل، من الآية: 48.
[8] ـ لسان العرب (11/365)، ومختار الصحاح (1/146) مادة: (شمل).
[9] ـ ديوان البحتري (1/172).
[10] ـ أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (9/244)(رقم 17077) من طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين به.
[11] ـ شرح سنن ابن ماجه: للسيوطي (1/265).
[12] ـ الجامع الصغير: للسيوطي (1/21).
[13] ـ فيض القدير: للمناوي (5/68).
[14] ـ أخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: الوقار (رقم الحديث 4776) من حديث ابن عباس وفي سنده قابوس بن ظبيان ضعفه ابن معين وروى عنه الناس. أنظر ابن عدي في الكامل (6/48).
[15] ـ رواه مسلم من حديث جابر في كتاب: الجمعة باب: تخفيف الصلاة والخطبة (رقم : 868) .