وحدة الإحياءدراسات عامة

قواعد الاستنباط الأصولية والاختلاف

لقد توصل علماء الأصول من خلال استقراء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة إلى إدراك مدلولات ألفاظها ضمن قواعد أصولية استنباطية، مما كان له أثر كبير في تيسير سبل الدلالة على المعنى المراد في مثل هذه الأحوال.

فقد يكون العام، الذي هو مبحث مهم في مباحث الدلالية، عاما يراد به العموم؛ لأنه اصطحب بقرينة تنفي عنه التخصيص، وقد يكون عاما أريد به الخصوص؛ لأنه اصطحب بقرينة تنفي عنه العموم، وقد يكون عاما مطلقا، عريا عن القرينة التي تحمله إلى جهة العموم أو الخصوص، مما يوجب على المجتهد البحث عن المخصصات.

 وعموما، فقواعد الاستنباط الأصولية تعمل على تفهم معنى النص، والكشف عن مرامي ألفاظه ومدلولاته، فهو اجتهاد ضمن دائرة النص الموجود في حدود الأصول اللغوية والشرعية، وهو مما يفضي في الغالب إلى الاختلاف المشروع المبني على أسس وقواعد أصولية لغوية؛ كالاشتراك اللغوي والحقيقة والمجاز…، وإن كان في الحقيقة يعمل على تقليل الخلاف وتضييق دائرته، وتحصينه من الفوضى والأهواء.

الاختلاف في القواعد الاستنباطية الأصولية مشروع إن كان في أهله وبأدلته

إن المستقرئ لقواعد الاستنباط الأصولية في مظانها يلحظ أن جملة منها، صيغت استفهامية، لاستيعاب الخلاف والإشعار به ومن ذلك:

قاعدة: الأمر المجرد عن قرينة هل يقتضي الوجوب أم لا؟1

قاعدة: هل الأمر المطلق يقتضي التكرار؟2

قاعدة: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟3

قاعدة: هل النهي يقتضي الفساد؟4

فالقاعدة: بهذه الصيغة تتضمن قاعدتين: إحداهما في النفي والأخرى في الإثبات، فمثلا قاعدة: هل النهي يقتضي الفساد؟ إذا قلت: النهي يقتضي الفساد. فهذه قاعدة. وإذا قلت: النهي لا يقتضي الفساد، فهذه قاعدة أخرى.

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن واقع هذه القواعد، بهذه الصيغة الاستفهامية، يشعر بالخلاف وينص عليه ولا ضير في ذلك؛ لأن لكل فريق أدلته، وشواهده، من الشرع، فهو خلاف له أسبابه ومسوغاته، فطبيعة اللغة نفسها قد تكون سببا للاختلاف.

قواعد الاستنباط الأصولية تحصر الخلاف وتضبطه

 لا ينبغي أن يفهم مما سبق، أن الخلاف في قواعد الاستنباط الأصولية مفتوح يحمل الزيادة، والإضافة والتعدد، بل العكس هو الصحيح؛ لأن الخلاف في القواعد الأصولية الاستنباطية محصورة لا يقبل التوسع والإضافة، والسر في ذلك أن هذه القواعد ترجع في أساسها إلى استقراء أساليب اللغة العربية استقراء تاما مما أعطى قواعد أصولية لغوية ثابتة وإن تضمنت خلافات.

وعليه: فالخلاف وإن وجد فهو محدود محصور؛ موجود بحسب طبيعة اللغة العربية، واستقراء أساليبها وهو محدود محصور؛ لأن الاستقراء هو الذي أفاد هذا الحصر، فجهود علماء الأصول في هذا الباب وصلت إلى القمة من حيث التتبع والدراسة.

 ثم إن اختلاف علماء الأصول في القاعدة على قسمين:

يفيد الإجماع والاتفاق على القاعدة الأصولية: فمختلف منها على رأيين. وهذا يفيد الحصر أي: يمنع أن نضيف رأيا آخر لا أساس له.

أما أنها تضبط الخلاف: وذلك؛ لأنه إذا كان الاختلاف في قواعد الاستنباط الأصولية مشروعا، فذلك لأدلته وبراهينه، فهو خلاف مضبوط بقواعده، وحجج كل فريق، فليس لأحد أن يقول في هذه القواعد بمحض رأيه وفكره وهواه وتشهيه وحسب ما يعن له، بل الخلاف المعتبر هو ما بني على أدلة معتبرة شرعا وعليه فإن أصحاب القراءات الجديدة، لكتاب الله أو لسورة منه. والذين يرفضون هذه القواعد الاستنباطية الأصولية بدعوى أن العمل بها، أو بمقتضاها. أو بالرجوع إليها، لكونها غير ملزمة باعتبار أن أصحابها رجال ونحن رجال. لا ينم عن علمية، ولا على انضباط فكري، بقدر ما يكشف عن مزاعم، ومبتغيات هادفة إلى تجاوز العلم وأهله، والتشويش على أحكام الشريعة الإسلامية، وزرع البلبلة في نفوس المسلمين، وعدم الثقة في دينهم وفقههم لعلهم يتركون.

ومثال هذا الاختلاف: دلالة العام المطلق

اتفق الأصوليون على أن العام المطلق إذا خصص فعلا بقطعي، فدلالته على ما بقي من الأفراد بعد التخصيص ظنية لا قطعية5-6.

أما العام المطلق الذي لم يدخله التخصيص؛ فالعلماء على خلاف في دلالته من حيث القطعية والظنية:

  1. ذهب الجمهور من الفقهاء والمتكلمين، ومعهم أبو منصور الماتريدي من الحنفية وما تبعه من مشايخ سمرقند إلى أن دلالة العام المطلق إذا لم يدخله التخصيص دلالة ظنية بمعنى أن احتمال إرادة الشارع من العام بعض أفراده بالحكم قائم، وإن لم يظهر مخصص فعلا، بدليل:

 الاستقراء: لقد ثبت باستقراء مواقع استعمال معظم العمومات في التشريع أنها قد خصصت فعلا حتى صار قولهم: “ما من عام إلا وقد خص منه البعض”، وكثرة التخصيصات هذه، قرينة قوية أورثت شبهة في دلالة العام المطلق، سواءٌ ظهر له مخصص أم لا؟

وإذا ثبت الاحتمال انتفى القطع واليقين؛ لأن القطع واليقين لا يثبتان مع الاحتمال، فلا نقول: “دلالة العام قطعية وهو يحتمل التخصيص”7.

وعليه فالعام عند الجمهور حجة ظنية.

2. دلالة العام المطلق قطعية عند معظم الحنفية

ذهب جمهور الحنفية إلى دلالة العام المطلق على شمول أفراده دلالة يقينية قطعية، وعليه فالعام المطلق صريح الدلالة على إرادة الشارع الشمول والإحاطة منه لجميع أفراده، تناولا وحكما. فلا سبيل إلى القول باحتمال إرادة الشارع، بعض ما يتناوله لفظ العام من أفراد، ما لم يظهر دليل يخصص هذا العام.

 وهذا معنى قول الحنفية: العام حجة قطعية على كل الأفراد تناولا وحكما.

 العام بين في نفسه، صريح في مدلوله، لا يفتقر إلى دليل بين المراد منه8.

واستدلوا على ذلك:

أ. العبرة بالمنطق اللغوي

 وهو الذي يجب الاحتكام إليه في تفسير النصوص، ومنه اللفظ العام، وتبين إرادة المشرع منه؛ لأن اللفظ متى وضع المعنى، كان ذلك المعنى ثابتا له قطعا، سواء أكان اللفظ خاصا أم عاما، حتى يرد الدليل على خلافه.

 فالحقيقة اللغوية للفظ العام ثابتة له قطعا. نعم، إن هذا العام يحتمل التخصيص في ذاته، بمعنى أن العقل لا يحكم باستحالة التخصيص، إذ التخصيص ممكن عقلا، كما هو جائز شرعا إجماعا، بدليل وقوعه، ولا أدل على الإمكان والجواز من الوقوع.

 لكن هذا الاحتمال العقلي المجرد، لا يؤثر في قطعية دلالة العام على جميع أفراده، ما دام غير ناشئ عن دليل؛ لأن إرادة المشرع، في –الأصل- غيبٌ عنا، فلابد من دليل بمظهرها. ولا ينبغي للمجتهد أن يفسر هذه الإرادة على غير مقتضى الحقيقة اللغوية، إلا بدليل يفسر أساس هذه المخالفة عن الحقيقة اللغوية التي هي الأصل في البيان.

على أن مجرد الاحتمال غير الناشئ لا يعدو أن يكون تصورا عمليا، ولا يلزم من التصور العقلي الوقوع الفعلي.

ب. القياس

اللفظ الخاص وهو يدل على معناه قطعا إجماعا لا يؤثر على قطعية دلالته مجرد التصور العقلي لإرادة غير معناه الأصلي وهو المجاز… فكذلك العام. والفرق يحكم9. وقد ترتب عن هذا اختلاف بين الفريقين في تخصيص هذا العام المطلق.

 أولا: جمهور الأصوليين

 يرى أن التخصيص ليس إلا بيانا أو تفسيرا للعام ولا معارضة بين العام والخاص؛ لأن الظني الذي هو العام لا يعارضه القطعي. دون نظر إلى نوعية الدليل من حيث كونه قطعيا أو ظنيا، مستقلا أم غير مستقل. مقارنا في الزمن أم غير مقارن.

 فترتب على هذا، قاعدة: وهي: حيثما توارد الخاص والعام، كان العام مرادا به الخاص، في القدر الذي اشتركا في تناوله10.

ثانيا: الحنفية

يرى الحنفية أن التخصيص نوع من البيان، ولكنه يتضمن معنى المعارضة، ومعنى المعارضة هنا: أن العام والخاص دليلان قطعيان تدافعا بحكمهما في القدر الذي اختلفا فيه.

وتفرع عن طبيعة التخصيص هذه عندهم، شروط في الدليل المخصص، وهي كما يلي:

  1. أن يكون مساويا للعام من حيث القطعية والظنية أو قوة الدلالة.
  2. أن يكون مقارنا للعام في زمن تشريعه أو تاريخ نزوله أو وروده أو صدوره، لا متراخيا عنه.
  3. أن يكون مستقلا إذا كان كلاما، على معنى أن يكون جملة تامة مفيدة لمعنى أو حكم في ذاتها، وليست جزءا في كلام سابق لا يفهم له معنى إلا بضم سابق هي إليه، كالاستثناء والشرط مثلا11.

وقد انبنى على هذا الاختلاف اختلاف كبير في الفروع الفقهية. ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: “ما سقت السماء ففيه العشر” فهذا النص شامل بعمومه القليل والكثير من الزرع والثمار، والحكم هو وجوب الزكاة، والمقدار هو العشر من الناتج. وفي نص آخر نجد: قوله صلى الله عليه وسلم: “ليس فيما دون خمسة أو سق صدقة”12 فزكاة الزروع والثمار في هذا الحديث الشريف محددة بخمسة أوسق فصاعدا.

 وعليه: هنا تعارض بين الحديثين فيما هو أقل من هذا النصاب في اجتهاد الحنفية، لأن الحديث العام يوجب الزكاة في هذا القدر. والخاص لا يوجبها فيه.

 فتعارضا ظاهرا. وتاريخ ورودهما مجهول؛ فمنهج الحنفية في التنسيق بين العام والخاص في حالة جهالة تاريخ تشريعهما، وهما متساويان في قوة الدلالة، وليس إحداهما أرجح من الآخر، للعمل في اجتهادهم يقضي بالبحث عن دليل مرجح.

فرجحوا العمل بالعام؛ لأن ذلك أنفع للفقير، وأجدى على مصارف الزكاة، فكان الترجيح قائما على أساس تقديم المصلحة العامة.

 أما الجمهور: فقدموا العمل بالخاص، ولم يحكموا بالتعارض، فلم يوجبوا الزكاة فيما دون النصاب الذي حدده الدليل المخصص، إعمالا له: لأنه الأقوى في اجتهادهم 13.

آفاق التقريب بين الجمهور والحنفية في هذه المسألة

مما تجدر الإشارة إليه أن هذا الاختلاف مبني على قواعد أصولية، وأدلة شرعية، بقصد الوصول إلى الحق. ومعناه أن هذا خلاف معتبر شرعا؛ لأنه ليس مبنيا على الهوى والتشهي، ولكن هذا لا يمنع النظر في آفاق التقريب بين هذه الآراء المختلف منها.

ولذلك أقول: إن سبب الاختلاف أساسا ومنطلقا في مفهوم دلالة العام المطلق هو: الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية: فالجمهور قدم الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية. أما الحنفية فقدموا الحقيقة والمنطق اللغوي، وهو الذي يجب الاحتكام إليه في تفسير النصوص؛ لأن اللفظ متى وضع لمعنى. كان ذلك المعنى ثابتا له قطعا، سواء أكان اللفظ خاصا أم عاما، حتى يرد الدليل على خلافه؛ فالحقيقة اللغوية للفظ العام ثابتة له قطعا14. وليست هنا في معرض الترجيح.

 فالترجيح واضح؛ لأن الحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية، ولكني أتساءل عن هذا الموضوع الهام الذي له أثر كبير في الاختلاف في القواعد الأصولية المختلف منها والمبينة على هذا الأمر:

هل يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد؟

هل يجوز تخصيص عموم القرآن بالقياس؟

أتساءل عن التقريب بين الجمهور والحنفية في هذه المسألة فأقول متسائلا:

لماذا تمسك الحنفية بالحقيقة اللغوية لدلالة العام المطلق؛ في حين تمسك جمهور الأصوليين بالحقيقة الشرعية؟

لماذا اشترط الحنفية في مخصص العام المطلق شروطا وهي:

  1. أن يكون مساويا للعام، من حيث القطعية والظنية أي: قوة الدلالة.

إلى غير ذلك من الشروط.

لماذا لا يجيز الحنفية تخصيص العام المطلق الذي لم يخصص أصلا بخبر الآحاد بدليل:

أن عام القرآن الكريم قطعي –دلالة وثبوتا- وحديث الآحاد ظني ثبوتا، ولا يقوى الظني على تخصيص القطعي.

ولأن في التخصيص إبطالا لمدلول العام القطعي في بعض جزئياته، بظني أو تغييرا لمعناه البين الثابت له قطعا بمقتضى وضعه اللغوي، فلابد أن يكون المخصص أو المغير في قوة العام من حيث القطعي، حتى لا يلزم ترجيح الظني على القطعي، وذلك باطل شرعا وعقلا15.

ومن هنا أقول:

– لم يكن الإمام أبو حنيفة في العراق بعيدا عن موطن الخبر –المدينة المنورة- وخوفا واحتياطا من أبطال عمومات القرآن الكريم. وهذا هو طابعه في بعض جزئياته بظني غير مساو لعمومات القرآن.

لماذا تمسك أبو حنيفة بعمومات القرآن واشترط ما اشترط لتخصيصها، ألم يكن، رحمه الله، محكوما بالشك في صحة الأخبار التي قد تصله؟

لماذا لا نقول اليوم أن الحديث النبوي قد غربل وتميز الحديث الصحيح عن الضعيف؟

لماذا نترك هذه الهوة السحيقة في هذه المسألة بين جمهور الأصوليين والحنفية؟

ألم يحن الوقت للاستفادة من المعطيات الجديدة والحقائق الشرطية الأكيدة؟

لماذا لا يكون هناك مجامع أصول الفقه على غرار المجامع الفقهية؟

لماذا لا نستفيد من المتغيرات بناء على القاعدة الأصولية الفقهية: الحكم يدور مع علته وجودا أو عدما؟

ومما يسعفنا بهذا؛

– البحوث العلمية الأكاديمية الرصينة التي أنجزت داخل رحاب الجامعات في سائر الدول الإسلامية والتي حققت الأحاديث تحقيقا محكما وصنفتها.

– البحث في الظروف والملابسات والكليات الشرعية التي تكون مستندا للقواعد الأصولية.

– حرص الخلاف وذلك بالتأكيد على المتفق عليه والبحث في المختلف فيه.

– دراسة القواعد الأصولية دراسة مقارنة بأدلتها رفع الوقوف على أسباب الاختلاف حتى يكون الترجيح على هدى من الله وهذا البحث نموذجا منها.

الهوامش

1. ابن اللحام، القواعد والفوائد الأصولية، ص26.

2. المصدر نفسه، ص27.

3. المصدر نفسه.

4. االمصدر نفسه.

5. انظر فتحي الدُّريني، المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي في التشريع الإسلامي، ص433-434.

6. القطعية هنا هي قطعة الاحتمال الناشئ عن دليل.

7. انظر محمد أديب صالح، تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، 2/109.- المناهج الأصولية، م، س، ص539.

8. انظر المناهج الأصولية، م، س، ص535.

9. المصدر نفسه، ص537-538.

10. المصدر نفسه، ص555.

11. المصدر نفسه، ص556-557.

12. حديث متفق عليه.

13. انظر “المناهج الأصولية، م، س، ص562-563-564.

14. المصدر نفسه، ص537.

15. المصدر نفسه، ص548-549.

Science
الوسوم

د. الجيلاني المريني

كلية الآداب فاس، سايس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق