وحدة المملكة المغربية علم وعمرانغير مصنف

ابن باجّة

 

د. جمال بامي
مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

      في تاريخ الفكر الإسلامي والإنساني شخصيات أثرت بشكل كبير في تقدم المعرفة الإنسانية في ميدان الفلسفة والنظر العقلي، لاسيما إذا كانت الرؤية الفلسفية تنبثق من تصور كوني يرتق المعارف وفق تصور نسقي يتناول الإنسان ككائن كوني متعدد الأبعاد.. من هؤلاء الفلاسفة الكبار الفيلسوف الأندلسي المتوفى بفاس ابن الصائغ التّجيبي المعروف بابن باجّة..   
      هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ التجيبي الأندلسي ابن باجة. كان ابن باجة فيلسوفا ومُنظرا وعالما بالشريعة وطبيبا مُبَرزا ونباتيا وحيوانيا ومَنطقيا وعارفا بالتغذية.. عاش صاحبنا ابن باجّة خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، ولد في مدينة سرقسطة الأندلسية، ثم انتقل إلى حاضرة اشبيلية على الأرجح سنة 512 للهجرة…    
      بعد فترة قضاها فيلسوفنا بإشبيلية، سينتقل إلى مدينة غرناطة قبل أن يعبر العُدوة في اتجاه المغرب الأقصى -بعد محنة أصابته- حيث دخل فاس، وكان الحكم وقتئذ في يد المرابطين، ويبدو أن صاحبنا ابن باجة قوبل  بترحاب في البلاط المرابطي…    
       كان ابن باجة -رحمه الله- يؤمن أن ما ينتظم المنظومة الكونية الشاملة هو علاقة جدلية بين الجزء والكل بحيث يفترض أن يكون المنهج الباحث عن النسق الكوني يعتمد التبسيط من أجل الوصول إلى التعقيد، وينطلق من التعقيد من أجل الوصول إلى التبسيط في إطار دورة حلزونية تكون عدتها المعرفية والمنهجية معتمدة على رتق العلوم والمعطيات الكونية فيما بينها بعد فتق طالها على مدى قرون.. من هنا نفهم استعادة ابن باجة لفلسفة الإمام الفارابي، وفلسفة أرسطو بما يمكن اعتباره انخراطا ضمن تصور كوسمولوجي سعى إلى التوفيق بين الشريعة والحقيقة، مثلما سيفعل العلامة ابن رشد الحفيد بعد ذلك، وتأثر هذا العالم الفذ بابن باجة لا مراء فيه.. ويمكن أن نقول أن ابن باجة لم يكتف بالجمع بين عدة علوم-انطلاقا من الطابع الموسوعي لثقافة عصره- فحسب، بل سعى إلى بناء فلسفته على العلوم الطبيعية التي خبرها ومارسها خصوصا علمي الطب والحساب وعلم الحياة، وهو يعتبر بذلك من الأوائل الذين بنوا فلسفتهم الكونية على معطيات العلوم الطبيعية.. وهذا درس أراه بليغا على مستوى استعادة الوعي بضرورة بناء فلسفة إسلامية كونية على أسس العلوم التطبيقية، لكننا لازلنا متأخرين عن إدراك مقاصد ابن باجة في هذا المضمار..
      لا أستطيع أن أفهم والحالة هذه ما قاله الفتح بن خاقان صاحب “قلائد العِقيان” في حق الأستاذ ابن باجة: “إن الأديب أبا بكر بن الصائغ هو قذى في عين الدين وعذاب لأهل الهدى… وقد اشتهر بين أهل عصره بهوسه وجحوده واشتغاله بسفاسف الأمور، ولم يشتغل بغير الرياضيات وعلم النجوم، واحتقر كتاب الله الحكيم وأعرض عنه، وكان يقول بأن الدهر في تغير مستمر، وأن لا شيء يدوم على حال، وأن الإنسان كبعض النبات أو الحيوان، وأن الموت نهاية كل شيء …”  
      إن ما قاله الفتح بن خاقان في حق صاحبنا ابن باجة يعبر بالنسبة إلي عن وجود مسارين فكريين في فهم الدين وتمثل ماهيته، مسار فلسفي يقرأ القرآن بالكون ويقرأ الكون بالقرآن ضمن جدلية الغيب والإنسان والطبيعة بتطبيق منهج القراءتين: قراءة بالله وقراءة مع الله حسبما أُعلن إلهيا في سورة العلق، وقراءة ترى من الدين وجهه البياني الطُهراني “الفقهي” القاطع مع الفلسفة والتأمل الكوني وتوظيف العلوم الكونية في بناء تصور فلسفي للإنسان والوجود..   وقد أثار انتباهي وصف ابن خاقان لابن باجة بالأديب -وهو كذلك- دون التأكيد على تخصصه الأكثر وضوحا، وهو العلوم الطبيعية التي بنى عليها فلسفته، ثم لا ننسى أن ابن خاقان كان وزيرا بالأندلس.. على كل حال سيبقى مثل موقف ابن خاقان من ابن باجة قائما مادامت السماوات والأرض…
      تُجمع المصادر أن براعة ابن باجة في الطب ألّبت عليه خصومه من الأطباء “التقنيين” لدرجة محاولة قتله، والراجح أنه مات مسموما، ودفن في مدينة فاس سنة 529هـ..      
      لصاحبنا ابن باجة  تآليف في مختلف العلوم الطبية والمنطقية والفلسفية والرياضية وكتب في علوم الحيوان، منها “رسائله الإلهية”، وكتاب في الطب حول “كتاب الأدوية المفردة لجالينوس”، وكتاب “اختصار الحاوي للرازي”، و”كتاب التجربتين على أدوية بن وافد”، و “كلام في المزاج”. ويبدو أن تأثير ابن باجة في ابن طفيل وابن رشد كان كبيرا. وقد أشاد ابن طفيل (تـ581هـ) بعمق تفكير ابن باجة فقال في مقدمته الرائعة “حي بن يقظان”: “ثم خلف من بعدهم خلفٌ أحذق منهم نظراً، وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثـقب ذهناً، ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن باجّة”، وقد كنت كتبت مقالا عن ابن طفيل في جريدة ميثاق الرابطة، ويبدو أن فكر هذا الرجل متأثر بشكل كبير بفلسفة ابن باجة..
      ومعلوم أن الأصول العربية لكتابات ابن باجّة ضاعت، ولولا كتبه المترجمة إلى اللاتينية، وبعضها إلى العبرية لكانت خسارة كبرى للفكر الإنساني… واشهر كتب ابن باجة كتاب “تدبير المتوحد”، وله أيضا رسالة “الاتصال” و “كتاب النفس” وكتاب “الكون والفساد” و”رسالة الوداع”..
      وقد ذكر ابن أبى أصيبعة في كتابه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” كتبا في صناعة الطب لابن ماجة ضاع أكثرها، ومما بقي من كتبه “مجموعة في الفلسفة والطب والطبيعيات”، وله كتاب في “النبات” وآخر في “الحيوان”، وله رسالة “اتصال العقل” و “تعليق على كتاب الفارابي في القياس”، و”كتاب النفس” و “تعليق على كتاب العبارة للفارابي”) نقلا عن الإعلام للعلامة الزركلي، بتصرف).
      قام ابن باجة بإعادة قراءة أرسطو، محاولا إعادة ترتيب علاقة البرهان بالعرفان، وليس الأمر كما فهم البعض من أن الأمر يتعلق في فلسفة ابن باجة بفصل العرفان عن البرهان ضمن ما اعتبروه نقدا للأفلاطونية الجديدة.. ولا يخفى التأثر الكبير لابن باجة بالفيلسوف الفارابي، ثم تأثر ابن طفيل وابن رشد بابن باجة.. ويبرز تفكير ابن باجة في “الأرض” كتفكير نسقي يربط بين الجمادات والكائنات الحية، وموقع الإنسان في الكون، وقد اعتبر الحيوان كشريك للإنسان على الرغم من تميز الإنسان بالنظر العقلي، وهذا يقع في صلب ما يسمى في أدبيات “الفلسفة البيئية” المعاصرة بأخلاق الأرض.
      وهو غير هذا وذاك مؤول كبير ساهم بكيفية منطقية، في بعث نصوص قديمة لأرسطو من مرقدها وأحسب أن المشاكل التي وضعها الأقدمون تعد بمعنى من المعاني مشاكل خالدة، لذلك اعتبرها ابن باجة جديرة بالشرح والتأويل والاستدعاء فأعمل “الكلام” فيها..
      ويبدو من خلال “رسالة الوداع” لابن باجة التي كان وجهها إلى تلميذه أبي الحسن علي السرقسطي قبيل رحلته إلى المشرق، وقد بث ابن باجة في هذا الكتاب دُررا فلسفية بعيدة الغور والمقصد، وتكلم فيها عن الارتقاء بالإنسان من نوازع الفردية إلى مرتبة الإتحاد بالعقل الكوني، وهو هنا يذكرنا بما سيقوله الشيخ الأكبر ابن عربي الحاتمي من بعده: “خرج الإنسان من رحم الطبيعة بالكون، وسيعود إليها بالوعي”، وآمن صاحبنا ابن باجة أن التقرب إلى الذات العلية لا يكون إلا بالفلسفة والعلم، وهذه مسألة تبدو بديهية ضمن النسق الفكري لابن باجة، وقد نشر “رسالة الوداع” المستعرب العلامة الإسباني ميكيل آسين بالاثيوس مع ترجمة إسبانية سنة 1943م بمدريد، وقد رفد الإنسانية بعمل فلسفي كبير..  
      ومن أشهر مقولات العلامة ابن باجّة حديثه عن منازل الناس الذين هم عنده مراتب: المرتبة الجمهورية: والإنسان هنا لا يعبأ إلا بالمعقول، والمرتبة النظرية: والإنسان في هذه الحالة ينظر إلى الموضوعات قبل كل شيء، ثم إلى المعقول في الثانية، ومرتبة السعداء: وهم الذين يمسّون جوهر الأشياء..
      كان ابن باجة أيضا شاعرا رقيقا مجديدا، ومن شعره المتداول قوله في مدح المرابطين:
      قــــوم إذا انتقبـــوا رأيتَ أهلّــة          وإذا همُ سَفــــروا رأيت بـــدوراً
      وقوله في رثاء أبي بكر بن عمر اللمتوني:
      وسألنا متى اللقاءُ فقيلَ الحشرُ          قلنــــــا صبراً إليـــــــه وحزنــــــاً
      ومن قوله رحمه الله وهو يُحتضر:
      أقول لنفســـي حين قابلهـــا الـــردى          فراغت فراراً منـــه يُسْرى إلى يُمنـى
      قَرِي تحملــــي بعضَ الــذي تكرهينـه          فقد طـالمـــا اعتدت الفرار إلى الأهنا
      وفي كتاب المقري “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” مختارات من شعر  ابن باجة، فلتنظر في محلها..
       ولابن باجة كتاب شهير هو “تدبير المتوحد” حققه العلامة معن زيادة ونشر في بيروت سنة 1978م، وانطلق ابن باجة في كتابه هذا من كون التدبير عملية عقلية كونية فلسفية “تنظم” الفعل الإنساني في اتجاه رتق العرفان بالبرهان بحثا عن “الوحدة” التي يتوق إليها “المتوحد”؛ شيء من هذا رأيناه في الصلاة المشيشية للقطب ابن مشيش في المقالة التي خصصناها له في جريدة ميثاق الرابطة..
      ذكر ابن أبي أصيبعة في “عيون الأنباء في طبقات الأطباء” كتابا في الطب لابن باجة هو “شرح كتابي الأدوية المفردة للطبيب اليوناني جالينوس Galien (ت201ـم)، وذكر الدكتور ماجد فخري في تحقيقه  ل”تعاليق ابن باجة على منطق الفارابي” (دار الشروق، بيروت، طبعة: 1، 1994) كتاب  “شرح السماع الطبيعي” لأرسطو، وهو كتاب يتمحور حول “الكلام في الطبيعة” كمدخل للتفلسف الكوني..
      أما علاقة ابن باجة بالفارابي فقد انبرى ليعالج المسألة الدكتور ماجد فخري في تحقيقه  لـ “تعاليق ابن باجة على منطق الفارابي” (دار الشروق، بيروت، طبعة: 1، 1994)، ويتصدر المجموعة المنطقية للفارابي-والتي اهتم بها ابن باجة أيما اهتمام- طائفة من التعاليق على ما يمكن دعوته “بكتب التوطئة” عن الفارابي، ومعروف أن الفارابي قد ألف عددا من هذه الكتب هي “المدخل أو إيساغوجي”.
      يقول الدكتور فخري أن أبا بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة توفر، بوجه خاص على نهج أبي نصر الفارابي (تـ  950م) دون سواه، إن في فلسفته الخلقية والسياسية أو في المنطق. وقد أقبل الفيلسوف ابن باجة على تدبر منطق الفارابي والتعليق على أجزائه المختلفة في سلسلة من النصوص كان شرع  في نشرها الدكتور ماجد فخري، وقد أتبث الأستاذ جدولا بالآثار الفارابية الوارد ذكرها في مؤلفات ابن باجة، المطبوع منها والمخطوط.. وقد استعان الباحث بذلك على التثبت من صحة نسبة مجموعة من الأعمال للفارابي، لاسيما أن عددا لم يكشف عنه حتى الآن.. وهذا عمل علمي كبير..
      ومن أهم الآثار الفارابية التي شرحها صاحبنا ابن باجة كتاب “الأخلاق إلى نيقوماخس” الذي يدعوه كل من الفارابي وابن باجة نيقوماخيا.. فقد نسب ابن النديم في “الفهرست” إلى الفارابي “تفسير قطعة من كتاب الأخلاق” لأرسطو طاليس.. ومع أنه ليس من اليسير التحقق من الجانب الذي شرحه الفارابي من كتاب “الأخلاق إلى نيقوماخس”؛ فإن إشارات ابن باجة إلى هذا الشرح في “رسالة الوداع”، وفي شرحه لمقالات السماع” تؤيد ما يذكره ابن النديم من اقتصاره على أجزاء من هذا الكتاب وحسب، هذا ما ذهب إليه الدكتور ماجد فخري في تحقيقه لـ “تعاليق ابن باجة على منطق الفارابي” (دار الشروق، بيروت، طبعة 1، 1994)..
      وبعد فقد قصدت من هذا المقال حول ابن باجة إثارة الانتباه إلى منهج في التفكير ساد في التاريخ الإنساني حول علاقة الفلسفة بالدين، وهو منهج يرتق المعارف الكونية ولا يفتقها، وإن فعل ذلك فلمقصد تفكيكي من أجل إعادة التركيب والبناء الفكري وفق قواعد المنهج الكوني.. وليس غريبا أن نرى موقفا مثل موقف الفقيه الفتح ابن خاقان من صاحبنا ابن باجة (أنظره بتفصيل في نفح الطيب للمقري)، وهو موقف ملازم يذكي التدافع في اتجاه معانقة الدين والكون معا وفق منهج القراءتين: قراءة بالقلم وقراءة بالقرآن ويتيح إعادة الوفاق بين الإنسان والطبيعة الكونية..
      وأبو بكر بن باجّة هو الذي قال في حقّه لسان الدين في الإحاطة: إنّه آخر فلاسفة الإسلام بجزيرة الأندلس.. توفي ابن باجة في الغالب مسموما بمحروسة فاس، ودفن بها سنة 529هـ، رحمه الله ونفعنا بعلمه، والله الموفق للخير والمعين عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق