مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب توجيه قوله تعالى :”وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ” [هود: 10]، و قوله سبحانه: “وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ [فصلت:50]

بسم الله الرحمن الرحيم  

          تكاليف الشرع أوزاع، ومكابدة تفاريع العبودية أشكال و أنواع،  فمنها ما يرجع إلى المعتقد، ومنها يشغل عمل الجوارح، ومنها ما يعود إلى مخالفة الأهواء، و منها ما يتجه إلى مناهضة العوائد وموروث الآباء، و منها ما ينصب على تعبيد النفس وتطويعها حتى توافق مراد خالقها، و إن من أدق هذه التكاليف مجاهدة النفس حتى تتيقن أن ما نالها من خير هو مقدر مقسوم، وما أصابها من سوء هو مكتوب مسطور، وذلك قبل أن تخرج من العدم، فلا يجمل بها أن  تفرح الفرح البطر بما نالت، ولا أن تجزع الجزع المقيت لما انفلت منها أو قد فات،  و تحرك المشاعر والأحاسيس لذلك أمر جبلي في النفوس، وإنما المنهي عنه تجاوز الحدود، وهذا مطلب يفوت المكلفين إلا زمرة قليلة ممن وقف بالباب، وقلب الأمور وفق القانون المرضي لرب الأرباب.

               ذلك أن من الغرائز الجبلية في العبد إظهار الاشمئزاز والضجر عند البلاء، و الاستبشار والفرح للنعماء، مع منع رفدها، ونسبتها إلى النفس، قال تعالى :  “إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا  إِذَا مَسَّهُ الشَّـرُّ جَزُوعًا  وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا” [المعارج:19-21]، “والهلع جزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع”[1] و هو لفظ مجمل تولى السياق بعد بيانه، قال ابن جزي: ” الإنسان هنا اسم جنس بدليل الاستثناء منه، سئل أحمد بن يحيى مؤلف الفصيح عن الهلوع فقال: قد فسـره الله فلا تفسير أبين من تفسيره وهو قوله: “إِذا مَسَّهُ الشَّـرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، وذكره الله على وجه الذم لهذه الخلائق.”[2]

فالمرء بفطرته محب للنعماء، لكن باعتيادها ينسى فضل الله عليه، فتسول له نفسه أنها لن تعدو ركابه، وأنه قد أوتي من الحنكة والتخطيط ما أورثه مسالك إحرازها، وأن لا فضل لأحد عليه، كما قال رائد هذه الفئة من قبل، فيما حكاه عنه كلام الله في قوله تعالى:  “إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي” [القصص:76-78]، وإن قدر عليه رزقه، أو استحال ثراؤه فاقة، ضجر وسخط، وملأت شكاته الأركان، وتملكه اليأس واعتراه القنوط، وأوغل به الفكر في عدم الرضى بالمقسوم، والعود باللائمة على ظاهر الأسباب، وتناسى مسبب الأسباب، ولا نطيل بهذا فهو مبسوط في تضاعيف الأصلين، مما يجعله من معلوم الدين، وآكد ما ينبغي تعاهده في بناء الشخصية الإيمانية، وإنما أدلفت بهذه التقدمة بين يدي هذا الموضوع لإماطة اللثام عن وجه المغايرة بين آيتين في الكتاب، سيقتا لهذا الغرض، تغاير سبك أسلوبهما لتقرير نفس المعنى مما جعلهما من المتشابه اللفظي في الكتاب، الموضع الأول:  قوله تعالى في سورة هود: “وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ” [الاية: 10]، و الثانية في سورة  حم السجدة: “وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً” [فصلت:50] حيث وردت آية فصلت بزيادة بيان يكشف عن مصدر الإنعام تصـريحا، وذلك قوله تعالى:”مِنَّا” وكذا زيادة “مِن” قبل “بعدَ ضَرَّاءَ”، وعرت آية هود عن الزيادتين، ومعلوم باستقراء العربية أن زيادة المبنى تجتلب لزيادة المعنى، ففي آية فصلت سبق هذه الآية تبكيت المشركين بسؤالهم عن شركائهم، وكيف ضل عنهم ما كانوا يزعمون من المناصرة والمظاهرة والشفاعة..فناسب ذلك إظهار من له الولاية الحق، وذاك قوله تعالى “رَحْمَةً مِنَّا”، أي: دون أحد سواه سبحانه، ولم يرد في سورة هود قبلها ما يستدعي ذلك فعريت عن الزيادة، وإن مما يستوقف التالي للآيتين التعبير عن النعمة التي يرفل فيها العبد في الدنيا بالذوق، ” وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ” ومعلوم أن الذوق يستحلى به المذوق، فتبقى النفس تواقة إلى الشبع، ولا شبع في الدنيا.. ولذلك ترى أن المرء مهما أوتي فيها لا تزال نفسه تتشوف للمزيد، فإن قُسم لها صنف من النعيم حرمت استيفاءه، بله أن تستوفي سائر صنوف النعم،  وصدق ربنا إذ قال: “وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” [العنكبوت:64] ، ولنعد إلى متشابه الآي نستروح بتدبر ابن الزبير الغرناطي في ذلك قال رحمه الله:

” الآية الأولى منها قوله تعالى: “وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ” [الاية: 10]، و الثانية في سورة  حم السجدة: “وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً” [فصلت: 50] ، للسائل أن يسأل عن زيادة “منا” وزيادة “من” في سورة السجدة وسقوطهما معا في سورة هود؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم: أنه لم يرد في هود ما يستدعي تلك الزيادة، وأما سورة السجدة فتقدم فيها قوله: “وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَاءِي” [فصلت: 47] قطعا بهم وتنبيهاً على سوء مرتكبهم، وقد عاينوا الحق، وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل من شركاء الله سبحانه، وظنوا أي: أيقنوا وعلموا أنه لا محيص لهم ولا مفر، فلما تقدم ذكر الشركاء قال تعالى: “وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا”، فنبه تعالى بقوله “منا” على أن لا شريك له، ولا معطي غيره، وأنه لا يأتي العبد شيء من سواه سبحانه.

 ولما لم يتقدم في سورة هود ذكر لذلك لم يرد فيها التنبيه بقوله: “منا” وأما زيادة: “من” في قوله: “مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ” فمناسب لإطناب هذا الغرض في هذه السورة، فناسب ذلك الزيادة. ولإيجاز هذا القصد في سورة هود ناسبه سقوط “من”، فجاء كل على ما يناسب ويجب، ولم يكن ليلائم كلا من الموضوعين إلا ما ورد فيه، والله أعلم.”[3]

 – المحرر الوجيزلابن عطية، 5/368.[1]

– التسهيل لعلوم التنزيل، 2/411.[2]

ملاك التأويل، القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، 2/253.  [3]

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق