مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

من فقه حديث: “من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه”

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

    بنيت الشريعة الإسلامية على اليسر ورفع الحرج، وهي مزية خصها الله بها عن باقي الديانات، لذلك ظل هذا الدين باقياً إلى يومنا هذا، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ومن يتأمل أحكامها يجدها أحكاما شرعت كلها على وجه روعيت فيه حاجة المكلف، وقدرته على امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي؛ ومن تلكم الأحكام “الصيام”؛  الذي فرضه الله عز وجل ويسَّره على عباده؛ لكن لم يكلفهم بما لا طاقة لهم به؛ قال الله عز وجل في فرضه شهر رمضان وتيسيره في ذلك: ﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾([1])، ومن مظاهر التيسير فيه: إتمام الصوم وصحته لمن أكل أو شرب ناسيًا مصداقا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نسي وهو صائم ، فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» ولأهمية هذا الحديث خصصته بهذا المقال الذي سأتناول فيه: تخريج الحديث، ثم بيان معانيه وما يستفاد منه من فقه فأقول وبالله التوفيق:

أولا: تخريج الحديث:

أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصوم، باب: الصائم إذا أكل وشرب ناسيا من طريق هشام الدستوائي، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:  “إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه”. ([2])، وفي موضع آخر في كتاب الأيمان والنذور، باب: إذا حنث ناسيا في الأيمان، من طريق عوف الأعرابي، عن خلاس بن عمرو ومحمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه([3])، ومسلم في صحيحه في كتاب: الصيام، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر ، من طريق هشام القردوسي، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه بهذا اللفظ المذكور ([4]).

 ثانيا: من فقه وفوائد هذا الحديث:

اتفق الجمهور من الفقهاء على أن الأكل والشرب ناسيا  في صيام التطوع مع إتمامه له، يعد صومه صحيحا ولا قضاء عليه ؛ قال ابن عبد البر  -رحمه الله ـ: “والفقهاء كلهم من أهل الرأي والأثر يقولون: إن المتطوع إذا أفطر ناسيا أو غلبه شيء فلا قضاءَ عليه” ([5]).

لكن اختلفوا فيمَنْ أَفطرَ في صيام الفرض ناسيًا  هل يوجب الفساد أم لا؟ وهل يجب عليه القضاء والكفارة أم لا؟

فذهب الجمهور إلى إتمام صومه ولا قضاء عليه ، قال الخطابي (388هـ): “لا قضاء على المفطر ناسيا؛ وذلك أن النسيان من باب الضرورة ، والضرورات من فعل الله سبحانه ليست من فعل العباد، ولذلك أضاف الفعل في ذلك إلى الله سبحانه وتعالى”([6]).

وقال ابن القيم الجوزية: ” وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إسقاط القضاء عمن أكل وشرب ناسيا، وأن الله سبحانه هو الذي أطعمه وسقاه، فليس هذا الأكل والشرب يضاف إليه، فيفطر به، فإنما يفطر بما فعله، وهذا بمنزلة أكله في نومه؛ إذ لا تكليف بفعل النائم، ولا بفعل الناسي” ([7]).

عكس مالك وربيعة بن عبد الرحمن وغيرهم من أصحاب مالك اللذين ذهبوا  إلى فساد صومه مع وجوب القضاء ولا كفارة؛ بمعنى: يجب عليه الإمساك بقية يومه ،وصيامه باطل وعليه القضاء قال ابن العربي(ت543هـ): ” الفطر ضد الصوم؛ وإذا وُجِدَ ضد العبادة أبطلها؛ كان سهوا أو عمدا، كالحدث في الصلاة” ([8]).

وقال أيضا: “جميع فقهاء الأمصار قالوا: من أفطر ناسيا لا قضاء عليه تعلقا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: “الله أطعمك وسقاك”، وتطلع مالك إلى المسألة من طريقها فأشرف عليها، فرأى في مطلعها أن عليه القضاء؛ لأن الصوم عبارة عن الإمساك عن الأكل فلا يوجد مع الأكل؛ لأنه ضده، وإذا لم يبق ركنه وحقيقته ولم يوجد لم يكن ممتثلا ولا قاضيا ما عليه، ألا ترى أن مناقض شرط الصلاة -وهو الوضوء- الحدثُ إذا وجد سهوا أو عمدا أبطل الطهارة؛ لأن الأضداد لا جماع لها مع أضدادها شرعا ولا حسا”([9]).

وقال كذلك: “وحمله علماؤنا على أن المراد به نفي الإثم عنه، فأما القضاء فلا بد منه؛ لأن صورة الصوم قد عُدِمَت، وحقيقته بالأكل قد ذهبتْ، والشيء لا بقاء له مع ذهابِ حقيقته، كالحدث يبطل الطهارة؛ سهوا جاء أو عمدا؛ وهذا الأصل العظيم لا يرده ظاهر محتمل التأويل”([10]).

وقال عياض (544هـ) : “هذا هو المشهور عنه، وهو قول شيخه ربيعة وجميع أصحاب مالك” ([11])

 وقال النووي (676هـ) في شرحه لمسلم ملخصا اختلاف العلماء في هذه المسألة: “هذا الحديث فيه دلالة لمذهب الأكثرين أن الصائم إذا أكل أو شرب، أو جامع ناسيا لا يفطر ؛ وممن قال بهذا: الشافعي، وأبو حنيفة، وداود، وآخرون، وقال ربيعة ومالك: يفسد صومه وعليه القضاء دون الكفارة، وقال عطاء والأوزاعي والليث: يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد : يجب في الجماع القضاء والكفارة ولا شيء في الأكل “([12]).

وعلى أية حال فالأمر فيه سعة؛ لأن هذه المسألة تدور بين التيسير والاحتياط؛ فمن قصد التيسير قال: لا قضاء وصومه صحيح، ومن قصد الاحتياط للدين قال: لا إثم، وعليه القضاء.

الخاتمة:

وفي الختام خلصت إلى الآتي:

1-أن أحكام الشريعة الإسلامية أحكام شرعت كلها على وجه روعيت فيه حاجة المكلف، وقدرته على امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ومنها عبادة الصيام.

2-اتفق الجمهور من الفقهاء على أن الأكل والشرب ناسيا  في صيام التطوع مع إتمامه له، يعد صومه صحيحا ولا قضاء عليه.

3-اختلف الفقهاء في صحة صوم من أكل أو شرب ناسيا في صيام الفرض على مذهبين:

المذهب الأول: قول الجمهور الذين ذهبوا إلى صحة صومه، ولا قضاء عليه، ولا كفارة .

المذهب الثاني: قول مالك وشيخه ربيعة وأصحابه الذين ذهبوا إلى فساد صومه ولا كفارة؛ لكن يجب عليه القضاء .

4-اختلاف الفقهاء في هذه المسألة يدور بين التيسير والاحتياط؛ فمن قصد التيسير قال: لا قضاء وصومه صحيح، ومن قصد الاحتياط للدين قال: لا إثم، وعليه القضاء، والأمر فيه سعة.

والحمد لله رب العالمين.

****************

هوامش المقال:

([1]) سورة البقرة الآية: (185).

([2]) صحيح البخاري (2 /39)، برقم: (1933).

([3]) صحيح البخاري (4 /223)، برقم: (6669).

([4]) صحيح مسلم (1 /512)، برقم: (1155).

([5])  التمهيد (12/ 72).

([6]) معالم السنن (2 /120).

([7])) زاد المعاد (2 /56)

([8]) أحكام القرآن (1/ 302).

([9]) عارضة الأحوذي (3/ 196).

([10]) المسالك شرح الموطأ (4/ 211).

([11]) فتح الباري (4 /136).

([12]) شرح النووي على صحيح مسلم (4/ 291).

***************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

أحكام القرآن. لأبي بكر محمد بن عبد الله المعافري. تحقيق: عبد القادر عطا.  دار الكتب العلمية بيروت لبنان (د.ت).

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي.  تحقيق: سعيد أحمد أعراب. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. ط2/  1403هـ- 1983مـ

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400.

زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم الجوزية. تحقيق: شعيب الأرنؤوط- عبد القادر الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة بيروت. ط3/ 1418هـ- 1998مـ.

صحيح مسلم بشر النووي. حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي – حازم محمد – عماد عامر. دار الحديث القاهرة. ط1/ 1415هـ – 1994مـ

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي. دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006 مـ.

عارضة الأحوذي بشرح الترمذي. لأبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي المالكي.  وضع حواشيه: الشيخ جمال مرعشلي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. (د.ت).

فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد ابن حجر العسقلاني. طبعة جديدة منقحة ومصححه عن الطبعة التي حقق أصلها ورقم كتبها وأبوابها وأحاديثها: عبد العزيز بن عبد الله بن باز- محمد فؤاد عبد الباقي. دار الكتب العلمية بيروت. (د.ت).

المسالك في شرح موطأ الإمام مالك. لأبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي المعافري.  تحقيق: حامد عبد الله المحلاوي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان (د.ت).

معالم السنن. لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي وهو شرح سنن الإمام أبي داود.  طبعه وصححه: محمد راغب الطباخ. المطبعة العلمية بحلب ط1/ 1352هـ – 1933مـ.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق