مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

لمحة عامة عن التعايش السلمي بين أهل الكتب السماوية في القرآن الكريم

وقف القرآن الكريم من التعايش بين أهل الكتب السماوية موقفا متساميا تختلف فيه النظرة المثالية عن الواقع العملي. فالأديان تتعايش من حيث هي عقائد، ويختلف المؤمنون بها باختلاف السياقات والظروف والتنشئات الاجتماعية…تبعا للإرادة الإلهية.
ويعنى بالتعايش السلمي: الاشتراك في الحياة على الألفة والتعاون، ونبذ الحرب، وعدم اعتماده وسيلة لتسوية الخلافات، والتمسك بالمفاوضات والتفاهم المتبادل، والإقرار بالتكافؤ، واعتبار المنفعة المتبادلة أساسا في العلاقات بين الأفراد، والجماعات، والطوائف الدينية، والدول.[1] وإدراك هذا المعنى يتطلب منا أن ندرك حقيقة التعايش السلمي في إطار العلاقة التي أقامها القرآن فيما بين المسلمين ومختلف أهل الكتب السماوية.
فالقرآن الكريم يقر التعايش السلمي بين المسلمين وأهل الكتاب؛ باعتبار أن كتب اليهود والمسحيين والمسلمين جاءت في أصلها بدين واحد، وتهدف كلها إلى إرشاد الإنسان إلى ما يحقق له السعادة في حياته الدنيوية والأخروية، والوسائل التي تحقق هذه الأهداف متماثلة في مجملها وإن اختلفت في بعض التفصيلات.
إنها الإيمان بالعقائد الدينية في الله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، وإنها عبادة الله التي هي حق من حقوقه على الإنسان. وقد فرض الله هذه العبادات، وبين شعائرها. وإنها السلوك الاجتماعي الحسن الذي يقيم دائما بقيم خلقية أبدعتها وأقرتها هذه الكتب السماوية.
وإن كتب أهل الكتاب حتى في نسخها الحالية تحتوي من المضامين ما يتفق مع مضمون الإسلام في بعض الحالات.
فالحوار والجدال مع أهل الكتاب قد يعطي نتيجة؛ لذلك دعا القرآن إلى مجادلتهم بالتي هي أحسن، انطلاقا من العقائد والأسس المشتركة؛ لأن أصول عقيدة كل هذه الطوائف هي الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والعمل الصالح. قال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62].
إن الموقف من أهل الكتاب هو موقف التعايش السلمي، والقرآن الكريم يدعو إلى هذا التعايش حينما قال: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ [أل عمران: 64]، وحين نهى عن استخدام العنف في المجادلة بقوله: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة العنكبوت: 46].
قال الألوسي عند تفسيره لهذه الآية: «﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ﴾ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى، وقِيلَ: مِن نَصارى نَجْرانَ ﴿إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ بِالخَصْلَةِ الَّتِي هي أحْسَنُ؛ كَمُقابَلَةِ الخُشُونَةِ بِاللِّينِ، والغَضَبِ بِالكَظْمِ، والمُشاغَبَةِ بِالنُّصْحِ، والسَّوْرَةِ بِالأناةِ، كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [المُؤْمِنُونَ: 96، فُصِّلَتْ: 34]»[2].
ولقد كان القرآن الكريم يؤكد دائما على أن بين الكتب السماوية تماثلا في كثير من المواقف، تماثلا يدعو إلى الوحدة لا إلى التفرقة والانقسام؛ فنراه يقول مبينا أن الأصل في هذه الوحدة التعاليم الإلهية: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشورى: 13].
ويدعو المسلمين إلى التشبت بالطريق الموصلة إلى هذه الوحدة، فيقول: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 136].
فالدعوة إلى التعايش السلمي بين أهل الكتب السماوية حقيقة قررها القرآن ودعا إليها؛ لأن الاختلاف ظاهرة إنسانية، ويقع في المجتمعات البشرية على كافة المستويات؛ فيقع بين الأفراد بعضهم البعض، كما يقع بين الفئات، والهيئات، والطوائف، والدول أو الأمم بعضها البعض كذلك.
والقرآن الكريم يشير إلى هذا كله ويؤكده كما سلف، فقدرة الله لم تتعلق أبدا بأن تحعل الناس أمة واحدة؛ لأن الحكمة في الاختلاف ليظهر الحق، ويتبين الرشد من الغي؛ فيكون الإيمان عن إقناع واقتناع بعد محاورة بين الحق والباطل. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [النحل: 93]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118، 119].
قال أبو جعفر الطبري: «يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ، ودين واحد»[3]، وقال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى :﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا﴾ [يونس: 99].
وقوله : ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾، أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم، واعتقادات مللهم ونحلهم، ومذاهبهم وآرائهم»[4].
والتعايش السلمي أيضا هو ظاهرة إنسانية، ويراد منه الحيلولة بين الاختلاف في الرأي، وبين ما يؤدي إلى الحرب؛ وذلك بالرفض المتبادل بين الطرفين المختلفين لاتخاذ الحرب وسيلة لحل المنازعات التي بين المختلفين أفرادا وجماعات ودول.
والمؤمنون بالتعايش السلمي يذهبون إلى إمكانية قيامه إذا آمن به الطرفان المتنازعان، واعتمدوا طريق المفاوضات ثم الاتفاقيات في الفصل في الخلافات.
والقرآن الكريم يؤكد هذا الاتجاه، ويدعو إليه فيما بين المسلمين وأهل الكتاب، ويدعوهم إلى كلمة سواء تكون منطلقا للحوار وأصلا للمجادلة بالحسنى بينهم.
والقرآن الكريم يقصد دائما وأبدا إلى المسالمة، وإلى الجدال بالتي هي أحسن، ولا يدعو أبدا إلى الحرب لفض النزاعات. إن الحرب في المنظور القرآني ليست إلا لرد الاعتداء، قال الله تعالى: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [سورة الممتحنة: الآية 8].
والحاصل أن دين الإسلام يحث على التعاون والألفة مع غير المسلمين لتحقيق المصالح المشتركة في الحياة الدنيا، فخالق الكون سبحانه وتعالى جعل التعارف والتقارب والتعاون بين الناس غاية نبيلة ومقصدا عظيما، كما في الآية القرآنية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13]، وبعبارة أخرى، فإن دين الإسلام يحث جميع المخلوقين على التعاون لتحقيق السلام والأمن، ونبذ الحرب والعنف والاقتتال، وكل ما يسبّب الفتنة ويؤدي إلى الخراب والدمار؛ لينعموا بالعيش المشترك الآمن.

الهوامش:

[1] مشكلة الحرب والسلام، مجموعة من أساتذة معهد الفلسفة وأكاديمية العلوم، ترجمة شوقي جلال وسعد رحميى (مصر: دار الثقافة الجديد) (ص: 210).
[2] روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي البغدادي (بيروت: دار إحياء التراث العربي) (21/2).
[3] جامع البيان في تأويل القرآن، أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، ط1 (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1420 هـ – 2000م) (15/531).
[4] تفسير القرآن العظيم، إسماعيل، ابن كثير الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، ط2 (مكة المكرمة: دار طيبة للنشر والتوزيع، 1420هـ-1999م( (4/361).

Science

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق