مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

من جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب (13)

خص الإنسان بخاصية الإدراك، وأسعف في تركيبه بوسائل تحصيل هذه الخصيصة، وأنيطت بها مسؤولية التكليف، وجعل الإدراك والتمييز صلة وصل بينه وبينها، ومن أجل ذلك يسقط عن العبد إجراء التكاليف بفقده، وسقوطها عنه بالحجب الكلي للعقل عن التفاعل مع إيحاءات الجوارح، أما إن كان الإنسان نفسه هو المبطل لهذا التفاعل فالمطالبة قائمة، إذ وجَّه إدراكه لغير ما ندب له، ولم يحط فطرته  بواجب الصيانة المنشود، و سعى في تشويه إدراكه زيغا وشططا.

           وإن من أسمى وسائل الإدراك نعمة السمع، وشأن هذه الجارحة غريب، بل ومثير لمزيد من الدراسة والابتحاث، فهي الجارحة الأولى المستجيبة والمتفاعلة لحظة خروج العبد إلى الدنيا، ثم هي آخر الجوارح التي يفقدها قبل موته، فتسكن كل الجوارح وتبقى متفاعلة إلى حين،  وقد توصلت دراسة علمية غربية أجراها باحثون في جامعة كولومبيا البريطانية بحثا عن حاسة السمع عند الوفاة، ونشرت نتائجه في مجلة “سينتفيك ريبورتس”، أكدت أن الدماغ المحتضر يمكنه الاستجابة للصوت حتى في حالة اللاوعي إلى حدود الساعات الأخيرة من الحياة”،[1] وذكرت حقائق أخرى عن هذه الحاسة لا نطيل بذكرها، فلتنظر في مظانها لمن تطلعت نفسه إلى الوقوف عليها.

           إذا أممنا نحو دستورنا الخالد؛ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نجده يكثر الامتنان على الناس بهذه الحاسة، ويوجههم إلى حسن استعمالها، وترشيد توظيفها، باعتبارها آلة تحصيل المعرفة، وقناة استمداد المعلومة، قال تعالى:  “وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون” [النحل:78]، وقصده بالأصالة استيعاب مضامين الخطاب الرباني إلى الكافة، إلا أنه قد تحول بين العبد والإفادة من سمعه موانع، تحجب عنه التفاعل الإيجابي المنهض له من وهدته، والاستفاقة من غفلته، لسماكة الغشاوة المانعة، كما قال سبحانه:  “مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ” وقد حكى القرآن الكريم حال  هذا الصنف فقال: “وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّـرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان:7]،   والوَقْر : ثِقلٌ في الأُذُن، أو هو ذَهابُ السَّمْعِ كلِّه،[2]  و يقال في الدعاء على الرجل بعسر إدراك المسموعات يقال:  “اللَّهُمَّ قِرْ أُذُنه”و وُقِرَت أُذُنه على ما لم يُسمّ فاعلُه، تُوقَرُ وَقْرَاً بالسكون فهي مَوْقُورة، أي ثقل سمعها، فشبه القرآن من لا رغبة له في الانتفاع بالذكر، مع توفر الآلة -بمن أصيب بالصمم-، فلا سبيل لإسماعه، قال ابن كثير : “هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتصامَّ، وما به صمم، كأنه ما يسمعها، لأنه يتأذى بسماعها، إذ لا انتفاع له بها، ولا أرب له فيها”[3].

والملاحظ في الآية أنها عزت علة عدم السماع إلى سببين:

-التظاهر بعدم السماع، “كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا”

-تشبيهه بثقيل السمع، “كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا”

        إلا أنه في موضع الجاثية عند قوله تعالى: “وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِـرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّـرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” [الجاثية:7-8]  يخبر الحق تبارك وتعالى عن عدم استجابته، متظاهرا وموهما مخاطبه بعدم سماعه، ولم يشبهه بمن في أذنيه وقر؛ الذي هو صمم الأذن وثقل سماعها،  واكتفت بذكر  العلة الباعثة، وحصرتها في المكابرة والاستعلاء،  التي حالت بينه وبين الاستجابة لنداآت الرشاد؛ ، فيكون الموضعان قد اتفقا في الإخبار عن عدم الاستجابة، وزاد أحدهما على الآخر بالتنصيص على  علة أخرى صارفة.

      فما وجه تشبيه الأول بمن أصيب بالصمم وثقل السماع، مع التظاهر بعدم السماع؟واقتصار الموضع الثاني على علة واحدة؟ مع اشتراكهما في الموقف؟ يجيب عن هذا التساءل ابن الزبير الغرناطي فيقول رحمة الله عليه:

      قوله تعالى: ” (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان: 7]، وفي سورة الجاثية: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ  يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الجاثية: 7- 8]، للسائل أن يسأل عن تخصيص آية لقمان بقوله: (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)؟

والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن آية الجاثية لما تقدم فيها: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ  يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا)، فوصفه بسماع آيات الله لم يكن ليطابقه ذكر الوقر في الأذن؛ لأنه قد ذكر سماعه الآيات، والوقر مانع من السمع، فلم يناسب الإعلام بالسماع ذكر الوقر المانع منه.

       فإن قيل: لو ذكر هنا الوقر في الأذنين لم يكن ليكون إلا تأكيداً لبيان توليه وإعراضه، فكان يناسب، قلت: لو وُكِّد بذلك لاقتضى مقاربة عدم السماع، وليس المراد – والله أعلم – إلا أنه سمع وأعرض، فكأنه لم يسمع، ليجري الوارد هنا مع قوله تعالى فيمن صمم على كفره من يهود: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 75]، وإذا أريد إبقاء سماعهم، ولم يرد منعه البتة، لم يناسبه التأكيد المقرب من المنع، من أن التنبيه الواقع مراد يحصل المقصود، والله أعلم.

      ولما لم يقع ذكر سماع الآيات في آية لقمان، وتقدم ذكر المشار إليه فيها بقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) [لقمان: 6]، وهذه زيادة مرتكب، فناسبها ذكر زيادة الوقر، مع أنه لم يرد فيها ذكر سماعه الآيات كما ورد في آية الجاثية، فازداد وضوح التلاؤم، وإن عكس الوارد لا يلائم، والله أعلم بما أراد.”[4] [1] https://www.aljazeera.net/news/healthmedicine

[2] تاج العروس، مادة: (و-ق-ر)

[3] تفسير القرآن العظيم،  6/332، تحقيق سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط: 2 /1999-1420

[4] ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل، في وحه متشابه اللفظ من التنزيل، 2/789/790.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق