وحدة الإحياءحوارات

في سياق الاحتفال بذكرى ملحمة المسيرة الخضراء: أهم مقومات وخصائص الشخصية الحضارية المغربية.. رهان التقدم والنهضة بين التراث والتجديد

في هذا الحوار الفكري الشامل مع فضيلة الدكتور عبد الحق المريني، مؤرخ المملكة الشريفة والناطق باسم القصر الملكي العامر، سوف نقف معه على التحولات الكبرى التي أسهمت في تشكيل شخصيته العالمة، وكيف تبلور لديه الاهتمام بالتأريخ لمؤسسة الجيش المغربي، وهو الاهتمام الذي أثمر مصنفا مرجعيا في بابه؛ يتعلق الأمر بكتاب: “الجيش المغربي عبر التاريخ”، وكيف تميز مساره المعرفي والأكاديمي بالمزج بين التاريخ والأدب، خاصة بعد مناقشة أطروحته للدكتوراه حول موضوع: “شعر الحماسة في الأدب المغربي”. وليس غريبا أن ينصب اهتمام فضيلته على قضايا اللغة والهوية والمجتمع في صلتها الوثيقة ببناء الشخصية الحضارية للمغرب، وكذا اهتمامه وجمعه بين التراث الثقافي والحضاري، وبين مفهوم الرأسمال غير المادي. وهو ما دعانا لاستفساره عن المنطق الذي حكم التشكل التاريخي للهوية والشخصية الحضارية المغربية بتعدد وغنى مكوناتها وروافدها. وعن السر في نجاح التجربة التاريخية والحضارية المغربية في ضمان التعددية اللغوية والثقافية في كنف وحدة الأمة الجامعة..

حاوره: د. عبد السلام طويل

1. ما هي التحولات الكبرى التي أسهمت في تشكيل شخصيتكم؟

لما كنت تلميذا بقسم الشهادة الابتدائية في إحدى المدارس الحرة، وهي مدرسة النهضة السلاوية كنا نحن التلاميذ نتلقى دروسا في تاريخ المغرب منذ عهد الأدارسة إلى العهد العلوي، ورغم صغر سني كنت من خلال هذه الدروس معجبا بالدور البطولي لملوك الدول المرابطية والموحدية والمرينية والسعدية والعلوية في الدفاع عن حوزة الوطن ووحدته الترابية والدينية ضد المتمردين على السلطة الشرعية في الداخل، والمعتدين على شواطئه وحدوده من الخارج.

فبدأت أميل إلى تاريخ المغرب والغوص في ماضيه الحافل بالأمجاد في مرحلتي دراستي بالثانوية والجامعة. ومن جهة أخرى كانت القصائد العصماء في الأدب العربي التي كان أستاذنا في اللغة العربية الشاعر الكبير المرحوم عبد الرحمان حجي بثانوية مولاي يوسف يلقننا إياها، ويلزمنا بحفظها والبحث في معانيها ودلالتها قد حببت إليَّ الأدب العربي بشعره ونثره، وغرست في نفسي غريزة نظم الشعر، ولكن في غمرة الدراسة الجامعية، انقطع حبل الوصال بيني وبين القريض، وأصبح هذا الحبل غير ممدود. ولكن هذا الحبل لم ينقطع بيني وبين الكتابة في مواضيع تاريخية وأدبية واجتماعية كانت تثير انتباهي وتحرك مشاعري خلال مسيرتي التعليمية.

وعندما عزمت على ولوج كلية الآداب بالرباط سنة 1960، بعد ما تحققت لدي أسباب الدخول وقفت حائرا على عتبتها، فهل سأسجل اسمي في شعبة الأدب العربي أم في شعبة التاريخ، واخترت في آخر الأمر الشعبة الأدبية، وبقي الحنين يجرني إلى تاريخ المغرب، فهيأت في نفس المرحلة “شهادة تاريخ المغرب”، التي لم تدم إلا سنة واحدة بالكلية حيث لم تلق أي اهتمام من جانب طلبة ذلك العهد.

وبعد سنتين من الدراسة، حصلت على شهادة الإجازة في الأدب ــ حيث كان يسمح للطلبة بجمع شهادتين في سنة واحدة، وذلك ضمن الفوج الثاني المتخرج من الكلية لسنة 1962. ثم قمت بتهيئ شهادة دبلوم الدراسات العليا من معهد الدراسات العليا العربية والإسلامية بمدينة “ستراسبورغ” الفرنسية في موضوع “الدعوة الموحدية”، وشهادة دكتوراة الجامعة (التي حذفت من النظام الجامعي الفرنسي منذ عقود) في موضوع “المرأة المسلمة من خلال القرآن والسنة”، وهذان الموضوعان دفعاني إلى التعمق في الدراسات الإسلامية والدعوات الإصلاحية. والموضوعان معا قد يجمعان بين التاريخ والدراسات الإسلامية.

وكان الموضوع حول المرأة المسلمة حافزا لي على الكتابة في مواضيع تتعلق بنهضة المرأة المغربية ومكانتها في المجتمع المغربي ودورها الفعال في بناء الوطن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

2. كما تميز مساركم البحثي بالتأريخ لمؤسسة الجيش. كيف تبلور لديكم هذا الاهتمام؟

لما كنت أحرر مقدمة لكتيب صغير صدر عن القوات المسلحة الملكية بمناسبة ذكراها التاسعة لتأسيسها سنة 1965، قلت في نفسي لما لا أتعمق في البحث وأنجز كتابا عن تاريخ هذه القوات المغربية الباسلة منذ الدولة الإدريسية إلى يومنا هذا، وأنا متشبع بالروح العسكرية منذ يفاعتي. وكان كتاب “الجيش المغربي عبر التاريخ”، أول مصنف يصدر في موضوع التاريخ العسكري للمغرب قبل صدور مؤلفات أخرى في مختلف جوانبه. وصدرت له ست طبعات منقحة ومزيدا فيها ونلت به جائزة المغرب في أول نشأتها لسنة 1967م.

وتوالت الأيام، وخاطبني يوما عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري: لقد ألفت كتابا عن تاريخ الجيش المغربي ومعاركه ونضاله وحماسته فلماذا لم تبحث في جانب الشعر في الأدب المغربي الذي واكب المعارك والحروب التي جرت داخل المغرب وخارجه لتؤلف من بحثكم أطروحة للدكتوراه يكون عنوانها مثلا: “شعر الحماسة في الأدب المغربي”.

3. إذن فتأليفكم لكتاب”الجيش المغربي عبر التاريخ”، هو الذي أوحى لكم، باقتراح وتوجيه من عميد الأدب المغربي أستاذنا الدكتور عباس الجراري، بموضوع أطروحتكم الجامعية؟

تماماً؛ وهو ما جعلني أعتكف في محراب البحث والاستقراء عن التراث الشعري الحماسي في مصنفات الأدب والتاريخ والتراجم والطبقات والدواوين الشعرية القابعة في مختلف الخزانات، والتي تتعرض إلى وصف المعارك والحروب، وإبراز صفات الشهامة والشجاعة والبطولة لجنودها وقادتها، وإلى التحريض على الجهاد والاستشهاد في الدفاع عن وحدة البلاد ونصرة العباد.

وقد واكب هذا البحث بحث من نوع آخر في كتب التاريخ لمعرفة الظروف والأحداث والوقائع التي أنشدت حولها القصائد الشعرية. ولما أخذت الأطروحة قالبها النهائي أطلقت عليها “شعر الجهاد في الأدب المغربي”، وأعني بالجهاد في هذا الباب، الجهاد الرامي إلى الدفاع عن النفس وعن الوطن وعن الملة إذا وقع اعتداء عليهم، وليس بالمعنى الذي ألصق به في هذا العصر الملفوف بالتعصب الأعمى، والاعتداء الشنيع على الغير بدون هوادة، والذي يحرض على العنف والنفير والزحف والتفجير، والذي يتناقض تناقضا تاما مع جوهر الجهاد المشروع وروحه وضوابطه الأخلاقية، وأهدافه الإنسانية إذ الجهاد لا يعني فقط الموت في سبيل الله بل يعني أيضا الحياة في سبيل الله.

وكانت مناقشة هذه الأطروحة بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس سنة 1989، التي فازت بدرجة “مشرف جدا”، وبجائزة عبد الله كنون سنة 1997.

4. وهو ما يفسر تميز مساركم المعرفي والأكاديمي بالمزج بين الأدب والتاريخ. هل لكم أن تطلعونا عن حيثيات هذا المزج وعن الرؤية الحاكمة له؟

لقد جمعت بين الأدب والتاريخ في مسيرتي الدراسية والفكرية فالأدب أدخلني إلى التاريخ، كما أن التاريخ أدخلني إلى الأدب، واكتشفت خلال هذه المسيرة الفكرية أن الأدب والتاريخ في المغرب يتداخلان ويتكاملان. فلابد لدارس الأدب المغربي من أن يطلع على تاريخ الحقب التاريخية التي أنشأ فيها هذا الأدب، ولابد للمؤرخ المغربي من أن يطلع على النصوص الشعرية والنثرية التي نظمت وكتبت بمناسبة صدور الحدث التاريخي الذي هو بصدد دراسته وتحليله.

وفي هذا الإطار، دفعتني عنايتي بتاريخ المغرب إلى كتابة عدة بحوث ومؤلفات تعنى بتاريخ المغرب “كمظاهر الحضارة الأمازيغية”، و”الدعوة الموحدية”، و”المخزن المغربي في العهد العزيزي”، و”محطات في تاريخ المغرب المعاصر”، و”المغرب أرض الأبطال”، و”منارات من تاريخ المغرب”، و”نظرات في الفكر الخلدوني”، و”تاريخ دولة بني مرين”، و”الأندلس وإشعاعها خارج حدودها”، و”البيعة المغربية عبر التاريخ”، و”المرابطون والموحدون ومسألة توحيد أقطار المغرب عقائديا وسياسيا”، و”لمحة تاريخية عن الحركة الدستورية في العهدين العزيزيوالحفيظي”، و”نظرات في الإبداع العربي والحضارة المغربية”، و”ملحمة محمد الخامس” ذلك الملك الذي كان فاتح عقول المغاربة ليواكبوا مسيرتهم السلمية لمحاربة الاحتلال والتعاطي بكل قواهم للاغتراف من معين المعارف والعلوم رجالا ونساءً، والمحافظة على عقيدتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وعلى أخلاقهم وحضارتهم العريقة، ومحاربة كل أنواع الفساد والانحلال حتى يرقى المغرب إلى مصاف الدول النامية المتقدمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

5. المتتبع لإنتاجاتكم يلحظ أنكم تجمعون بين التراث الثقافي والحضاري، وبين مفهوم الرأسمال غير المادي. ما هي أهم الجهود التي بذلها المغرب، وطنيا ودوليا، لتثمين ما نمتلكه من رصيد ثقافي وحضاري بالغ النفاسة؟

كلما أثيرت مسألة رأسمال غير المادي، أي التراث الوطني، إلا وتبادر إلى الذهن الموروث الثقافي والحضاري للدولة، وهذا ما يدفع بأولي أمرها إلى التفكير في إصلاح كل قطاعاتها المهتمة بالموروث الثقافي والفكري والمحافظة عليه وتخليده للأجيال القادمة. وقد بدأ الاهتمام بهذا الموروث اهتماما خاصا في بلادنا ابتداء من أواسط القرن العشرين استجابة لرغبة كثير من المؤسسات الثقافية العالمية كمنظمة اليونسكو التي تعنى بمجالات التربية والعلوم والثقافة والتراث على الصعيد الدولي، وتعرض قراراتها على كافة الدول والشعوب للعناية بكل ما هو موروث ثقافي واجتماعي غير مادي، الذي تحتضنه بلادهم من أدب شفوي وتراث قصصي شعبي، وأساطير، وعادات، وتقاليد وأعراف، وسلوك، وفنون شعبية، وصناعات يدوية تقليدية، وتحف معمارية، وعادات أسروية، وطقوس خاصة بالأفراح والأقراح وبالمناسبات الدينية، وفنون الطبخ الأصيل، والطرز والحياكة، وأنماط احتفالية وفرجوية وموسيقية وغنائية، (أندلسية وملحونية وأمازيغية وحسانية) وكافة المهارات الموروثة عن الأجداد والأجيال السالفة، التي تشكل عبر العصور الهوية الوطنية التي يجب أن تنفتح على الهويات العالمية الأخرى.

وقد انضم المغرب إلى اتفاقية اليونسكو الصادرة في هذا الشأن والتي تم إبرامها سنة 1970، والمتعلقة بالتدابير الواجب اتخاذها لمنع الملكية الشخصية لكل ما تملكه الدولة من قطع أثرية، وبنايات تاريخية، أو أي تراث ثقافي ثمين كالمخطوطات، والوثائق، والنقود التاريخية، والتحف الفنية العتيقة.

كما صادق المغرب على الاتفاقية من أجل المحافظة على التراث الثقافي اللامادي أثناء انعقاد الجمعية العامة لليونسكو سنة 2003، وتم التوقيع عليها من طرف المغرب سنة 2006. وبذلك شرع المسؤولون عن التراث غير المادي في بلادنا بحملة علمية واسعة، لإحصاء المواقع والمعالم الأثرية، والمنجزات العلمية التاريخية، وأطلال المؤسسات القديمة الدينية والعلمية، وتسجيلها في قائمة روائع التراث الثقافي البشري اللامادي بالمغرب.

وما أن مرت بضع سنوات على هذا العمل الهام حتى فاز المغرب باعتراف منظمة اليونسكو لمجموعة من المآثر، والمدن العتيقة كمدينة فاس، والمواسم الجهوية، وطرق التنمية الفلاحية، والمواقع التاريخية كساحة جامع الفنا مثلا بمدينة مراكش، وموسم طانطان، وتقاليد زراعة شجر الأركان، ومهرجانات الفروسية التقليدية وغيرها، كتراث إنساني.

وهكذا، يكون المغرب، الغني بتنوعه البشري والسلالي والثقافي والتاريخي والجغرافي والعقائدي، قد أبان على تشبثه بتراثه الثقافي الحضاري غير المادي، الذي يجب أن يوفر له جميع الوسائل المادية والبشرية للعناية به، وتنميته والمحافظة عليه والاهتمام بكل مظاهره وفضاءاته، وإقراره كمادة في المنظومة التربوية التعليمة، وإنشاء مسالك له داخل الجامعات المغربية وفي مراكز البحث العلمي، وإيلائه المكانة اللائقة به في النسيج الاجتماعي والثقافي محليا وجهويا ووطنيا، حتى يمكن أن يجعل منه رافدا مهما من روافد التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتشجيع المواطنين كافة على التجاوب معه، وتطويره إلى ما هو أجمل وأبهى.

وقد أشار صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده في خطاب عيد العرش المجيد لسنة 2014، في موضوع التنمية الشاملة بقوله: “وخلال تسعينيات القرن الماضي بدأ العمل باحتساب الرأسمال غير المادي، كمكون أساسي للثروة قبل أن يتم اعتماده رسميا كمعيار علمي منذ سنة 2005، من طرف البنك الدولي، ويركز هذا المعيار على احتساب المؤهلات التي لا يتم أخذها بعين الاعتبار من طرف المقاربات المالية التقليدية، ويتعلق الأمر هنا بقياس الرصيد التاريخي والثقافي لأي بلد، إضافة إلى ما يتميز به من رأسمال بشري واجتماعي، والثقة والاستقرار، وجودة المؤسسات، والابتكار والبحث العلمي، والإبداع الثقافي والفني، وجودة الحياة والبيئة وغيرها”.

6. ليس غريبا، إذن، أن ينصب اهتمامكم على قضايا اللغة والهوية والمجتمع في صلتها الوثيقة ببناء الشخصية الحضارية للمغرب. ما تصوركم للهوية في صلتها باللغة؟

كلمة هُوية بضم الهاء وكسر الواو وليس بفتح الهاء (هَوية) التي هي عبارة عن البئر، أو الحفرة العميقة، أو اسم لبطاقة التعريف اليوم في بعض البلدان الشرقية كما ورد عند أستاذنا الدكتور عباس الجراري في مؤلفه القيم عن “هويتنا والعولمة”.

وقد جاءت لفظة هُوية، كما يقول المفكرون، من الضمير المذكر المنفصل: “هو”.وتقول دة.نوال السعداوي ولماذا لا تجيئ من الضمير المؤنث المنفصل هي؟

ومن أهم عناصرها الأساسية؛ الوطن والعقيدة واللغة والثقافة كما هو معلوم ومتفق عليه. والهُوية تتغير معانيها بتغير الأزمان والأحقاب وبتطور الطبيعة البشرية وعاداتها، وبالتفاعل المستمر للشخصية الإنسانية مع القيم الاجتماعية السائدة، فهوية الرجل المسلم مثلا في فجر الإسلام ليست هي هوية الرجل المسلم في الألفية الثالثة، ولم يبق اللباس جزءا من الهوية كما كان من قبل، فالحجاب مثلا بالنسبة للمرأة ليس عنصرا أساسيا من هويتها اليوم كما كان في العصور السالفة. والهوية ليست مبدءًا عنصريًا كما يدعي من يدعو إلى قوميات مختلفة.

فكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية يقوم على قيم اجتماعية هي الوحدة، والمساواة، والكرامة، والعدل، والثقافة ورسوخ العقيدة الدينية لا على أساس الجنس أو العرق.

وهذه القيم المجتمعية هي ضرورية حتمية لتحقيق التكامل والانسجام، ونهضة المجتمع، والارتقاء بهذه النهضة إلى الأفضل.

ومن روافد هذه الهوية الحضارة الأصيلة لكل بلد رغم ما يصيبها من “أشكال التأثر والتأثير” من جراء “مختلف العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنظرية الفاعلة في محيطها”.

ولا يغيب عن أذهاننا دور اللغة ودعائمها الثابتة في تركيز معالم هويتنا مهما تعرضت لعوامل التغيير والمستجدات؛ فاللغة في كافة المجتمعات تكون جزءا أساسيا من مكونات هويتها.

7. بناءً على ما سلف، تتميز الشخصية الحضارية المغربية بتعدد وغنى مكوناتها وروافدها. هل لكم أن تبرزوا منطق التشكل التاريخي للهوية الحضارية المغربية؟

من المعلوم أنه منذ فجر التاريخ إلى العصور الوسطى نزحت إلى المغرب شعوب متفرقة إما للغزو أو للمتاجرة؛ كالفنيقيين والرومان والبزنطيين والوندال وجماعات من اليهود و”الحراطين” (القادمين من بلاد السود)، وقد وقع اندماج هؤلاء الوافدين مع “البربر” بلغة العصر القديم؛ أي الأمازيغيين سكان المغرب الأصليين عبر التاريخ، وتطورت علاقاتهم الاجتماعية والتجارية معهم وتأثروا بحضاراتهم.

 ثم جاءت الفتوحات الإسلامية إلى المغرب وحاربت المعتقدات المنتشرة فيه وقتئذ. فتم إسلام الأمازيغيين، وامتزج الأعراب بالقبائل الأمازيغية وتساكن العنصران العربي والأمازيغي على عهد الدول الحاكمة، وعرف تعريب الأمازيغيين بعض التقدم عن طريق الجماعات النازحة تباعا من المشرق؛ كقبائل بني هلال وكذا من القيروان ومن بلاد الأندلس، وتبادل سكان المغرب الأصليون مع هؤلاء النازحين التأثير والتأثر، وأصبحوا يكونون جميعا عنصرا وطنيا ونسيجا مغربيا متلاحما، ذابت فيه كل الفوارق.

فمن نحن إذا؟ نحن مغاربة أبا عن جد، مغاربة ذوو أصول مختلفة عريقة في التاريخ والمجد؛ “رومانية فينيقية، أمازيغية، عربية، أندلسية، إفريقية ذابت كلها في الكيان الأمازيغي الأصلي وأصبحت تكون مزيجا بشريا عرقيا يصعب تفكيك عناصره. وبذلك أصبحت هويتنا تتمثل في البعد الأمازيغي والعربي–الإسلامي والأندلسي والزنجي وحتى في البعد الكوني.

أما من الناحية اللغوية فمنا، نحن المغاربة، من يتحدث فقط بالعربية أو بالأحرى بالدارجة المغربية وهم المغاربة المعربون، ومنا من يتحدث بإزاء اللهجة العامية بلهجته الأمازيغية الأصيلة، وهم المغاربة الناطقون بالأمازيغية.

فالتمييز الحاصل بين عناصر ساكنة المغرب أي بين المغاربة الناطقين بالعربية (تاعرابت) بدرجات متفاوتة دون غيرها من اللهجات، والمغاربة الناطقين بلغة الهوية التاريخية أي الأمازيغية بلهجاتها الثلاث؛(تمازيغت، تاشلحيت، تاريفيت) بتعدد فروعها مع إتقانهم التحدث باللهجة الموحدة بين كافة المغاربة وهي الدارجة المغربية، هو اختلاف لغوي فقط. وهذا الاختلاف اللغوي لا يعني وجود اختلاف عرقي أو سلالي أوإثني، بل هو اختلاف فقط “لهجي” إن صح التعبير حسب المناطق والجهات المغربية.

8. كيف تفسرون نجاح التجربة التاريخية والحضارية المغربية في ضمان التعددية اللغوية والثقافية في كنف وحدة الأمة الجامعة؟

لا يخفى أنه وقع خلال هذا الالتحام الفطري والتعايش اللغوي عبر العصور الماضية التأثر والتأثير بين اللغة العربية واللهجات الأمازيغية والدارجة المغربية، والتاريخ شاهد على ذلك، مما يدل دلالة قاطعة على عدم إقصاء اللهجات الأمازيغية أو تهميشها، وذلك لانسجام القبائل العربية والأمازيغية بعضها مع بعض، وتنافس ملوك دولهم المرابطين (وهم من قبيلة صنهاجة)، والموحدين (وهم من قبيلة مصمودة)، والمرينيين بالمغرب، والحفصيين بتونس (وهم من قبائل زناتة) لإيصال الحضارة الإسلامية والعقيدة الدينية إلى أوروبا الجنوبية وإفريقيا السمراء.

وهذا هو السبب الأساسي لكون اللهجات الأمازيغية لم تنقرض في المغرب وبقيت متداولة بين أهلها وذويها، فارضة وجودها فرضا في المجالات الثقافية والفنية والتجارية والصناعية الوطنية بجميع ألوانها وأشكالها. وكل ما نتمنى لها هو أن تصير لغة أمازيغية موحدة حتى تصبح هي واللغة العربية حسب الدستور الجديد لغتين مندمجتين في الشخصية الثقافية لكافة المغاربة.

وهكذا حافظ المغاربة على وحدة كيانهم الذي لا يقبل الانفصال مهما تنوعت أصولهم ولهجاتهم وبقوا متشبثين بمقوماتهم وهُويتهم ووحدة وطنهم، وموروثهم الثقافي الأمازيغي الأصيل والعربي–الإسلامي واقفين صفا واحدا أمام كل معتد أثيم على وحدة بلادهم وسلامة دولتهم، وضد كل مناورة تستهدف المس بعقيدتهم الصحيحة وهويتهم المتأصلة التي هي ملك لكل المغاربة وبها معتزون وعليها محافظون.

وأكبر دليل على ذلك تصويت المغاربة بأغلبية ساحقة على الدستور المغربي الجديد 2011م، الذي يقول في تصديره: “الهوية المغربية تتميز بتبويئ الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية الموحدة، وبانصهار كل مكوناتها العربية-الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية، الغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”.

فعلينا إذا؛ أن نرسخ هويتنا المغربية الأصيلة عقيدة ولغات وثقافات متنوعة، ونتمسك بروافدها الغنية مبتعدين كل البعد عن الصراعات والديماغوجيات الواهية التي ستعرقل التحاقنا بالموكب الحضاري العالمي الذي لا ينتظر أحدا للالتحاق بقاطرته، و”أن نبقى دائما، كما قال جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، على بينة من شخصيتنا ومن تاريخنا ومن تراثنا الوطني”.

9. من أهم الملاحم التاريخية الكبرى التي ميزت عهد الملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله، تنظيمه للمسيرة الخضراء. ما هي أهم الدروس التي تستخلصونها منها، وتودون إطلاع من لم تتح لهم فرصة معاينتها من شبابنا؟

إن المسيرة الخضراء لتحرير الصحراء أصبحت لتاريخ المغرب عنوانا وملحمة خالدة التي قال عنها مبدعها المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني، رحمه الله، في إحدى ذكرياتها: “فلو لم تكن مسيرة الشعب والعرش مسيرة تاريخية حتى أصبحت جبلية عندنا لما تمكنا في القرن الذي نحن فيه من أن نقوم بثورة الملك والشعب”.

 وهكذا لم تحط مسيرتنا الرحال بل استمر دبيبها في نفوسنا وبين أهلينا، وانطلقت مسيرتنا مدرسة متنقلة في ربوع المملكة، تعلمنا فيها كيف يكون الإقدام عندما يدعو داعي الفداء والتضحية، ومتى يكون الإحجام عندما ينادي منادي التعقل والرزانة.

تعلمنا فيها أن الاعتماد على النفس الحافلة بالصدق والإخلاص، وعلى الإرادة المتشبعة بالتجرد والنزاهة بغية نيل كل مراد شريف، وهو أمضى من كل سلاح وأقوى من كل برهان، وأن ما يؤخذ باللين واللياقة والحكمة لا يؤخذ بالقوة أو بالعداء، لأن ما ضاع حق من ورائه طالب نزيه عاقل عادل عفيف.

تعلمنا في مدرسة المسيرة كيف نقوم ما اعوج من تفكيرنا، ونصلح ما فسد من تصرفاتنا، وكيف نتقن عملنا ونحسن صنعنا، وبأي منظار سليم يجب أن ننظر في عمق مشاكلنا، وكيف نقوي عزيمتنا، ونصقل عقليتنا ونرصص صفوفنا في مسيرة التنمية والنماء والرفعة والرقي والكمال.

تعلمنا في مدرسة المسيرة أنه إذا أراد شعب الحياة الكريمة واشتاق إلى تمام الحرية والانعتاق، وعزم على تحقيق الوحدة الكبرى لبلاده، فلابد له أن يسير جادا بخطوات ثابتة صامدة، ويشمر عن ساعديه بكل شمم وإباء، ويواجه الغاصب المعتدي والمناور المتحايل بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة التي تثبت إثباتا راسخا مشروعية مطلبه وعدالة مأربه. فلابد أن يستجيب القدر، ولابد أن ينتصر الحق الواضح على الباطل الزهوق.

تعلمنا في مدرسة المسيرة أن المسيرة التاريخية والحضارية والتقدمية للمملكة المغربية. من عهد إدريس الأول إلى عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله. تشق دوما طريقها نحو المجد ونحو العظمة، ونحو الخلق والإبداع، لا تعرف للتوقف سبيلا ولا تجد للتردد منفذا؛ فهي تنتقل من غزو إلى غزو ومن معركة إلى معركة ومن نصر إلى نصر.

Science
الوسوم

د. عبد الحق المريني

– مؤرخ المملكة المغربية.

– الناطق الرسمي باسم القصر الملكي منذ 29 أكتوبر 2012.

– شغل منصب مدير التشريفات الملكية والأوسمة (1965-1972).

– مكلف بمهمة بوزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة (1972-1998).

– مديرا للتشريفات الملكية والأوسمة سنة 1998.

– عضو باتحاد كتاب المغرب.

مسيرته:

حصل على:

– دبلوم معهد الدراسات العليا المغربية سنة 1960.

– الإجازة في الآداب من كلية الآداب بالرباط سنة 1962.

– دبلوم الدراسات العليا من معهد الدراسات العربية والإسلامية العليا التابع لجامعة ستراسبورغ الفرنسية سنة 1966.

– دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة محمد بن عبدالله بفاس سنة 1989.

– عمل بالتدريس في العديد من المؤسسات.

– شغل منصب رئيس ديوان نائب كاتب الدولة في التعليم التقني وتكوين الأطر.

مؤلفاته:

– “الجيش المغربي عبر التاريخ”، الطبعة الأولى سنة 1968، صدرت الطبعة الخامسة منقحة ومزيد فيها سنة 1997، وصدرت لها ترجمة بالفرنسية سنة 2000، وصدرت له طبعة سادسة خلال سنة 2011.

– “شعر الجهاد في الأدب المغربي”، أطروحة دكتوراه، 1968، طبعتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في جزأين سنة 1996 وصدرت لها طبعة جديدة ومنقحة في جزء واحد خلال سنة 2010 طبع ونشر منشورات الزاوية.

– “دليل المرأة المغربية”، جزأين: 1993-2000.

– “مدخل إلى تاريخ المغرب الحديث من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني”، طبعته وزارة الشؤون الثقافية، 1996.

– “الشاي في الأدب المغربي”، سلسلة شراع، الجزء 57، سنة 199.

– “محمد الخامس دراسات وشهادات”، 1988.

– “الحسنيات” في ثلاثة أجزاء: 1975-1979-1983. جمع القصائد التي أنشدت في مدح ملك المغرب.

– “جلالة الملك الحسن الثاني الإنسان والملك” 1985.

جوائز:

– جائزة المغرب 1968، عن كتابه: “الجيش المغربي عبر التاريخ”.

– جائزة عبد الله كنون للآداب والدراسات الإسلامية، 1997، عن كتابه: “شعر الجهاد في الأدب المغربي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق