مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

قضاء القرب ودوره في تسديد الأحكام

     لما كان الهدف من معرفة الأحكام الشرعية للنوازل الفقهية هو معرفة حقوق الناس، وكانت الكثير من القضايا والنازلات مستعجلة لا تحتمل تأخير، كان القضاء هو المسلك والطريق التي تمكن من إعطاء الحقوق لذويها ومستحقيها، ولا أدل على ذلك من حضور مجالس القضاء ثلة من الخبراء يأتي الفقهاء على رأسهم، مشاورين ومستشارين معينين على إظهار الحقوق وتمييزها، فتتجلى تبعا لذلك الحكمة من مشروعية القضاء كما أشار لذلك الفقيه ابن فرحون المالكي رحمه الله بقوله: “رفع التهارج ورد النوائب وقمع الظالم ونصرة المظلوم وقطع الخصومات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”[1]، ولقد كان القرب أكثر وأهم ما يميز القضاء ومجالسه، يُعلم ذلك من خلال ثلاثة أبعاد القرب المكاني، والقرب الزماني والقرب الموضوعي.

                 أولا- قرب القضاء المكاني: إن الناظر في تخطيط المدن الإسلامية، يلاحظ بلا شك أن كل حَيٍّ فيها لابد وأن يضم ثلاث مكونات أساسية المسجد واحد منها إلى جانب المْدْرْسة  والزاوية، هذا فضلا عن المسجد الجامع الذي يعتبر النواة التي تتمحور حوله المدينة نظرا للوظائف والأدوار التي يلعبها في حياة الفرد و المجتمع، وذلك على مستويات عدة: دينية، توجيهية، تعليمية، اجتماعية، سياسية… فالمسجد جمع بين الوظيفة الأولى والمتمثلة في استقبال وفود المصلين لأداء صلواتهم، وبين وظائف أُخر مست جوانب متعددة من حياة أولئك المصلين أنفسهم، نظرا لانفتاحه على محيطه، فكان منذ البدء حاضرا بقوة في حياة الجميع محتلا بذلك الريادة والصدارة في حياة البلاد والعباد ..لأجل ذلك اتخذ المسجد مكانا للنظر في القضايا والمنازعات وهذا رأي الكثير من الفقهاء، قال الإمام مالك: “القضاء في المسجد من أمر الناس القديم… وقال الشعبي: رأيت عمر وهو مستند إلى القبلة، يقضي بين الناس. وقال مالك: هو من أمر الناس القديم. ولأن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس، فلم يكره في المسجد، ولا نعلم صحة ما رووه عن عمر، وقد روي عنه خلافه، وأما الحائض، فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء، وكلت أو أتته في منزله. والجنب يغتسل ويدخل، والذمي يجوز دخوله بإذن مسلم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده ، مع حاجة الناس إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم، وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد، وربما رفعوا أصواتهم .

               فقد روي عن  كعب بن مالك أنه قال:  تقاضيت ابن أبي حدرد  دينا في المسجد، حتى ارتفعت أصواتنا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأشار إلي، أن ضع من دينك الشطر،  فقلت : نعم يا رسول الله، فقال: فقم فاقض، وينبغي أن يكون جلوسه في وسط البلد، لئلا يبعد على قاصديه، ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه، لما روى القاسم بن مخيمرة، عن أبي مريم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  من ولي من أمور الناس شيئا، واحتجب دون حاجتهم ، احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره”[2]، ولأن القضاء قربة وطاعة وإنصاف بين الناس فلا يكره في المسجد.وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في مسجده -مع حاجة الناس إليه- للقضاء والفتيا وغير ذلك من حوائجهم، وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم”[3][4].

                 من أجل ذلك كان تخصيص مكان معين لمجلس القضاء في المساجد باعتبارها محج الساكنة وأقرب لهم من أي مكان آخر يسهل تردد أصحاب المنازعات والقضايا عليها وقد سمي في مساجد المغرب كجامع القرويين مثلا بمقصورة القاضي، وقد خصص العلامة الدكتور عبد الهادي التازي بَابًا في كتابه جامع القرويين للحديث عنها، قال: “كانت محكمة القاضي قائمة قبل أيام بني مرين وطيلة أيام هؤلاء في الجهة الجنوبية للجامع حيث باب القضاء وحيث باب الستر”[5]، ورغم أن الحديث عن مجلس القضاء قد اختفى طوال أيام بني وطاس والسعديين وبداية الدولة العلوية إلا أن هذا لا يعني اختفاءها … كما أنه لا صلة بين محكمة القاضي ومركز الحاكم أو الديوان أو الباشا كما تسميه الاصطلاحات المتأخرة فإن هذا تشيد له مكان خاص به على عهد السلطان المولى إسماعيل وفي فندق النجارين الذي كانت ساحته تحمل اسم رحبة الحاكم، كما أنه لا صلة بين محكمة القاضي ومحكمة المحتسب التي كانت بجانب المارستان… ولقد كان الذي أسس محكمة القاضي التي بالسماط الآن هو السلطان المولى سليمان سنة 122هـ وجعل لها بابين أحدهما من داخل القرويين في الركن الشمالي الغربي والآخر من جهة العدول انظر جامع القرويين”[6].

                         ثانيا-قرب القضاء الزماني: فيتجلى في تخصيص أوقات معينة للنظر في القضايا والمنازعات المعروضة عليه بحيث تكون معلومة للناس على أن لا تكون ساعات طوال مرهقة له كما تستثنى أيام الأعياد وما إلى ذلك كيوم عرفة ويوم التروية ويوم الجمعة على أن يكون الأصل والقاعدة في تحديد أيام القضاء وساعات العمل اليومية ابتداء وانتهاء وأيام العطل الرسمية أمرا عاما لجميع القضاة ولجميع الناس تيسيرا للجميع في ضبط زمن التقاضي وتسهيلا وتسريعا للبث في القضايا المعروضة على نظر القضاة”[7].

                          ثالثا- قرب القضاء الموضوعي: الحكم في جميع القضايا المعروضة عليه “سواء كانت مالية أو غير مالية وسواء وردت هذه الحقوق في قضايا جزائية أو مدنية قال الفقيه ابن رشد وهو يتكلم عن مدى ما يملكه القاضي من ولاية الحكم، قال: “واتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقا لآدميين وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى”[8]، وقال الفقيه المالقي الأندلسي: “إن للقضاة إقامة الحدود والنظر في جميع الحقوق وتغيير المنكر والنظر في المصالح”[9]، وقال الفقيه ابن فرحون نقلا عن ابن سهيل:”اعلم أن خطة القضاء أعظم الخطط قدرا وأنها إليها المرجع في الجليل والحقير بلا تحديد وأن على القاضي مدار الأحكام وإليه النظر في جميع وجوه القضاء من القليل والكثير وأنه يختص بالنظر في الجراحات والتدميات”[10]،[11].

                          وقال العلامة ابن خلدون في مقدمته: “واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أحوال المحجور عليهم من المجانين واليتامى وأهل السفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود”[12]، ويذكر الفقيه النبهاني “للقضاة إقامة الحدود والنظر في جميع الأشياء من إقامة الحقوق وتغيير المنكر والنظر في المصالح”[13].

وتلعب خبرة القاضي دورا مهما في تسديد وتقريب الأحكام القضائية، فمن المعلوم أن إصدار أحكام قضائية سديدة يقتضي توفر مجموعة من الشروط والآليات، وتسخير كل ما يمكن أن يكون خادما لذلك، من استدعاء أهل الخبرة والاختصاص، ففي ظل ما يعيشه المسلمون اليوم من تغيرات وتطورات، على جميع الأصعدة العلمية، والاقتصادية، والسياسية، والحقوقية، وغيرها، إذ لم يعد الأمر مقصورا على حنكة القاضي وحده وأهليته للبث في قضايا الناس، بل أصبح الأمر يتطلب استحضار جهود الأطباء وخبرة العلماء، من بيولوجيين وفيزيائيين ومهندسين وغيرهم، فهي خبرة تزداد بازدياد المعارف، وتتسع وفق محدثات الأقضية و النوازل؛ إنها خبرة تتطلب إحداث صيغ عملية تعنى بالواقع من حيث هو في أبعاده الجغرافية والسكانية والحضارية و العلمية و غيرها، وتعمل على إنشاء مؤسسات تمكن من تسديد العمل القضائي بشكل يساير المعطيات والأحوال والخصوصيات والإحاطة بكل ظروف وملابسات القضية، وفهمها فهما دقيقا، وهذا الأمر لا يتوصل إليه إلا إذا تمت الاستعانة بذوي الخبرة والمعرفة، والرجوع إلى أصحاب التخصص الدقيق في ما هو معروض على نظر القضاء، كالكثير من المسائل الطبية الدقيقة المتعلقة بالهندسة الوراثية، والمعاملات الاقتصادية والمالية المعقدة، التي تحتاج إلى ملكات وقدرات خاصة، لا يحسنها إلا أربابها والعارفين بها. وقد كان هذا ديدن علمائنا وفقهائنا وقضاتنا الذين استشعروا كل ذلك وكانوا مراعين له في اجتهاداتهم، وأثناء إصدار أحكامهم، ويظهر ذلك جليا في وجود هيئة عرفت ب”المشاورون”[14] بجانب القضاة يُلتجأ إليها لتسديد الحكم، للاستعانة بهم في”تقدير النفقة والكسوة وأجرة الرضاع، وقسمة الأموال والتركات وغير ذلك من تلقي المواجب من أرباب البصر”[15].

                فمهمة القاضي عند البث في قضايا الناس تقتضي استدعاء الفقهاء، إذ ينبغي للقاضي عند تقلد منصبه أن يسأل عن فقهاء بلده ويتعرف عليهم، ليدعوهم لحضور مجلسه، لمشاورتهم فيما يحتاج إليه من القضايا التي يشكل عليه أمرها[16].

                  “وقد كان من التراتيب التي درج عليها أهل المغرب أن يكون إلى جانب القاضي مفت خاص يعين رسميا بظهير سلطاني ليستشيره القاضي في النوازل المهمة، كما يستفتيه الناس في شؤونهم الدينية، وقد عرف هذا النظام قديما في الأندلس، إذ كان أمراؤها اتخذوا بقرطبة دارا للشورى في القرن الثالث الهجري وكان أعضاؤها يختارون من جلّة العلماء وعِليّة الفقهاء، يحمل كل واحد منهم لقب (المشاور)، ومهمتهم على ما ذهب إليه بعض الباحثين النظر في الأحكام المسترابة، وتقديم المشورة في القضايا الكبرى والمسائل العويصة التي ترفع من الولاة والقضاة فينظرون فيها بمقتضى قواعد المذهب المالكي وقد يخالفونه أحيانا… أو عنهم نقلها المغاربة فقد روي عن الأمير علي بن يوسف بن تاشفين أنه عهد إلى قضاته أن لا يبتوا في حكومة كبيرة أو صغيرة إلا بمحضر أربعة من الفقهاء وإذا أراد مشورتهم خلا بهم في غرفة المشورة، ولا يشركهم في الحكم، وكان هو نفسه أي بن تاشفين لا يقضي في أمر إلا بحضور عدد معين من الفقهاء حتى سميت دولة المرابطين بدولة الفقهاء، وكان المفتون يراعون في فتاويهم أن لا يحيدوا عن المنهج المسطر للقضاة، بحيث لا يخرجون عما به الفتوى والقضاء من القول الراجح في المذهب أو المشهور أو ما جرى به العمل وكذلك كان المتداعون يستفتون الفقهاء في نوازلهم ويدلون بهذه الفتاوى للمحكمة لبيان أحقية ما يدعون…”[17].

                          لقد أسهم قرب القضاء من الناس من أداء القضاة لمهامهم على أحسن وجه  وبالتالي الفصل في خصومات الناس، والحسم في منازعاتهم والنظر في قضاياهم فتجلت بذلك مكانة المنصب وشرفه والذي دلت العديد من النصوص الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة عليها، منها قوله عليه الصلاة والسلام: “إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في أحكامهم وأهليهم وما ولوا”[18].

الهوامش:


[1] – التبصرة لابن فرحون 1/13.

[2]– أخرجه أبو داود في سننه، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت.والترمذي في سننه ، تأليف: محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق أحمد شاكر وغيره، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة: الثانية، 1395 هـ،والإمام أحمد بن حنبل في مسنده، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، نشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421هـ – 2001م.

[3] – أنظر المغني لابن قدامة المقدسي 10ص96

[4]– نظام القضاء في الإسلام 118.

[5]– جامع القرويين للدكتور عبد الهادي التازي 3/ 225.

[6]– جامع القرويين3/ 225.

[7] – نظام القضاء في الشريعة الإسلامية 115 ومابعدها.

[8]– بداية المجتهد 2/384.

[9]– انظر تاريخ قضاة الأندلس للفقيه أبي الحسن النبهاني المالقي الأندلسي ص 6.

[10]– تبصرة الحكام لابن فرحون 1/18.

[11] – انظر نظام القضاء في الشريعة الإسلامية 107.

[12]– انظر المقدمة 133.

[13] – تاريخ قضاة الأندلس لأبي الحسن النبهاني ص6.

[14]– “لفظ المشاور استعمل أولا في بلاد الأندلس قديما وانتقل منها إلى بلاد المغرب، وخصوصا في مدينة فاس وذلك أن قاضي الجماعة بكبريات المدن كان يتخذ مشاورا وهو بمثابة النائب عنه فإذا أراد حكما على أحد من القضاة لابد من مشاورة مشاور وهو أعلى من النائب “قضاة فاس من دولة الأشراف الأدارسة إلى دولة الشرفاء العلويين لعبد السلام بن سودة تحقيق عبد العزيز تيلاني ص64. وقد عُرف العديد من الفقهاء بالمشاورين منهم مثلا عبد الرحمن بن أحمد بن بشير المعروف بابن الحصار، رحمه الله الذي “كان من كبار المشاورين المفتين، بصيرا بالعقود و الأحكام، لا يجارى في ذلك، ويسلم له ذلك لشغوفه فيه…”كتاب النوازل والأعلام المسمى ديوان الأحكام الكبرى للقاضي أبي الأصبغ عيسى بن سهل الأسدي الجياني (486هـ)، تحقيق محمد حسن محمد حسن إسماعيل، الطبعة الأولى (2005 م- 1426هـ) ص512. “قال بن عتاب:  كنا نجتمع عنده مع شيوخ الفتوى، فيشاور في المسألة فيخالفونه، فلا يزال يحاجهم ويستظهر عليهم حتى يقولوا بقوله” سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي”. دار الحديث القاهرة،1427هـ/2006م، 13/165 رقم 3939.

[15]– قضاة فاس من دولة الأشراف الأدارسة إلى دولة الشرفاء العلويين، ص 29.

[16]– أنظر محاضرات في علم القضاء، لعبد العال عطوة.

[17] – أنظر مباحث في المذهب المالكي لعمر الجيدي 105 وما بعدها.

[18]-أخرجه مسلم كتاب الإمارة باب فضيلة الإمام العادل، وعقوبة الجائر، والحث على الرفق بالرعية، والنهي عن إدخال المشقة عليهم (1827) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وابن نمير، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو يعني ابن دينار، عن عمرو بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، قال ابن نمير: وأبو بكر: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث زهير: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق