مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

نماذج من عناية القراء بالقرآن الكريم من خلال كتاب غاية النهاية للإمام المحقق ابن الجزري

الحمد لله القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[1]، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أفضل من قرأ القرآن وأقرأه؛ سيدنا محمد القائل: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”[2]، وعلى آله وصحبه السالكين منهجه القويم، وعلى التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد: فعنوان هذا الموضوع “نماذج من عناية القراء بالقرآن الكريم من خلال كتاب غاية النهاية للإمام المحقق ابن الجزري”

وقد رمت من خلاله الوقوف على عناية القراء من المتقدمين بالقرآن الكريم حفظا وأداء وتعلما وتعليما، وكذا مناهجهم في التلقي والأخذ عن الشيوخ؛ كقراءة بعضهم على بعض، وكالقراءة بالإفراد والجمع، ومدة الختم وكيفيته، إلى غير ذلك.

وقد قسمت البحث بعد المقدمة إلى أربعة مباحث:

المبحث الأول: خصصته لمنهج القراء في تعدد ختمات القرآن.

والمبحث الثاني: خصصته لنماذج من عناية القراء بختمات القرآن: وتحته مطلبان:

المطلب الأول: في ذكر نماذج من عناية القراء بختمات القرآن مع خاصة أنفسهم.

والمطلب الثاني: في ذكر نماذج من عناية القراء بختمات القراء من خلال التلقي والعرض على الشيوخ.

والمبحث الثالث: في مدة ختم القراء للقرآن الكريم.

والمبحث الرابع: في منهج القراء في قراءة بعضهم على بعض.

المبحث الأول: منهج القراء في تعدد ختمات القرآن:

نورد هنا كلاما نفيسا للشيخ النووي[3] رحمه الله يبين فيه مدة ختم القرآن الكريم وبعض المهمات المفيدة؛ كتوطئة لما سيستقبل من مباحث، قال رحمه الله: (وكان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة،  وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان ليال، وعن الأكثرين في كل سبع ليال، وعن بعضهم في كل ست، وعن بعضهم في كل خمس، وعن بعضهم في كل أربع، وعن كثيرين في كل ثلاث، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين، ومنهم من كان يختم ثلاثا، وختم بعضهم ثمان ختمات؛ أربعا بالليل وأربعا بالنهار، فمن الذين كانوا يختمون ختمة في الليل واليوم عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي وآخرون، ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سليم بن عمر رضي الله عنه قاضي مصر في خلافة معاوية رضي الله عنه، وروى أبو بكر بن أبي داود أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات، وروى أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليلة أربع ختمات.

 قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي رضي الله عنه: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي يقول: كان ابن الكاتب رضي الله عنه يختم بالنهار أربع ختمات، وبالليل أربع ختمات، وهذا أكثر ما بلغنا من اليوم والليلة، وروى السيد الجليل أحمد الدورقي بإسناده عن منصور بن زادان عن عباد التابعين رضي الله عنه أنه كان يختم القرآن فيما بين الظهر والعصر، ويختمه أيضا فيما بين المغرب والعشاء في رمضان إلى أن يمضي ربع الليل، وروى أبو داود بإسناده الصحيح أن مجاهدا كان يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء.

 وعن منصور قال: كان علي الأزدي يختم فيما بين المغرب والعشاء كل ليلة من رمضان، وعن إبراهيم بن سعد قال: كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يختم القرآن.

 وأما الذي يختم في ركعة فلا يحصون لكثرتهم؛ فمن المتقدمين: عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير رضي الله عنهم ختمة في كل ركعة في الكعبة.

وأما الذين ختموا في الأسبوع مرة فكثيرون؛ نقل عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب رضي الله عنهم، وعن جماعة من التابعين؛ كعبد الرحمن بن يزيد وعلقمة وإبراهيم رحمهم الله، والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يظهر له بدقيق الفكر لطائف ومعارف، فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرؤه، وكذا من كان مشغولا بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر لا يحصل بسببه إخلال بما هو مرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليستكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرمة، وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة ويدل عليه الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث”، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي حديث حسن صحيح).

المبحث الثاني: نماذج من عناية القراء بختمات القرآن الكريم:

إن مما دأب عليه القراء في الصدر الأول إلى زماننا كثرة العناية بختمات القرآن، فما إن يفتتح أحدهم سورة الفاتحة حتى تجده ختم سورة الناس، وهذا ما ورد تسميته في الحديث بالحال المرتحل[4]، وإن من الجميل أن نفتتح هذا المبحث بأبيات للشاطبي رحمه الله في باب التكبير تبين أهمية ما ذكرنا؛ قال رحمه الله:

1121 – رِوَى الْقَلْبِ ذِكْرُ اللهِ فَاسْتَسْقِ مُقْبِلاَ … وَلاَ تَعْدُ رَوْضَ الذَّاكِرِينَ فَتُمحِلَا

1122 – وَآثِرْ عَنِ الآثَارِ مَثْرَاةَ عَذْبِهِ … وَمَا مِثْلُهُ لِلْعَبدِ حِصْناً وَمَوْئِلَا

1123 – وَلاَ عَمَلٌ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِهِ … غَدَاةَ الْجَزَا مِنْ ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلَا

1124 – ومَنْ شَغَلَ الْقُرْآنُ عَنْهُ لِسَانَهُ … يَنَلْ خَيْرَ أَجْرِ الذَّاكِرِينَ مُكَمَّلَا

1125 – وَمَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِلاَّ افْتِتَاحُهُ … مَعَ الْخَتْمِ حِلاًّ وَارْتِحاَلاً مُوَصَّلَا[5]

المطلب الأول: نماذج من عناية القراء بختمات القرآن مع خاصة أنفسهم:

هذه بعض النماذج التي جمعتها من كتاب غاية النهاية للحافظ ابن الجزري رحمه الله:

-في ترجمة أبي بكر بن عياش[6]، أنه لما حضرته الوفاة بكت أخته فقال لها: ما يبكيك؟، انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختمت فيها ثمان عشرة ألف ختمة، توفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة وقيل: سنة أربع وتسعين[7].

-وفي ترجمة عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود الأودي الكوفي الإمام العلم الحجة، أنه لما حضرته الوفاة بكت ابنته فقال: لا تبكين، فقال: ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة، وتوفي آخر سنة اثنتين وتسعين ومائة، وقيل: أول سنة أربع وتسعين[8].

-وفي ترجمة أحمد بن عبد العزيز بن نفيس، المغربي الإمام الزاهد، أنه قرأ عليه أحمد بن عمر الباجي، وروى عنه أنه قرأ عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ألف ختمة[9].

-وفي ترجمة علي بن أبي الأزهر، اللاحمي البغدادي المقرئ، ذكره الحافظ أبو عبد الله فقال: كان لا يلحقه أحد في سرعة القراءة، ولقد قرأ في يوم واحد بمحضر جماعة من القراء، أخذت خطوطهم بتلاوته أربع ختمات إلا سبع، وهذا أمر عجيب، توفي في رمضان سنة سبع وسبعمائة[10].

المطلب الثاني: نماذج من عناية القراء بختمات القرآن الكريم من خلال التلقي والعرض على الشيوخ:

هذه بعض النماذج التي تنبي عن كبير عناية القراء في الإكثار من الختمات على أشياخهم، سواء بطريقة الجمع[11] أو الإفراد:

-قال الخزاعي: قرأت على ابن فليح سبعًا وعشرين ختمة، وقرأت على البزي ثلاثين ختمة[12].

-وقال أبو بكر بن سيف: سمعت الأزرق يقول: قرأت عليه –يعني ورشا- عشرين ختمة من حدر وتحقيق، فأما التحقيق[13] فكنت أقرأ عليه في الدار التي كنا نسكنها في مسجد عبد الله، وأما الحدر[14] فكنت أقرأ عليه إذا رابطت معه بالإسكندرية، توفي في حدود الأربعين ومائتين[15].

-وقال الأصبهاني[16]: دخلت إلى مصر ومعي ثمانون ألفا فأنفقتها على ثمانين ختمة[17].

-وفي ترجمة مجاهد بن جبر المكي، أحد الأعلام من التابعين والأئمة المفسرين، أنه قرأ على عبد الله بن السائب وعبد الله بن عباس بضعًا وعشرين ختمة، ويقال: ثلاثين عرضة، ومن جملتها ثلاث سأله عن كل آية فيم كانت، وعن مجاهد قال: ختمت على ابن عباس تسع عشرة ختمة، كلها يأمرني أن أكبر فيها من: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ}[18].[19].

-وفي ترجمة أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد التميمي الحافظ الأستاذ، البغدادي، شيخ الصنعة وأول من سبع السبعة، أنه قرأ على عبد الرحمن بن عبدوس عشرين ختمة[20].

-وفي ترجمة عبيد الله بن أحمد البغدادي، أنه أخذ القراءة عرضًا عن ابن مجاهد نحو الخمس عشرة ختمة[21].

-وفي ترجمة علي بن محمد بن الحسين بن نازك، ويقال: ابن نيزك الطوسي المقرئ المتصدر، أنه روى القراءة عنه محمد بن عبد الله بن أبي عمرو بن مرة النقاش، وقال: قرأت عليه نحوًا من مائة ختمة أو أكثر أو أقل بعد موت إسحاق الوراق، سنة ست وثمانين ومائتين[22].

-وفي ترجمة، إبراهيم بن حماد، وكنيته: أبو إسحاق، وقال أبو جعفر: سجادة، ويقال غلام سجادة، توفي بعد الستين ومائتين، قرأ عليه موسى بن إبراهيم الزينبي أربعين ختمة[23].

-وفي ترجمة سليمان بن داود بن حماد بن سعد الرشديني المهري المصري، أنه عرض عليه أبو بكر محمد بن عبد الرحيم الأصبهاني إحدى وثلاثين ختمة، مات في أول ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين ومائتين[24].

-وفي ترجمة الأستاذ أبي الحسن الحصري القيرواني أنه[25] قرأ القراءات السبع على شيخه أبي بكر القصري تسعين ختمة، كلما ختم ختمة قرأ غيرها حتى أكمل ذلك في مدة عشر سنين حسبما أشار إليه بقوله في قصيدته[26]:

وأذكر أشياخي الذين قرأتها

  عليهم فأبدأ بالإمام أبي بكر
قرأت عليه السبع تسعين ختمة

  بدأت ابن عشر ثم أكملت في عشر

-وفي ترجمة حمدان بن عون بن حكيم بن سعيد الخولاني المصري، أحد الحذاق أنه قال: قرأت على ابن هلال ثلاثمائة ختمة، توفي حول سنة أربعين وثلاثمائة[27].

-وفي ترجمة كمال الدين أبي الحسن بن أبي الفوارس الهاشمي العباسي الضرير المصري الشافعي صهر الشاطبي الإمام الكبير النقال الكامل شيخ الإقراء بالديار المصرية، أنه قرأ القراءات السبع سوى رواية أبي الحارث في تسع عشرة ختمة على الشاطبي، ثم قرأ عليه بالجمع للسبعة ورواتهم الأربعة عشر حتى إذا انتهى إلى سورتي الأحقاف توفي الشاطبي -رحمه الله- وسمع التيسير منه، وقرأ عليه الشاطبية دروسًا وسمعها عليه[28].

– وفي ترجمة محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرزاق، أبي منصور البغدادي، الزاهد المعروف بالخياط، مؤلف كتاب المهذب في القراءات، أستاذ كبير ثقة شهير، قال ابن النجار: بلغ عدد من أقرأهم أبو منصور القرآن سبعين ألفا قال: هكذا رأيته بخط أبي نصر اليونارتي الحافظ، قال الذهبي: هذا من المستحيل، فلعله أراد أن يكتب سبعين نفسا، فكتب سبعين ألفا.

 وتعقبه ابن الجزري بقوله: لا يزال الذهبي يستبعد الممكنات، ويرد على الثقات، وهذا الرجل أعني أبا منصور كان منتصبا للتلقين منقطعا إليه وعمر طويلا، ولا يخفى كيف كانت بغداد وما كان بها من العالم، فهذه دمشق أخبرني الشيخ الصالح إبراهيم الصوفي الملقن بالجامع الأموي أن الذين قرءوا عليه القرآن نيف عن عشرين ألفا، توفي يوم الأربعاء سادس عشر المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة وله تسع وتسعون سنة[29].

-وفي ترجمة عبد الحق بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الغرناطي، أن أبا حيان قال: قرأت عليه السبع في نحو من عشرين ختمة إفرادًا وجمعًا، وعليه تعلمت الهجاء ولازمته نحوًا من سبعة أعوام، وذلك في مدة آخرها سنة تسع وستين وستمائة[30].

-وفي ترجمة  إلياس بن علوان بن ممدود ركن الدين الأربلي، الملقن إمام مقرئ مصدر حاذق ناقل، أنه ختم عليه أكثر من ألف نفس، مات في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة[31].

وفي ترجمة محمد بن الحسن أبي عبد الله الأربلي الضرير، نزيل القاهرة، محقق مجود عارف، أنه قرأ السبع على الشيخ نصر بن سليمان المنبجي في إحدى وعشرين ختمة إفرادا وجمعا، مات في نصف رمضان سنة سبعمائة[32].

-وفي ترجمة أحمد بن محمد بن أحمد القوصي الإسكندري مقرئ، حاذق متصدر، أنه قرأ بمضمن الإعلان على يحيى بن الصواف صاحب الصفراوي، وقرأ به عليه الشيخ عبد الوهاب بن محمد بن عبد الرحمن القروي أربعين ختمة في مدة آخرها سنة ست عشرة وسبعمائة ووصفه لي بالحذق والمعرفة[33].

-وفي ترجمة عبد الوهاب بن محمد بن عبد الرحمن بن يحيى بن أسد، القروي الإسكندري مقرئ صالح مسند ثقة، أنه قرأ على محمد بن محمد بن أحمد القوصي أربعين ختمة بمضمن الإعلان للصفراوي، مات في شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بالإسكندرية[34].

-وفي ترجمة حبشي بن داود البغدادي العابد، أنه قرأ عليه جعفر بن أحمد الخصاف، وذكر أنه عرض عليه ثلاثمائة ختمة كلها بحرف الكسائي[35].

المبحث الثالث: مدة ختم القراء للقرآن الكريم:

هذه بعض النماذج من كتاب غاية النهاية لابن الجزري، وقد سبق بيانه في كلام الإمام النووي رحمه الله:

-ففي ترجمة شقيق بن سلمة الكوفي الأسدي إمام كبير، أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وقد ذكره ابن الأثير وغيره في الصحابة، أنه حفظ القرآن في شهرين، عرض على عبد الله بن مسعود، روى عنه الأعمش ومنصور، توفي زمن الحجاج بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدي: توفي أيام عمر بن عبد العزيز والأول هو المحفوظ[36].

-وفي ترجمة طاهر بن عرب بن إبراهيم بن أحمد الإمام الفاضل العالم المحقق المدقق المجود المرتل المقرئ الكامل المجيد المفيد أستاذ القراء وصفوة العلماء نخبة المحققين عمدة المقرئين أنه حفظ القرآن؛ وهو ابن عشر سنين تقريبا وطلب العلم، وهو ابن خمس عشرة[37].

-وفي ترجمة عبد الرحمن بن عبد الحكيم بن عمران الأنصاري المالكي الملقب بسحنون، مقرئ فقيه إمام عارف بمذهبه، مولده تقريبًا سنة ست عشرة وستمائة، قال أبو عبد الله الحافظ: سألت شيخنا المزي عنه فقال: شيخ جليل فاضل صاحب سنة لقيته بالإسكندرية انتهى، قرأ على أبي القاسم الصفراوي، قرأ عليه عرضًا القرآن لورش وحفص في أحد عشر يومًا أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي وقال: أدركته وهو ينقطع قد أضر، وانتقل إلى رحمة الله في رابع شوال سنة خمس وتسعين وستمائة[38].

-وفي ترجمة عبد الله بن عبد المؤمن بن الوجيه هبة الله نجم الدين الواسطي الأستاذ العارف المحقق الثقة المشهور كان شيخ العراق في زمانه، أنه لما قدم دمشق وبادر إلى إدراك التقي الصائغ بمصر قرأ عليه ختمة بمضمن عدة كتب في سبعة عشر يومًا[39].

– وفي ترجمة عبد الله بن منصور بن علي بن منصور اللخمي الإسكندري المالكي الشاذلي المعروف بالمكين الأسمر، أستاذ محقق، أنه قرأ القراءات الكثيرة على أبي القاسم الصفراوي وإبراهيم بن وثيق وتقدم حكاية قراءته على ابن وثيق، وأنه قرأ السبع عليه جمعًا ختمة في ليلة، وهذا مما لم يسمع به لغيره، مات في غرة القعدة سنة اثنتين وتسعين وستمائة بالإسكندرية[40].

-وفي ترجمة عبد الله بن عبد المؤمن بن الوجيه هبة الله نجم الدين الواسطي، الأستاذ العارف المحقق الثقة، أنه بادر إلى إدراك التقي الصائغ بمصر فقرأ عليه ختمة بمضمن عدة كتب في سبعة عشر يومًا[41].

ومما يجدر التنبيه عليه أن جماعة من القراء كانت لهم ختمتان:

  • ختمات للتدبر والفهم والتفسير: وقد ذكرت قبل قراءة مجاهد، ومن مُثُله أيضا ما ذكره ابن الجزري رحمه الله في ترجمة الطيب بن إسماعيل بن أبي تراب أنه قرأ على حسين القرآن كل يوم آية، قال: وختمت عليه في خمس عشرة سنة، قال ابن الجزري: مات في حدود سنة أربعين ومائتين فيما أظن والله أعلم[42].

ومثل هذه الختمات التدبرية يطول زمنها.

  • وختمات لتكثير الحسنات: وهو ما ذكرنا قبل أمثلته باستفاضة، وفقنا الله لأن نكون من أهل الختمتين معا.

المبحث الرابع: منهج القراء في قراءة بعضهم على بعض:

إن مما يلمسه القارئ؛ وهو يقرأ  في سير القرأة أن بعضهم يقرأ على بعض، ولا يجدون في ذلك حرجا، ولا حظ نفس، وتتبع مثل ذلك كثير جدا، لكن يمكن أن نقتصر على القراء العشرة:

  • فنافع المدني قرأ على سبعين من التابعين، ومنهم: القارئ الثامن أبو جعفر المدني[43].
  • وابن كثير المكي قرأ على أبي عمرو بن العلاء البصري[44].
  • وأبو عمرو البصري قرأ على عاصم بن أبي النجود وعبد الله بن كثير[45].
  • وعبد الله بن عامر الشامي لم يثبت أنه قرأ على أحد من القراء العشرة، وكذلك عاصم بن أبي بهدلة الكوفي، وأبو جعفر المدني.
  • وقرأ علي الكسائي على حمزة بن حبيب الزيات[46].
  • وقرأ يعقوب الحضرمي على أبي عمرو البصري فيما رواه ابن المنادى[47].
  • وأما خلف العاشر؛ فقد ذكر أبو علي الأهوازي في مفردة الكسائي عن الفضل بن شاذان عن خلف أنه قرأ على الكسائي، والمشهور عند أهل النقل لهذا الشأن أنه لم يقرأ عليه، وإنما سأله عنها، وسمعه يقرأ القرآن إلى خاتمته، وضبط ذلك عنه بقراءته عليهم[48].

الخاتمة:

 خلصت في هذا البحث إلى ما يلي:

-أن القراء تعددت هممهم في حفظ القرآن والأخذ والتلقي عن الشيوخ، حتى صار القرآن الكريم لا يفارق حياتهم.

-أن من القراء من يختم القرآن في اليوم أكثر من مرة؛ كما تبينا من نماذجه المختلفة.

-أن للقراء ختمتان: ختمة تدبرية يطول زمنها، وختمة لأجل تكثير الحسنات؛ أكثرها شهران.

-أن من القراء من ختم حفظ القرآن الكريم في شهرين، وفي أقل من ذلك.

-أن القراء في ختم القرآن منهم المقل والمكثر، ومثال المكثر من ختم ثلاثمائة ختمة على شيخه، وكذا من ختم تسعين ختمة بالسبع، أما في خاصة نفسه؛ فمنهم من ختم القرآن آلاف الختمات.

-أن من القراء من ختم على شيخه في يوم واحد.

-أن من القراء من ختم عليه عدد كبير من القراء يحصون بالآلاف.

-أن القراء يقرأ بعضهم على بعض القرآن، ولا يستنكفون في ذلك، وقد وقفنا على أمثلة للقراء العشرة، ومن ذلك قراءة نافع على أبي جعفر المدني، والكسائي على حمزة.

  وفي الختام أسأل الله تعالى أن يهدينا، ويستعملنا في خدمة القرآن الكريم، ويجعله حجة لنا لا علينا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين.

لائحة المصادر والمراجع:

-القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.

  • التبيان في آداب حملة القرآن، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676هـ)، حققه وعلق عليه: محمد الحجار، الطبعة: الثالثة مزيدة ومنقحة، 1414 هـ – 1994 م، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان –.
  • الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ.
  • حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع، القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي (المتوفى: 590هـ)، المحقق: محمد تميم الزعبي، مكتبة دار الهدى ودار الغوثاني للدراسات القرآنية، الطبعة: الرابعة، 1426 هـ – 2005 م.
  • سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ) تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2) ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5)، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر، الطبعة: الثانية، 1395 هـ – 1975 م.
  • غاية النهاية في طبقات القراء، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: 833هـ)، الناشر: مكتبة ابن تيمية، الطبعة: عني بنشره لأول مرة عام 1351هـ ج. برجستراسر.
  • القصيدة الحصرية للحصري، تحقيق وتقديم: د. توفيق العبقري، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، الطبعة الأولى: 2002م.
  • معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى 1417 هـ- 1997م.
  • النشر في القراءات العشر، شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى : 833 هـ)، المحقق : علي محمد الضباع (المتوفى 1380 هـ)، المطبعة التجارية الكبرى.

الهوامش:

[1] الحجر 9.

[2] أخرجه البخاري في الجامع المسند الصحيح برقم 5027  (6/ 192)، وغيره.

[3] ينظر التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 59-62).

[4] ينظر سنن الترمذي (5/ 197) رقم 2948.

[5] حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع (ص: 90).

[6] وهو شعبة؛ أحد رواة الإمام عاصم الكوفي.

[7] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 327).

[8] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 410).

[9] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 69).

[10] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 526).

[11] يعني قراءة أكثر من رواية في ختمة، كجمع السبع، أو القراءة لأصحاب سما؛ وهم: نافع وابن كثير وأبو عمرو، وتختلف صور جمع القرآن؛ فهناك الجمع بالحرف والجمع بالوقف.

[12] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 156).

[13] مصدر من حققت الشيء تحقيقا إذا بلغت يقينه، ومعناه: المبالغة في الإتيان بالشيء على حقه من غير زيادة فيه ولا نقصان منه، فهو بلوغ حقيقة الشيء والوقوف على كنهه والوصول إلى نهاية شأنه، وهو عندهم عبارة عن إعطاء كل حرف حقه من إشباع المد، وتحقيق الهمزة، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف، وهو بيانها وإخراج بعضها من بعض بالسكت والترسل واليسر والتؤدة وملاحظة الجائز من الوقوف، ولا يكون غالبا معه قصر ولا اختلاس ولا إسكان محرك ولا إدغامه، فالتحقيق يكون لرياضة الألسن وتقويم الألفاظ وإقامة القراءة بغاية الترتيل، وهو الذي يستحسن ويستحب الأخذ به على المتعلمين من غير أن يتجاوز فيه إلى حد الإفراط من تحريك السواكن، وتوليد الحروف من الحركات وتكرير الراءات وتطنين النونات بالمبالغة في الغنات. النشر في القراءات العشر (1/ 205).

[14] مصدر من حدر – بالفتح يحدر بالضم – إذا أسرع، فهو من الحدور الذي هو الهبوط؛ لأن الإسراع من لازمه، بخلاف الصعود، فهو عندهم عبارة عن إدراج القراءة وسرعتها وتخفيفها بالقصر والتسكين والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمز، ونحو ذلك مما صحت به الرواية، ووردت به القراءة مع إيثار الوصل، وإقامة الإعراب ومراعاة تقويم اللفظ، وتمكن الحروف، وهو عندهم ضد التحقيق، فالحدر يكون لتكثير الحسنات في القراءة، وحوز فضيلة التلاوة، وليحترز فيه عن بتر حروف المد، وذهاب صوت الغنة، واختلاس أكثر الحركات، وعن التفريط إلى غاية لا تصح بها القراءة، ولا توصف بها التلاوة، ولا يخرج عن حد الترتيل. النشر في القراءات العشر (1/ 207).

[15] غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 402).

[16] وهو أحد طرق رواية ورش عن نافع، إلا أنه قرأ عليه بواسطة.

[17] غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 170).

[18] الشرح 1.

[19] غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 41-42).

[20] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 139).

[21] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 486).

[22] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 567-568).

[23] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 12-13).

[24] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 313).

[25] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 551).

[26] القصيدة الحصرية للحصري ص: 93، تحقيق وتقديم: د. توفيق العبقري، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، الطبعة الأولى: 2002م.

[27] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 260).

[28] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 545).

[29] غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 74-75).

[30] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 359).

[31] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 171).

[32] غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 127).

[33] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 105).

[34] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 482).

[35] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 202).

[36] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 328).

[37] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 339).

[38] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 371).

[39] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 429).

[40] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 460).

[41] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 429).

[42] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 344).

[43] ينظر غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 330).

[44] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 444).

[45] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 289).

[46] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 535).

[47] غاية النهاية في طبقات القراء (2/ 386).

[48] غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 273).

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق