مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نيران العرب (الحلقة الأولى)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمامِ المرسلين وقدوة المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن للعرب أحوالا في جاهليتها وبعد مجيء الإسلام قد نُقلت إلينا في كتب الأدب والأخبار ونحوِها، كعادتهم في الحروب، وفي إنشاد الشعر، وفي مواسم الحج، وفي الجوار، وفي إيقاد النيران وغير ذلك من العادات والأحوال، وهي حَقيقةٌ بتتبعها والاطّلا ع عليها، وفي ذلك ما لا يخفى من وجوه العلم بالبيئةِ التي فيها نزل الوحي، والناسِ الذين جُعلوا وِعاءً لرسالة الإسلام. وإنما حسُنت معرفة أحوال هذه الأمّة من الناس وكيف كانوا يعيشون، وما الشيء الذي غلب على طباعهم حتى صار كأنه من مادّة أرضهم وماء سمائهم، لئلّا يُصبح جانبٌ من حياة أُمّة العرب غُفْلًا لا تتداوله ألسنة الناس بالمذاكرة. وقد علمنا أن العرب إنما اختُصَّتْ بنزول الوحي فيها لِمَا اختَصَّتْ هي في نفسها بأمور وأحوال لم تكن الأمم الأخرى تَشْرَكُها فيها، وفي كتب العلماء بيانٌ لذلك بما يأتي على جُملته مُستوفًى بالشواهد والأمثال والأخبار.

ومن ذلك «نِيرَانُ الْعَرَبِ»، وهو الموضوع الذي آثرت الكتابة فيه الآن، فإني لمّا اطلعت على  بعض الكتب التي تكلمت عن نيران العرب وجدت أنها وَقَعَتْ فيها متفرقةً في كثير من المواضع، ولم أرَ مَن استوفى جَمْعَهَا تحت باب واحد ولم يغادر منها شيئا، فما ذكره أحدهم أغفله الآخر، فلذلك تجد عِدَّة النيران التي تكلموا عنها تختلف من كتاب إلى آخر، وأولُ مَن رأيته أفرد لها بابا من كتابه هو الجاحظ في كتاب الحيوان، لكنه لم يقتصر على نيران العرب فقط، بل ذكر بعضَ ما يُضاف إلى العجم من ذلك، وما ذُكر منها في القرآن الكريم أيضا.

ثم إنهم اختلفوا في تسمية بعض النيران، فتجد النار الواحدة تسمى بأكثر من اسم، وهذا قد يؤدي إلى اعتقاد أنهما نَارَانِ، وإنما هي نار واحدة، سماها أحدُهم بِاسْمٍ، والآخرُ باسمٍ غيرِه. وقد تجدهم يفرّقون بين نارين، وهما في الحقيقة نار واحدة ترجع إلى أصل واحد، أو تجدهم يجمعون بين نارَين اثنتين تحت اسم واحد، وهي في الحقيقة نارَان مختلفتان، وإنما ذكروهما في مَعْرِضٍ واحد لِعِلَّةٍ جامعةٍ بينهما.

وكانت العرب تُوقِدُ النارَ في بعض الأحوال لأمور داعيةٍ إلى ذلك، فأُثِرَتْ عنها نيرانٌ سمَّوْها بأعيانها، فذكروا لها أخبارا، ورَوَوْا فيها أشعارا، حتى إن العلماء بعدُ كانوا يُفْرِدُونَ لها أبوابا أو فصولا خاصة من كتبهم، يحاولون استقصاء ما للعرب من النيران وما جرى في ذلك من أخبار وما ذُكر فيه من أشعار، أو ما يُمكن أن يُضاف إلى ذلك من النيران المذكورة للعجم، أو التي ذكرها الله تعالى في كتابه على سبيل العقاب أو لإظهار النعمة بإنزالها.

وأما نظمُ هذه النيران  التي للعرب، فلم أجد في ذلك منظومة جامعة لها، إلا بعض أبيات عند ناصيف اليازجي في مجمع البحرين ذكر فيها بعض النيران ولم يستوفِها جميعا، قال في ذلك(1):

أَوَّلُ نَارٍ عِنْدَهُمْ نَارُ الْقِرَى === وَذِكْرُ نَارِ الْوَسْمِ بَعْدَهَا جَرَى

وَنَارُ الِاسْتِسْقَاءِ وَالتَّحَالُفِ === وَالصَّيْدِ وَالْحَرْبِ لَدَى التَّزَاحُفِ

وَنَارُ غَدْرٍ وَسَلَامَةٍ تُعَدْ === وَنَارُ رَاحِلٍ كَذَا نَارُ الْأَسَدْ

وَالنَّارُ لِلسَّلِيمِ وَالْفِدَاءِ === فَجُمْلَةُ النِّيرَانِ هَؤُلَاءِ

وظاهره أنه لا مزيد عليها بقوله: فجملة النيران هؤلاء، لكن فاته الكثير مما نقلوا، وهو مبثوثٌ في مصنّفاتهم، وهو أكثر من هذا الذي ذكره بكثير، إنما تجده مفرقا فيما نقلوه وتكلّموا عنه.

ولمّا وجدتُ الأمر على ما ذكرتُ، رأيت أن أجمع ذلك في نَظْمٍ يأتي عليها جميعا، مع تقسيمها على وَفق ما قسموها إلى نيران حقيقية ومجازية، ثم إلى ما ضُرب به المثل وصار كالعَلم على الشيء الذي يذكرونه، وقد اعتمدت في ذلك على المصنفات التي وقعت فيها أخبار العرب في الجاهلية وذكرُ أحوالِها، وعُمدتي من ذلك جميعا أربعة كتب في الأكثر، لِما رأيت فيها من جمعِ المادة وإفرادها في باب مستقل، وهي دونك:

1- الحيوان للجاحظ: فقد أفرد لها فصولا في نهاية الجزء الرابع وبداية الجزء الخامس، تحدث فيها عن نيران العرب ونيران العجم، والنيران التي ذكرها الله سبحانه في كتابه، كما تحدث عن ماهية النار ولونها واختلاف المتكلمين فيها وما جرى بينهم في ذلك، وردِّ شيخِه النَّظَّامِ عليهم، وغير ذلك مما ذكره.

2- الأوائل للعسكري: فإنه أفرد لنيران العرب بابا عند ذكره لأول مَن أوقد نار المزدلفة، وهو قُصي بن كلاب(2).

3- ثمار القلوب في المضاف والمنسوب للثعالبي: وقد نقل عن الجاحظ كثيرا  وزاد عليه وعلى العسكري في عِدَّة النيران، لا سيما المجازية منها، فقد سمى نيرانا أُخَرَ كانوا يذكرونها على سبيل المجاز فقط، لا أنهم أوقدوها حقيقة، وهذه قد لا يكون لها حَصر كما يأتي في موضعه إن شاء الله.

4- نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: فقد رأيته صنف هذه النيران إلى ما تقدم من نيران حقيقية ونيران مجازية ونيران يُضرب بها المثل. على أنه فاته بعضُها كما هو شأن سابقيه الذين ذكرناهم.

وقد حاولت فيما أنا فيه أن أجمع المتفرّق، وأضم الشيء إلى ما يُشاكله ويكون من جنسه، وأفرّق بين ما سبيلُه غيرُ ما وُجد عليه، ولذلك آثرتُ ذكر هذا النظم في ذيل هذه المقدمة ليكون المطّلع على ما أكتبه ههنا عالما بما أرمي إليه، مُنَبَّها إلى ما انطوى الكلامُ عليه، فإن سبيل النظم أن يكون إشاراتٍ ورموزًا، فيُبيَّنُ عند كل موضع منه ما أُبهم، ويُحَلُّ منه ما نُظِم، مع ذكر ما ورد في ذلك من خبر أو شعر له اتصال بما يذكرونه، وعُلْقَةٌ بما يورِدونه، ويكون ذلك في سلسلة تُنشر بين يدي القارئ ليطلع عليها، يُذكر منها البيت أو البيتان أو ما شأنُه أن تقوم به الحلقة الواحدة إن شاء الله تعالى.

وهذا نظم نيران العرب:

اَلْحَمْدُ للهِ وَصَلَّى اللهُ === عَلَى نَبِيِّنَا الَّذِي اجْتَبَاهُ1

مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْوَرَى ثُمَّ عَلَى=== أَصْحَابِهِ وَآلِهِ ذَوِي الْعُلَا

وَبَعْدُ، فَالنِّيرَانُ عِنْدَ الْعَرَبِ === مِنْ جُمْلَةِ الْآدَابِ عِنْدَ الطَّلَبِ

لِمَا لَهَا يُرْوَى مِنَ الْأَخْبَارِ === وَمَا بِهَا يُنْشَدُ مِنْ أَشْعَارِ

مِنْهَا الَّتِي قَدْ سُمِّيَتْ نَارَ الْقِرَى === أَعْظَمُهَا عِنْدَهُمُ بِلَا مِرَا

ثُمَّتَ نَارٌ لِلْوَرَى مُؤَلِّفَهْ === وَهْيَ الَّتِي تُوقَدُ بِالْمُزْدَلِفَهْ

وَالْحَرَّتَيْنِ ثُمَّ الِاسْتِمْطَارِ === كَذَاكَ نَارُ الْحَرْبِ لِلْإِنْذَارِ

ثُمَّ الْمُسَافِرِ الَّتِي لِلطَّرْدِ === ثُمَّ التَّحَالُفِ وَنَارُ الصَّيْدِ

وَالْوَسْمِ والسَّلِيمِ وَالْفِدَاءِ === وَالْغَدْرِ وَالْغُولِ وَالِاصْطِلَاءِ

وَنَارُ الِاسْتِكْثَارِ قَبْلَ الْحَرْبِ === نَارُ الْوُشَاةِ ثُمَّ نَارُ الْكَلْبِ

ثُمَّ السَّعَالِي وَالسَّلَامَةِ الَّتِي === لِسَالِمٍ تُشَبُّ عِنْدَ الْعَوْدَةِ

وَالْخُلَعَاءِ وَهُمُ الْهُرَّابُ === وَنَارُهُمْ لَيْسَ لَهَا الْتِهَابُ

وَعِنْدَهُمْ عَلَى الْمَجَازِ أَنْوُرُ === يُرَادُ حَرُّهَا وَلَيْسَتْ تُحْصَرُ

مِنْ ذَاكَ نَارُ الْحَرْبِ وَالشَّبَابِ === وَالشَّرِّ وَالْحَيَاةِ وَالشَّرَابِ

وَالْبَرْقِ وَالشَّوْقِ وَمَا يُقَاسُ === عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ أَتَاهُ الناسُ

وَمَا مِنَ النِّيرَانِ يُضْرَبُ الْمَثَلْ === بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِيمَا قَدْ نُقِلْ

فَالزَّحْفَتَيْنِ وَهْيَ نَارُ الْعَرْفَجِ === وَهْيَ الَّتِي تَذْهَبُ عَنْهَا وَتَجِي

نَارُ الْحُبَاحِبِ كَذَا نَارُ الْغَضَا === وَبَعْدَهَا الْحَلْفَاءُ فَاحْفَظْ مَا مَضَى

هذا، وفيما يأتي من حلقات نشرع في بيان ما أُجمل في هذا النظم إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) مجمع البحرين لناصيف اليازجي: ص 36.

(2) انظر الصفحة: 35.

*******

المراجع والمصادر:

  • مجمع البحرين، لناصيف اليازجي، دار صادر.
  • الأوائل لأبي هلال العسكري، تحقيق محمد السيد الوكيل، الطبعة الأولى 1408هـ – 1987م، دار البشير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق