مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

حكميات عطائية: “أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت لنفسك”

هذه الحكمة كالنتيجة للتي قبلها، فإذا كانت الهمم السابقة مع سبقيتها وقوتها تقع الأشياء عندها لا بها، بطلت فائدة التدبير، إذ ما يدبر العبد لا يكون منه إلا ما وافق تدبير الله بتدبيره، لا ما وافق تدبير العبد…، ومن أسمائه المدبر، والتدبير حقيقة؛ أي النظر في أدبار الأمور وعواقبها، کیف تخرج وتحصل، وما يترتب عليها مستحيل عليه تعالى، لاستلزامه الجهل قبل ذلك النظر والاختيار، والقاعدة أن الله تعالى إذا وُصف بشيء لا يصح وصفه به حُمل على غايته، وغاية التدبير؛ الإحكام والإتقان لما يدبر، فمعنی کونه مدبرا أنه محکم متقن، وأما علمه فسابق قديم لا متجدد وحاصل بالاختيار، وإذا كان تعالی مدبرا محكما لأمورك، متقنا لها، وأنت عبده وهو سيدك، وجب عليك أن تسلم له نفسك، ولا تدبر لها معه، إذ هذا حال العبيد مع ساداتهم، فإنهم لا يدبرون لأنفسهم، بل ساداتهم هم الذين يدبرون لهم، ويتصرفون فيهم، ولأنه العالم وأنت الجاهل، والقادر وأنت العاجز، فتدبيرك معه سوء أدب، وعدم اكتفاء منك بتدبيره[1].

فهذه الحكمة المباركة كما قال الأستاذ أحمد عبادي[2]: “أصلها ثابت في أرض التوكل والأدب” أي: أن تدبيرك معه سوء أدب، وعدم اكتفاء منك بتدبيره. “وفرعها ضارب في سماء الحصافة والتنوير”، والتنوير فيه إشارة إلى كتاب ابن عطاء الله نفسه الذي خصصه لهذا الموضوع بالذات وسماه “التنوير في إسقاط التدبير”[3].

فالتوكل عليه سبحانه يبدأ بعد استفراغ المرء الوسع فيما هو منوط به من واجبات وبعد الأخذ بالأسباب مع استدامة استحضار واضع الأسباب سبحانه.

والأدب متجلاه في عدم إقحام الذات فيما تولى رب الذات تعالى وخالقها القيام به، وهو التدبير المذموم[4]؛ أي: “أن تُدبر في المقسوم أو تتهم في المعلوم… فما قدر فلا بد أن يكون، وما لا… فلا، قال تعالى: ﴿وربك يخلك ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون﴾ [سورة القصص، الآية:68 ]”[5].

أما “الحصافة في هذه الحكمة فمحلها كونها عين التدبير المحمود. والذي يصدق فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: “لا عقل كالتدبير”[6]، إذ إن الإمام رحمه الله يوجه إلى حسن تدبير العبد طاقته وقدراته، وتوجيهها للقيام بما خلق له، وعدم تبديدها فيما ضُمن له.

أما التنوير في هذه الحكمة المباركة، فإشعاعه من كون الإمام رحمه الله تَكَشَّفَ له أن التعبد بالأسباب والتدبير منحصر فيما كُلِّف به الإنسان وطُلب منه لا فيما يتجاوز ذلك[7].

وفيها إشارة إلى أن تدبير العبد الغالب عليه الخطأ والطيش، فوجب لذلك التسليم له والانقياد لأحكامه طوعا،” أحسن من أن تُقاد كرها، لأنه إن انقدت طوعا نفذ حكمه وأنت في راحة ورضى، ولك منه الرضى، وإلا فإنك تساق كرها وينفذ حكمه، وأنت في تعب وسخط، ولك منه السخط إلا أن يتداركك بعفوه، ثم إنك إذا دبرت لنفسك -ما ليس من شأنك- وكّلك إلى تدبيرك فتعجز وتتحير، ويبعد ما حكمت به لنفسك من الخير، ويقرب ما حكمت به لها من الشر، فيسوء ظنك بربك، وتنقلب سماؤك على أرضك، ويترتب على ذلك الوسواس وغلبة الخلط السوداوي، وإذا سلمت له واعتمدت كفالته وركنت إلى وكالته، فرغت قلبك وصرت في راحة[8].

وفي هذا المعنى ورد في “التنوير”: (إني آليت على نفسي أن أجازي أهل التدبير بوجود التكدير، وأن أهدم ما شيدوا وأَحُلَّ ما عقدوا، وأن أكلهم إليهم، وأحيلهم عليهم، ممنوعين من روح الرضى، ونعيم التفويض)[9].

  والحاصل أن الدار دار أسباب، فلابد من تعاطيها، فصاحب الحرفة إن قام لها على الطريق المألوف فيها فذلك هو تدبیرها المحمود، فإذا جعل يعم أوقاته بالتخيير في كيفيات التوصل بها رائيا حوله واحتياله فهو المذموم. ولما أراد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الرجوع بالناس من أجل طاعون عام عمواس وقال له أبو عبيدة: أفِرار من قدر الله؟ قال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم، نفر من قدر الله إلى قدره[10].

فأشار إلى أن المذموم الفرار إلى تدبير النفس واحتيالها، وأما تعاطي السبب مع استحضار أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ففرار من الله إلى الله. اللهم لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك”[11].

وللشيخ براس الكندي الحضرمي أبيات في هذا المعنى حيث قال:

يامن يدبر أمراً وهــو لــيـــــس له       فـــــي خــــيـرة الله تدبير ولا قدر

إن كنت لا بد مختاراً فخيرة من        بــيــده الأمـــــر والتدبيـــر والقدر

فدبِّر أن لا تدبر في الأمـور وكن         كــالميت الفان لا عين ولا أثر[12]

الـــهــوامــش

[1] شرح ابن زكري على الحكم العطائية، ص:90، تحقيق: العلمي طارق.

[2] أحمد عبادي: ميثاق الرابطة المحمدية للعلماء بتاريخ: 4 دجنبر 2009م.

[3] “التنوير في إسقاط التدبير”، لابن عطاء الله السكندري. تحقيق وتعليق: موسى محمد علي الوشي، عبد العال أحمد، مجمع البحوث الإسلامية.

[4] “ميثاق الرابطة المحمدية للعلماء”، أحمد عبادي، بتاريخ: 4 دجنبر 2009م.

[5] “شفاء السقم في معاني الحكم”، للشيخ براس الكندي الشافعي، دار السنابل، بعناية:لجنة إحياء التراث بدار الحاوي، الصفحة: 125.

[6] “سنن ابن ماجة”، أبواب الزهد، باب: الورع والتقوى، ج5/ص: 300. تحقيق: الأرناؤوط، دار الرسالة العالمية، ط1/2009م

[7] “ميثاق الرابطة المحمدية للعلماء”، أحمد عبادي.

[8] شرح ابن زكري على الحكم العطائية، ص:91.

[9] “التنوير في إسقاط التدبير”، لابن عطاء الله السكندري. تحقيق وتعليق: موسى محمد علي الوشي، عبد العال أحمد، مجمع البحوث الإسلامية، ص:457.

[10] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب: ما يذكر في الطاعون، رقم: 5729، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، رقم: 2219.

[11] شرح ابن زكري على الحكم العطائية، ص:96.

[12] شفاء السقم، ص:125.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق