د. جمال بامي: من أهداف المشروع جذب الباحثين والمؤرخين والأنثربولوجيين إلى حقل الدراسات التراثية المغربية بحثا عن الثقافة العميقة والاجتماع وقواعد العمران
عرفت ندوة جهود علماء القرويين في خدمة المذهب المالكي.. الأصالة والامتداد، التي نظمها مركز دراس بن إسماعيل لتقريب العقيدة والمذهب والسلوك التابع للرابطة المحمدية للعلماء مشاركات علمية نوعية، ومقاربات قيمة للعديد من القضايا العلمية والمنهجية. وقد عرفت هذه الندوة المباركة إعلان الرابطة المحمدية للعلماء ممثلة في وحدة العلم والعلماء عن مشروع العلم والعمران بالمغرب.
يندرج هذا المشروع الذي تبلور في الرابطة المحمدية للعلماء-عبر وحدة البحث حول العلم والعلماء - ضمن سياق إعادة الاعتبار للعلم والعلماء بالمغرب، والتأكيد على أن تاريخ العلم ببلدنا الكريم يحتاج إلى تحيين وتوظيف على عدة مستويات ثقافية واقتصادية وسياحية وفنية..
ومعلوم أن انتظام العمران في تاريخ المغرب تحقق مجاليا-في أهم جوانبه- بفعل التواصل العلمي والتربوي الذي تحقق بين العلماء وتلاميذهم، الذين انتشروا بدورهم في المجال وأسسوا مدارس أخرى وزوايا تحولت بدورها إلى مراكز جذب، ذلك أن سلسلة انتقال العلم المتواصلة هذه منعكسة أفقيا في انتظام العمران المغربي، وإن دراسة الفهارس، وكتب المناقب، والرحلات تجعلنا ندرك أن النسيج الحضاري و الثقافي ببلاد المغرب تشكل وتبلور وانتظم بفعل حركة علمية مباركة ما انقطعت يوما في هذا البلد الكريم... وإن دراسة نسقية عميقة للمدينة المغربية على امتداد تاريخها كفيلة بإبراز هذا المنطق الثاوي فيها الدال على أن العلم مؤسس بحق للعمران، ولا شك أن هذا درس بليغ على مستوى وعينا الثقافي ووجودنا الحضاري...
من ضمن عناصر مشروع العلم والعمران بالمغرب إعادة دراسة الفهارس دراسة تاريخية وأنثربولوجية ومجالية، والفهرس أو الفهرسة-كما هو معلوم- عبارة عن كتاب يذكر فيه المؤلف شيوخه وما قرأ عليهم من كتب، وأسانيدهم في تلك الكتب مروية عن شيوخهم بتسلسل إلى مؤلفي تلك الكتب أو واضعي العلوم وأئمة المذاهب. وتعد الفهارس من أهم الكتب وأطرفها، فهي تقدم بكيفية خاصة صورة حية لثقافة المؤلف وروافدها، وتبين بكيفية عامة حالة الثقافة والفكر والعمران في عصره معرّفة برجال العلم ونشاطهم في التدريس والتأليف وأماكن تدريسهم وسكناهم، وامتداد الحركة العلمية وتسلسلها، وبذلك تكون أفيد شيء لمن أراد أن يتعرف على النشاط الثقافي والفكري والعمراني في عصر ما. والفهارس في تاريخ المغرب الفكري لا حصر لها، لكن بعضها اشتهر وذاع صيته وحُقِّق ونشر مثل فهرسة القاضي عياض المسماة "الغُنية"، وفهرس ابن غازي المكناسي المسمى "التعلُّل برسوم الإسناد بعد انتقال أهل المنزل و النّاد"، وفهرس "أحمد المنجور"، وفهرسة اليوسي، و"فهرس الفهارس" لعبد الحي الكتاني، وفهرسة محمد ميّارة الفاسي، ومعجم الشيوخ لعبد الحفيظ الفاسي، وفهرس محمد بن الحسن الحجوي؛ وتعتبر الفهارس ذات دور حاسم في إعادة كتابة التاريخ الفكري والعمراني للمغرب، فهي بالإضافة إلى بعدها المتعلق بالتراجم والأعلام تعتبر كثيفة المعلومات المتعلقة بالأماكن الدينية والمدنية والمرتبطة عضويا بالحركة العلمية وتطورها ومساراتها..
ثمة أهداف مركزية لهذا المشروع العلمي تتمثل أساسا في : أهداف علمية كتوظيف الفهارس والأسانيد في الكتابة التاريخية كفهرس "جمهرة التيجان لأبي القاسم الزياني؛ وأهداف تربوية (جعل التاريخ العلمي والثقافي شيئا محبوبا ومؤلوفا عند الشباب والمثقفين وعامة الناس؛ و تخليد الأسماء في الأماكن العمومية؛ رفد البرامج التعليمية بنصوص تؤرخ للحركة العلمية؛ و أهداف عمرانية، وثقافية، وسياحية، بالإضافة إلى جذب الباحثين والمؤرخين والأنثربولوجيين إلى حقل الدراسات التراثية المغربية بحثا عن الثقافة العميقة والاجتماع وقواعد العمران، وبحثا عن مكامن القوة والضعف، وعن التحولات التي أفضت إلى التخلف وغياب العلم عن الحياة..
وكم هي ثمينة المعلومات العلمية والاجتماعية والعمرانية التي تتضمنها الفهارس، وهي تحتاج بلا مراء دراسات متعددة الاختصاصات من أجل دفع الاستفادة منها إلى أبعد مدى.. من ذلك الإسهام في إعادة كتابة التاريخ الفكري للمغرب، وإطلاق مشروع السياحة الدينية والثقافية، وإدراج عناصر التاريخ العلمي في البرامج التعليمية، واقتراح مشاهد تربط الزمان بالمكان من أجل الإبداع الدرامي والوثائقي.. وهذا حقل ثري ويعد بالكثير إن توفرت الإرادة الكافية لذلك..
لقد استقينا من الفهارس المغربية معلومات مكثفة تخص العلم والعلماء وبرامج التعليم وأماكن التعلم ومجالات استقرار العلماء، والأوقاف، بالإضافة إلى معلومات تهم التاريخ الاجتماعي والاقتصاد والأحوال السياسية، وتتميز الفهارس بكون مادتها الإخبارية تتسم بالصرامة والصِّدقية والمعاصرة للأحداث، وقبل ذلك كتبها علماء يروون وقائع عايشوها وكانوا جزءا من أحداثها، وهذا ما يضفي على هذه الفهارس قيمة علمية وتاريخية كبرى.. إن ما درسناه لحد الآن من فهارس يشكل بالنسبة إلينا مدخلا لدراسة فهارس أخرى تؤرخ لانتقال العلم بالمغرب ودور هذا التسلسل المبارك في عمارة البلد وتثبيت أسس الحضارة ومحاربة القَفْر وجلب النّماء..
من عناصر مشروعنا هذا دراسة أحوال العمران وعلاقته بالعلم من خلال كتب التراجم، والمصدر الأول الذي يتم الاشتغال عليه الآن هو كتاب "سَلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس" ضمن عمل أطلقنا عليه اسم "عمران فاس من خلال سلوة الأنفاس".
وتعد "سَلوة الأنفاس" مادة معلوماتية مكثفة، وهي تحتاج إلى الدراسة والتحليل، والاستنتاج والاستنباط؛ لتساهم في إضاءة جوانب مفصلية في الحضارة المغربية و المجتمع المغربي، الذي لا يمكن أن يزدهر إلا بانصهاره ضمن نطاق الهوية المغربية التي يعتبر العلم ركنها الذي قام عليه اجتماع المغاربة وعمرانهم... وإننا نعتبر الاستنباطات العمرانية من كتاب "السَّلوة" مدخلا لعمل موسوعي نشتغل عليه في الرابطة المحمدية للعلماء، يرمي إلى استثمار الكثافة العلمية والعمرانية المبثوثة في كتاب "السَّلوة" من أجل الإسهام في التأريخ العمراني لمدينة فاس، ثم اقتراح مشاريع عملية من أجل النهوض بالسياحة الثقافية بحاضرة فاس.
وبعد فإن المنطلقات الفلسفية الكبرى لهذا المشروع تنطلق من ثلاث مشاريع كبرى : العلم مؤسسا للعمران؛ وعمران المدن من خلال كتب التراجم؛ و الفهارس بيانات عمرانية.. ويمكن تلخيص الأهداف العلمية والعملية لهذا المشروع في: جغرافية العلم والعلماء بالمغرب؛ تتبع التطور العمراني للمدن المغربية ومنطق عمرانها؛ إعادة التوظيف المنهجي لكتب التراجم والفهارس في كتابة التاريخ الفكري للمغرب؛ رفد البرامج التعليمية بنصوص مستقاة من التاريخ العلمي؛ إطلاق مشروع السياحة الثقافية والدينية؛ اكتشاف الخبرات الكونية المبثوثة في ثنايا كتب التراجم والفهارس..
و المنهج الذي نعتمده في هذا المشروع هو التفكيك والتركيب، تفكيك المعطيات الواردة في كتب التراجم والفهارس وتحقيقها وتدقيقها وربطها بسياقاتها، وهذا عمل على المستوى العمودي، ثم تركيب المعطيات المتحصلة كميا-على المستوى الأفقي- من أجل استخلاص معلومات كيفية على مستوى التأريخ والاجتماع والعمران. ولا تخفى الأهمية الكبيرة لهذا المنهج الذي يتميز بإضفاء النظام على ما يبدو مشتتا ومتناثرا، ونعتقد أن الفوائد العلمية والعملية لهذا المشروع كبيرة وتحتاج إلى تكاثف الجهود وسلامة المنهج ونبل المقاصد. والله الموفق للخير والمعين عليه.