مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

قراءة في كتاب: «الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية» للدكتور: «محمد الولي»

يعد محمد الولي من بين نخبة العلماء الذين أثروا الساحة العلمية النقدية والبلاغية بمؤلفات جمعت بين الدرس والتحليل والترجمة؛ فتميز عن غيره من البلاغيين العرب المعاصرين؛ جمع في رصيده بين المعرفة بالتراث والبلاغة العربية، والمعرفة بالبلاغة الغربية كما يتبين من ترجمته لكتاب بول ريكور paul ricoeur  «الاستعارة الحية» ودراسته للصورة ضمن كتابه«الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي» بالإضافة إلى كتابه «الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية» محققا بذلك مسعى الجمع بين التراث البلاغي العربي، وبين البلاغة الغربية في توجهها الجديد بعد انفصال دام عهودا طويلة، حيث سعى محمد الولي  لقراءة البلاغة العربية القديمة من منظور معاصر، وهو توجه ميز  دراسات عربية معاصرة كثيرة، وغاية ذلك كله قراءة الاستعارة قراءة جديدة تنقذها من الصيغة التقليدية التي حصرتها في القلب والاستبدال إلى درجة أبعد تعبر بها عن نمط في التفكير العميق، خاصة في ظل تطور الإبداع وانفتاحه على جميع الخطابات الفلسفية والدينية والسياسية، وتطور آليات الدراسة والنقد، حيث اهتم بقضايا التجديد في البلاغة العربية فنبغ فيها وناولها ما تستحقه من اهتمام ونقص علميين، وتعد الاستعارة من أهم القضايا البلاغية التي شغلت بال الباحث محمد الولي وأخذت حيزا كبيرا من انشغالاته العلمية بحثا وترجمة ودراسة ونقدا.

منهج القراءة في الكتاب:

صرح محمد الولي في بحثه «الاستعارة في محطات يونانية» قائلا:« يتناول هذا البحث ثلاث تصورات للبلاغة والاستعارة انطلاقا من ثلاث ثقافات وثلاث مفكرين؛ الثقافة اليونانية ممثلة بــ«أرسطو»، والثقافة العربية ممثلة بــ«عبد القاهر الجرجاني»، والثقافة الغربية ممثلة بــ«شايم بيرلمان»[1] وتطرح آثار هؤلاء المفكرين تصورات فريدة داخل السيولة التاريخية مختلفة عما تقدمها وعما خلَّفها، إنها جميعا تنطلق من مجال متميز مختلف عن مجالات كل العلوم المجاورة، كما أنها ذات موضوع مخصوص تحاول وصفه باعتباره بناءا متكاملا، وهذا يقتضي وضع لغة جديدة للوقوف على عناصر الشيء المدروس ووحداته، والملاحظ أن محمد الولي وهذا مهم جدا لم يقفز على الدارسين العرب المعاصرين، إنه يسير بالبلاغة العربية وبمفهوم الاستعارة عبر محطات بوضعها مرة على ميزان البلاغيين العرب، قدامى«الجرجاني- القرطاجني» ومعاصرين«صلاح فضل- وصمود حمادي- وجابر عصفور وغيرهم» ومرة أخرى على طريق البلاغيين الغرب، يقول محيلا على منهجه «إن فهم الذات يمر بالضرورة عبر محاولة فهم الآخر، كما أن إقامة نظرية علمية في البلاغة تقوم بالضرورة عبر الدراسة المقارنية التي تعتبر التراث الإنساني كله متكاملا» وسلاحه في ذلك هو التحلي بالموضوعية لتفادي الفيوض العاطفية أو ما أسماه «العمى العاطفي»[2]

وتتوقف هذه الدراسة عند ثلاث تصورات كبرى للاستعارة:

أما التصور الأول: فهو التصور الأرسطي المرتبط بالخطابة والشعرية، وفي هذا السياق حاول أرسطو التنظير لهذا العلم الوليد الذي هو الخطابة، حيث تحدث عن أجناس ثلاثة من الخطابة؛ التشاورية والقضائية والاحتفالية وهي الأجناس التي اشتهرت في اليونان لدواع سياسية مرتبطة بالنظام الديمقراطي الأثيني، فالخطابة القضائية المهتمة بما هو عدل وما هو ظلم تعيش في كنف المحاكم حيث يتبادل المرافعة المحامون والقضاة، والخطابة الاستشارية والاحتفالية المهتمة بما هو خير وما هو شر تعيش في كنف التجمع الشعبي وفي كنف مجلس الممثلين [3]

فالخطابة في هذا التصور هي اللغة الداعية إلى الفعل، ففي الاستشارية إشارة إلى فعل الخير للحاضرة، وفي القضائية دعوة  إلى الاتهام أو التبرئة، وفي الاحتفالية التي تعتبر في تاريخ البلاغة أبعد الأجناس عن الفعل هي داعية إلى نوع من ترسيخ الاعتقاد وتمجيد الممتازين من الناس، وموضوع الخطابة هو إذن هذا المجال الرحب، مجال القيم حيث الاختيارات لا يمكن حسمها حسما نهائيا أبدا، إنه مجال كل ما هو غامض ومائع. [4]

كما بين المؤلف أجزاء الخطابة ممثلة في:

 الافتتاح: هذا الجزء الافتتاحي ليس خاصا بالخطابة إنه مشترك بين مجموعة من الفنون، والغاية منه هي كسب المخاطب لصالح الأطروحة التي ندافع عنها، وللافتتاح على وجه العموم وظائف ثلاثة هي:

1- إثارة انتباه المتلقي.

 2- تهيئته لأجل الاستفادة.

3- استمالته. [5]

السرد: يعقب الافتتاح السرد وهو العرض المفصل لما تم اختصاره في الافتتاح تحت تسمية المجمل وما عرض هيكله في التقسيم، فإذا كان محتوى الرسالة مترابط الأجزاء فإن المجمل يعقبه السرد، وينقسم هذا الأخير إلى أنواع؛ الأول خاص بالخطبة القضائية وفيه تثبت الأشياء بشكل يساهم فيه كل جزء في كسب القضية، والثاني هو عبارة عن سرد استطرادي ففيه يتم الابتعاد عن الموضوع بعض الشيء بغاية التوضيح أو التزيين، والنوع الثالث ينتمي إلى فن الشعر وهو يستعمل كتمرين في تكوين الخطيب، وكما يتعلق بالأشياء يتعلق بالأشخاص. [6]

إن السرد الذي هو عرض الأحداث يظل ضروريا في الخطابة القضائية، إلا أنه بالإمكان الاستغناء عنه في الخطابة الاستشارية حيث تكون الأحداث الماضية معروفة جدا عند كل المستمعين ويكون المستقبل عصيا عن الوصف، وفي الخطابة الاحتفالية فإن ضرورة السرد وإمكان الاستغناء عنه تابعان لمعرفة الأحداث أو عدم معرفتها. [7]

الحجاج: كما يعقب الافتتاح السرد، يعقب السرد الحجاج الذي يجعله أرسطو مفخرة الخطباء، والنواة المركزية لكل خطابة، بل لكل خطاب، ذلك أن مظهر الموهبة الخطابية تتمثل في القدرات الحجاجية المبتكرة والمركبة على المادة الحدثية المحكية. [8]

الخلاصة:للخاتمة وظيفتان؛ أولاهما: تثبيث درجة اليقين، وذلك بفضل التناسب بين السرد والاستنتاج وبفضل التكرار بشكل مختصر للحجج التي تم الإدلاء بها في الحجاج، ومن أهم متطلبات جودة الاختتام نجد الإيجاز. [9]

وظيفة الاستعارة في الكتاب:

يؤكد صاحب الكتاب أن نصف الحجج الصناعية هي استعارات أو منتمية إلى نفس المنطقة الشاسعة الاستعارية، كما يلح كذلك على أن الاستعارة الخطابية  التي تؤدي هذه الوظيفة خصوصا في الخطابة تقوم على أساسين هما الإفهام أو الوضوح المعرفي،[10]. وقد توصل محمد الولي بعد دراسة مفصلة للاستعارة في «محطاته» إلى أنها مقوم حجاجي بل برهاني في مجال الإنسانيات لا غنى عنه، وهي تحتل المكانة المرموقة إلى جانب القياس الإضماري، والمقارنة، والتنسب الأنالوجي شبه الرياضي، [11] ثم إن قيام الاستعارات على تشابه العلاقات لا المواد هو ما يشدد ويقوي إمكاناتها الإقناعية أو الحجاجية،[12] وبالتالي هو ما يجعلها تتشبت أكثر بوظيفتها الحجاجية، ومن الخصائص المميزة للاستعارة؛ ذكر المؤلف قدرتها على تحقيق المتعة عندما تكون بليغة المعاني وحسنة الألفاظ، فتصبح المتعة جزءا من الوظيفة الحجاجية يقول:«إن المتعة هنا جزء من الوظيفة الحجاجية، فليست المتعة هنا مطلوبة لذاتها بل إن لها غاية مدعمة للدور الحجاجي أو الخطابي، بمعنى آخر لا تستقل هنا المتعة عن الفائدة سواء كانت هذه الوظيفة إشارية في تسمية ما لا اسم له، أم وظيفة إقناعية»[13]

وفي جانب آخر دافع محمد الولي عن الاستعارات الجديدة ودعا الباحثين إلى النظر فيها، وتجاوز الاستعارات المستهلكة التي لم تكن تتجاوز الوظيفة الجمالية المتمثلة في تزيين النصوص وزخرفتها قال في هذا الصدد: «ويلازم هذا الجانب التعليمي أو المعرفي للاستعارة الجديدة أو غير المستهلكة، أمر آخر وهو المتعلق بالدهشة، دهشة اكتشاف أن ما كنا نتصوره ونتوقعه ليس كذلك،وهذا الإحساس هو إحساس تعليمي ومعرفي، على أن المسألة ليست مجرد إعلام أو إخبار بل إن هناك إحساس الدهشة أو المتعة المصاحبة للاكتشاف وخرق العادة، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق مع الاستعارات المستهلكة، وإنما مع الاستعارات الجديدة»وهذا يبين لنا أن الإحساس بالدهشة هو الجانب الإمتاعي في الاستعارة، ولا يتحقق إلا مع الاستعارة الجديدة، وهو إحساس معرفي يؤثر في توقعات المتلقي وتصوراته، كما تستقي الاستعارة وظيفة الإحساس بالدهشة والغرابة من كونها؛ أولا: «لا ينبغي أن تكون رصينة لأن هذا مما يناسب التراجيديا، والغموض هو أهم خاصية في الاستعارات الشعرية»[14]

وعلى الرغم من تنويه أرسطو بالاستعارة في الشعر فإنه يؤكد أنها مهمة في النثر اليومي أي الخطابي، هذه النظرة إلى الاستعارة تعتبر مقوما أساسيا في التواصل اليومي والمعتاد بين كل الناس، على أن أرسطو ينصح بضرورة العناية بالاستعارة لأن الخطيب يوجد في وضعية مختلفة من وضعية الشاعر، ففي الوقت الذي تتوفر لهذا الأخير الكثير من المقومات الشعرية، فإن الخطيب محروم من هذه الإمكانية، والاستعارة باعتبارها عنصر توصيل تحتل في الخطابة المساحة الشاسعة التي تحتلها في الشعر كل المقومات الأخرى، إلا أن هذه الأهمية التي تحظى بها الاستعارة  في النثر أي في الخطابة لا تقصيها من دائرة الشعر، يقول أرسطو «الاستعارة مهمة جدا في الشعر والنثر على السواء لكن ينبغي على الخطيب أن يوليها أعظم انتباه لأن موارد النثر أقل من موارد الشعر»[15] ذلك أن هذه الوظيفة المعرفية للاستعارة يحللها أرسطو بكثير من الحذق، هذه الوظيفة المعرفية أو التعليمية هي التي جعلته يقارنها بالمضمر والتشبيه، فالمضمر يكون جذابا إذا لم يكن سطحيا ومبتذلا وإذا لم يكن مستغلقا ومبهما، لأنه في الحالتين لا يلقن جديدا وتغدو قيمته المعرفية صفرا، والتشبيه شريك الاستعارة في هذا الدور التعليمي، إلا أنه مع ذلك يحتل بالمقارنة معها مرتبة أدنى، وذلك يعود من جهة إلى كونه أطول وربما أثقل، ويعود من الزاوية الأخرى إلى أن طرفي المقارنة يكونان حاضرين وهذا يعني أن التسمية الاستعارية التي يرتاح لها العقل غير قائمة.[16]

هذه الوظيفة التعليمية المنسوبة إلى الاستعارة وبدرجة أقل إلى التشبيه أمر جدير بإثارة الإعجاب، لأن ما تراكم لدينا من التراث البلاغي العربي والغربي كان دوما ينظر إلى الاستعارة باعتبارها من وجهة نظر شعرية مجرد محسن تزييني للمعنى المجرد أو التقريري وباعتبارها من وجهة نظر حجاجية مجرد أداة خادعة لكل معرقلة لكل عملية معرفية.[17]

وتجدر الإشارة إلى أن الاستعارات بأنواعها تتباين من حيث قدرتها على أداء هذه الوظائف، حيت توصل محمد الولي إلى أن أرسطو كان يلح على الاستعارة التناسبية لأنها أغزر من الناحية المعرفية بالمقارنة مع الاستعارة التصريحة أو البسيطة،إن قدرتها على الإشارة إلى علاقات جديدة لا تضاهى. [18] و من هنا نلحظ كيف ينص أرسطو دوما على الوظيفة التعليمية أو التلقينية للاستعارة فكأن قيامها على تشابه العلاقات لا المواد هو ما يشدد ويقوي إمكاناتها الإقناعية والحجاجية.

كما بين محمد الولي في هذا الفصل أن هناك ارتباط وثيق عند أرسطو بين الأجناس الخطابية والمقومات الحجاجية، ذلك أنه إذا كانت الخطابة القضائية أميل إلى القياس الإضماري نظرا لكونها تتوفر على القوانين وتتوجه إلى جمهور مختص، فإن الخطابة الاستشارية المتوجهة إلى جمهور أشد حركية وأقل ثقافة تفضل الحجاج باعتماد الشاهد الذي يسمح بالتكهن بالمستقبل انطلاقا  من الوقائع الماضية [19] ذلك أن أرسطو أميل إلى الحجاج الإضماري منه إلى الحجاج الشاهدي ،حيث أكد في أكثر من مناسبة أن الحجاج يستند بالأساس  على القياس الإضماري وعلى الشاهد، ويعود لكي يشدد على أهمية القياس أو المضمر والحط من قيمة الشاهد يقول أرسطو: «ينبغي اللجوء إلى الشهود إما لأننا لا نتوفر على المضمرات، وفي هذه الحالة نستعملها باعتبارها حججا برهانية وإما أننا نتوفر عليها، وفي هذه الحالة نعمد إلى الشهود بوصفها خواتم مضافة إلى المضمرات» ويؤكد أرسطو هذا الموقف بعبارته«إن البرهنة الخطابية هي المضمر الذي هو برهان لا يضاهى، والحال أنه من مهمات الجدل باعتباره كلا أو جزءا، فحص كل ما يرتبط بالقياس»[20]

وما نقوله هنا عن المقومات الحجاجية النصية المضمر والشاهد يمكن تعميمه أيضا حسب أرسطو على المقومات العاطفية «الإيتوس» و«الباتوس»، إن الأول أنسب للخطابة الاستشارية، في حين أن الثاني أنسب للقضائية، يقول أرسطو:«إن الفكرة التي نكونها عن الخطيب هي أهم على وجه الخصوص في الاستشاريات في حين أن تهيئ المستمع أهم في المحاكمات القضائية»[21]

ويمكن القول من خلال هذه النصوص أن اللغة لا تقل أهمية فيما يعود إلى الفعالية الإقناعية؛ إن اللغة حاضرة في كل المقومات الحجاجية، فالقياس الإضماري لا يقوم بدون لغة شأنه شأن «الإيتوس» و«الباتوس»، إن اللغة هي أداتها جميعا، ويتمثل هذا الدور الحجاجي للغة أولا  في حرص أرسطو على ضرورة تصفية لغة التخاطب بجعلها بريئة من شوائب الخطأ المعرقل للفهم، وكذلك ينبغي للغة أن تكون مناسبة لمقام المخاطبين من حيث السن والجنس والثقافة والزمان والمكان والموضوع .

كما بين المؤلف المفاصل الكبرى لبلاغة المحسنات على الملامح الكبرى للاستعارة في هذه البلاغة التي يمثلها أحسن تمثيل البلاغي الفرنسي «بيير فونتانيي» ذلك أن الاستعارة وهو يدعوها «مجازات المشابهة»؛ تقديم فكرة ما في دليل فكرة أخرى أشد إثارة للنظر أو أشهر منها، ولا ترتبط هذه بالأولى إلا بعلاقة واحدة هي علاقة تناسب أو تشابه [22] كما تكلم المؤلف عن الاستعارات توخيا للبساطة  من زاوية الأشياء التي نتناولها منها، وعن الأشياء التي نضعها لها وحصرها في صنفين؛ الأول نفسي والثاني مادي،أي الاستعارات حيث الشيئان الماديان الحيان أو غير الحيين يقارن أحدهما بالآخر، والاستعارة النفسية أي الشيء المجرد أو الغيبي، أو الشيء من الطبيعة النفسية يقارن بشيء مادي شيء في متناول الحماس سواء أكان النقل من الثاني إلى الأول أم من الأول إلى الثاني، وتقوم الاستعارة على شروط ضرورية  حيث ينبغي لها أن تكون صادقة ومناسبة ومشرقة ونبيلة وطبيعية ومتسقة.[23]

وعلى وجه الإجمال فإن المحسنات أو المجازات توفر لنا متعة إدراك شيئين مختلفين في لمحة واحدة، الفكرة الأساسية إضافة إلى مصاحباتها إننا نلحظ شيئا في آخر كما يقول أرسطو وهذا يحقق دوما إمتاع الفكر؛ إذ إن التشبيهات والتماثلات تتمتع بتأثير كبير على الخيال، والمجازات لا تقوم إلا على علاقات أو تناسبات من هذا النوع [24]

وختم محمد الولي هذا المبحث المتعلق بالثقافة اليونانية ممثلا بأرسطو ببلاغة المحسنات، فتحدث عن المحسنات اللفظية كالجناس والسجع والأصوات المحاكية أو الرمزية الصوتية، ومحسنات المعنى من قبيل التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز المرسل والتمثيل، ومحسنات التركيب من قبيل التقديم والتأخير والحذف والزيادة والاعتراض والالتفات، ومحسنات العقل وأنواعها الثلاثة؛ فالخطاب قد يبتعد عن الموضوع فنصادف التمثيل، وقد نبتعد عن المتلقي فنصادف الالتفات، وقد نبتعد عن الباث فنصادف خروج الكلام عن مقتضى الظاهر [25] فكان الفرق بين المحسنات المعنوية، والمحسنات اللفظية؛ المحسنات المعنوية بما في ذلك الاستعارة والمجاز المرسل والكناية تقوم على الملاحظة الفعلية للتنافر القائم بين طرفين لفظيين من أطراف العبارة، إن تصادف شقين من السلسلة الكلامية في نفس المركب يجعلنا نقف على تنافر معنوي لا نتجاوزه إلا بتأويل هذا الطرف أو ذاك لكي نكسب العبارة ما يتطلبه المقام من المعقولية المطلوبة في أية عملية تواصلية، وهذه المحسنات اللفظيةو أو ذلك  تستند على القشرة اللفظية الدالية وتقوم أساسا على الدال لا المدلول كما هو الأمر بالنسبة إلى المحسنات المعنوية كالاستعارة مثلا والمحسنات الفكرية، وبالخصوص تلك التي تتطلب التأويل لا نستطيع ضبطها ومعاملتها باعتبارها محسنات إلا بالاستعانة بالمقام بما في ذلك الأشياء المتحدث عنها والباث والمتلقي وما يرتبط بهما من نوايا ومعتقدات ورغبات.[26]

وأما التصور الثاني فهو ذاك التصور الذي مثله محمد الولي بــ «عبد القاهر الجرجاني» محيلا بالأساس على كتابه«أسرار البلاغة»الذي اعتبره أهم دراسة حول الاستعارة في التراثين العربي والغربي والتي جعلها مركز بلاغته، وقد خصها بأوصاف يعز نظيرها في كل البلاغات التي نعرفها؛ فقد وصفها على المستويات المعجمية أو الصرفية والدلالية والتركيبية النحوية والتداولية الباثية أو المتلقية والتاريخية المراعية لعنصر الجدة والطراوة والجمالية، كما التزم نهجا ينشر ظلاله على كل كتاب «أسرار البلاغة»، فإذا كان يقارن بين الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز المرسل والاستعارة  غير المفيدة، فإنه يقدم على ذلك لأجل تعيين حظها من الجمالية أو الفنية، ولهذا فقد كانت هذه العناية هي التي تبعده عن الدائرة الكلامية الذي تقربه من دائرة النقد الأدبي، وكان لهذا السبب ناقدا عملاقا، وهذا التشديد على «الاستطيقا» هو الذي جعله أميل إلى الاستعارة من التشبيه وإلى الاستعارة التمثيلية من الاستعارة غير التمثيلية، وإلى الاستعارة الخاصية من الاستعارة العامية، وإلى الاستعارة التخييلية من الاستعارة التحقيقية وإلى الغموض من الشفافية، وإلى العبارة التصويرية الفريدة من العبارة غير التصويرية[27] فالجرجاني في نظر محمد الولي ناقد عملاق اجتهد في الابتعاد عن الدائرة الكلامية عبر تناوله للاستعارة في بعدها الجمالي والفني ليعطيها حظها من منظور النقد الأدبي، وفي كل الأحوال فقد كانت بلاغة عبد القاهر تسترفد من منابع البلاغيين الإعجازيين أمثال «الباقلاني»ومن نقاد الأدب أمثال «القاضي الجرجاني»ومن منابع النحاة، ولا نجد في عمل عبد القاهر أثرا يذكر للفلاسفة ممن اغترفوا من بلاغة أرسطو، ذلك أن مفهوم التخييل الذي حام حوله في «أسرار البلاغة» لا يمكن أن نراهن عليه لتأكيد هذا التأثر، فلا علاقة لهذا المفهوم حسب محمد الولي بالمفهوم الأرسطي لهذا المصطلح. [28]

منهج المقارنة:

وقد غلب على محمد الولي منهج المقارنة، وذلك بمقارنة نتائج القدماء بما خلص إليه الباحثون البلاغيون الجدد، ونماذج ذلك كثيرة موزعة في بحوثه؛ ومنها مقابلة تقسيم الجرجاني للاستعارة بتقسيم «جوئيل تامين»، و«إيرين تامبا ميكز» «le sens irene tamba mecs» ممثلا لذلك بخطاطة صاغ فيها التصور الاختزالي والتوضيحي للاستعارة، وهذه الأوصاف التركيبية ما كانت لتثير بلاغيا حجاجيا؛ إن المهمات التي يكرس لها اهتمامه هي مهمات وظيفية، وتحليله، إذن هو تحليل تداولي  لا ينصب على تحليل النصوص ولكنه ينصب على تحليل وظائفها الحجاجية[29]

ومواجهة «بيرلمان» نفسه مع غيره من البلاغيين في رفضه اعتبار الفن تصويرا ووصفا زخرفيا للأشياء، في حين أن الحجاجيين يعتبرونه تحفيزا على الفعل، أو هو دعوة لتعديل الفكر على أقل تقدير، بل إن الوصف نفسه عند الحجاجيين أمثال «بيرلمان» له دور إثارة الفعل وليس مجرد زخرف وزينة، لهذا كان الشاهد أقوى في توجيه السلوك من الغائب، ذلك أن الأحداث والأشياء يمكن أن تكون عرضة للإهمال بل للعدم لمجرد عدم ذكرها؛ في حين أن التي تذكر وتوضع تحت الأعين تواجه حسنا وتصبح بذلك مهمة[30]

وأكثر ما يلاحظ على منهج الولي أنه يضع كلام البلاغيين القدامى ممن اختارهم أمام ما يناسبه من كلام بلاغيين معاصرين؛ من ذلك قراءة حديث حازم القرطاجني عن الاستعارة التخييلية «يعرف الشيء بما يحاكيه, أو بما يحاكي ما يحاكيه» [31] ذلك أن ما يحاكي الشيء هو التعبير الحرفي و«ما يحاكي ما يحاكيه» هو التعبير الاستعاري، وهذا التمييز هو نفسه الذي يدافع عنه البلاغيون المعاصرون، تقول جماعة لييج في بلاغة الشعر:«إننا نستطيع أن نميز طرفين في فقرة ما من الخطاب الذي يشتمل على تعديلات متناظرية«المقصود على وجه الخصوص مجازات»: الطرف الأول المتفق مع المتناظرة الأولى أو «الأساس»وتلك التي تنحرف عن هذا الأساس.[32]

هذا التناول للاستعارة هو جديد من حيث أنه يحاول أن يحللها من زاوية نصية أو خطابية، إن الاستعارة هنا تحدد في علاقتها المركبية داخل النص، ويحتفظ الولي لنفسه بمسافة يناقش فيها الآراء حتى وإن بلغ إعجابه بها مبلغا، نأخذ للدلالة على ذلك موقفه من إصرار «بيرلمان» على أن اعتبار كل استعارة في الأصل تناسبا،إنه يشدد على هذه الملامح المعرفية أو الحجاجية وكأنه ينصح بأن تكون الاستعارة متوفرة دوما على عناصر مشابهة، إذ بدونها لا تستطيع القيام بأدوارها الحجاجية، في حين أن التناسب حسب الولي أقرب إلى التشبيه ذلك، إذ  إن المشبه يحضر إلى جانبه ما نعتبره من صفات المشبه به، وكذلك الاستعارة التناسبية التي تتوفر على عناصر تأويلها شأنها شأن التشبيه تبتعد على  هذا الصعيد عن الاستعارة بحصر المعنى، إذ إن هذه تفتح مجالات تأويل غير محصورة، لذلك اعتبر محمد الولي التشبيه والاستعارة تربطهما علاقات وطيدة من هذه الزاوية التأويلية ولكنهما يرتبطان بعلاقة أخرى هامة، وهي أنهما يتوفران أي التناسب والتشبيه على إمكانيات ابتكارية وتأليفية بين المتنافرات وهو ما لا تتطلع إليه الاستعارة بحصر المعنى [33]

وقد تعامل محمد الولي مع عبد القاهر الجرجاني تعاملا خاصا والسبب حسبه أن أغلب ما كتب عنه لا يستجيب لشروط البحث البلاغي العميق وما تزال أغلب مفاهيمه عرضة للسطحية، وحاول إضاءتها بكتاب نافذ ونادر هو كتاب حازم القرطاجني «منهاج البلغاء» [34] معتبرا كتاب «أسرار البلاغة» أهم دراسة حول الاستعارة في التراثين العربي والغربي ولا يستند هذا الزعم على اعتبارات كمية وحسب، إذ إن الاستعارة هيمنت على كل الكتاب، بل ويستند أيضا على اعتبارات نوعية؛ وذلك لكون الاستعارة هي حسب عبد القاهر المقوم الأساسي في نقل المادة المعنوية من حال النثر إلى حال الشعر وما كان هذا ليخطر على بال أرسطو أو فونتايني أو بيرلمان [35]

والواضح في منهج الولي هو الوقوف المطول أمام الأقوال قبل الحكم عليها أو معها، وهو ما أسماه «بحسن التنصت إلى النص وإنصاف القارئ بتزويده بتفاصيل الملف»[36]

ولا يكتفي بالجانب النظري والاعتماد فقط على الكتب والمؤلفات، بل جعل من منهجه أن يقرأ الاستعارة من خلال النصوص الشعرية ذاتها، مبينا نمطا آخر من الحجج الذي لا يكتفي برصد الوقائع وإنما ينسلخ عنها ويحدث فيها تغييرا غير مرتقب أو غير معهود ومن ذلك التأويل لقول المتنبي في سيف الدولة:

فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنت منهم  ///  فإنَّ المِسكَ بعضُ دمِ الغزالِ [37]

لقد استدل المتنبي على احتمال وجود شخص شريف بقامة سيف الدولة وسط الأنام السفلة والمنحطين واعتبر ذلك أمرا طبيعيا ليس بالاقتصار على إثبات هذه الواقعة في حد ذاتها، بل بالربط بينها وبين حدث آخر غير متآلف معه داخل المكان وغير متعاقب معه داخل الزمن، بل بالربط بين حدثين متباينين ولكنهما متشابهان؛ إن كون سيف الدولة الرفيع الطبيعة لا ينبغي أن يدهشنا، إذ أن هناك من يناظر هذا في الطبيعة، إن المسك الرفيع الطبيعة هو أيضا يوجد في مادة خسيسة وكريهة وهي دم الغزال، على أن المتنبي لم يضع هذه الحجة بتعقب التجاور المكاني ولا التعاقب الزمني، بل عمد إلى الربط بين هاتين الظاهرتين خارج هذين الإطارين،  هناك نرصد العلاقات القائمة داخل المكان أو داخل الزمن وهنا نبحث عن المتشابهات، ولهذا فإن العلاقة الأولى لا تبتكر شيئا، في حين أن العلاقة الثانية تبتكر كثيرا؛ العلاقة الأولى علاقة كنائية، والثانية علاقة استعارية، العلاقة الثانية نثرية عقلية والعلاقة الأولى شعرية خيالية [38]

كما دمج محمد الولي بين ما قرره «الجرجاني» من خلال عرض أهم المحطات التي سلكتها البلاغة العربية القديمة والاستعارة خاصة، وبين ما وصلت إليه بحوث علماء البلاغة الغربيين، وعلماء الحجاج منهم على وجه الخصوص «شاييم بيرلمان» كونه أخرج البلاغة من قيود النظرة الأرسطية التي حصرتها في نطاق المحسنات البيانية أو الشعرية وخصها بمكانة مرموقة مستحضرا في هذا السياق مقطعا مهما يقول فيه:

«إن أي تصور للاستعارة لا يلقي الضوء على أهميتها في الحجاج لا يمكن أن يحظى بقبولنا، إلا أننا نعتقد أن دور الاستعارة سيتضح أكثر بربطه بنظرية التناسب الحجاجي، إننا لا نستطيع في هذه اللحظة وصف الاستعارة إلا باعتبارها على الأقل من وجهة نظر فيما يتعلق بالحجاج تناسبا مكثفا ناتجا عن ذوبان عنصر المستعار منه في المستعار له»وينطلق هذا التحديد الأولي من التحديد الموروث عن أرسطو وهو التعريف الذي يقدمه في كتابه الشعر، إنها في رأيه نقل اسم شيء إلى شيء آخر؛ فإما أن ينقل من الجنس إلى النوع أو من النوع إلى الجنس أو من نوع إلى نوع أو ينقل بطريق المناسبة [39]

ومن المناسبات الأساسية  التي تفرض فيها وظيفة الإمتاع الناتج عن المحسنات لحظة الصياغة اللفظية أو اللغوية،يتمثل ذلك في الانتقال باللغة من مهمة الامتثال لصرامة القواعد اللغوية وقيود المناسبة المقامية إلى الاستسلام لنداء الوظيفة الجمالية التي يمكن أن تتنكر للقيدين اللغوي والمقامي [40] يقول أرسطو متحدثا عن البعد الجمالي أو التغريبي للعبارات التحسينية:«إن الانزياح أو المحسن يجعل العبارة أشد ظهورا، والواقع أن الناس يحسون إزاء العبارات بما يحسون به إزاء مواطينهم أو الغرباء، لهذا ينبغي أن نكسب الكلام التغريب لأن ما هو بعيد يحظى بالإعجاب»[41]

ومن المصطلحات التي تترجم ذلك التداخل في الوظائف: المجاز الضروري أو الوظيفي؛ هذا المجاز «تدعو إليه الحاجة حيث نسعى إلى تغطية فراغ ما لغوي» [42]

وأما التصور الثالث فذاك الذي مثله محمد الولي بــ«شايم  بيرلمان» الذي أخرج البلاغة من الإطار الضيق الذي حاصر البلاغة القديمة، ويتمثل ذلك في الخروج عن الأجناس الخطابية الثلاثة؛ الاحتفالية والخطابية والاستشارية، لقد أعاد «بيرلمان» تحديد مجال البلاغة إذ أصبح ممتدا من الكلام العادي اليومي العائلي إلى مجال خطاب العلوم الإنسانية كالتاريخ واللاهوت والأدب والفلسفة، أي كل أشكال الخطاب التي تسمح بالبرهنة الرياضية والبرهنة التجريبية، وهذا يعني خروج «بيرلمان» من الإشكالية الضيقة المرتبطة بعصر أرسطو وبالإشكالات السياسية الخاصة بالمجتمع الأثيني والديمقراطية الأثينية[43]

ذلك أن الثورة التي أثارها «بيرلمان» تتمثل في التعديل الذي أحدثه في النظام الأرسطي، وبالخصوص في التمييز بين الحجج المنطقية logos، والحجج المرتبطة بطبائع الخطيب ethos، والمتلقي pathos وبين الأساليب الخطابية، ذلك أن التمييز الأرسطي بين الحجج والمحسنات الأسلوبية يتهاوى أمام الاختبار الدقيق، إننا نفاجأ بالشبه البعيد والمثير بين  المقارنة والاستعارة، إنهما معا يقومان على المشابهة أي على النظر إلى شيء من خلال شيء آخر  شبيه، وهذا التصور التمييزي الذي احتفظت به كل البلاغة العتيقة بين المقومات الحجاجية والمقومات الأسلوبية الزائدة أو التزيينية هي التي تفرغ لها «شايم بيرلمان»، لقد سهل عليه المهمة، تبنيه لأطروحة أساسية وهي تسليمه بأن كل المقومات التي اعتبرت عند المتقدمين مجرد محسنات هي عنده مقومات حجاجية إقناعية، وهذا هو الذي ساعده على تلافي خطأ أرسطو الذي تحدث عن الاستعارة في مبحثين اثنين وهما؛  اعتبارها تارة مقوما حجاجيا تحت تسمية الشاهد،واعتبارها محسنا لفظيا في مبحث آخر، وقد تمكن «بيرلمان» من سد هذه الثغرة بالتمييز بين أربعة أنماط من المقومات الحجاجية:

– الحجج شبه المنطقية.

 – الحجج القائمة على بنية الواقع.

– الحجج المبنية للواقع.

– الحجج المبنية على فرز المفاهيم [44]

وهذا يعني عدم حصر الاهتمام بأجناس الخطاب الثلاثة وكل ما يتعلق بها من مواضع خاصة وهي تشغل الجزء الكبير من خطابة أرسطو، وإذا كان «بيرلمان» قد أبطل المواضيع الخاصة باعتبارها مسلمات مقبولة في مجال خطابي متميز فإنه قد احتفظ بالمواضيع العامة باعتبارها رافد أي خطاب، إلا أنه أدرجها ضمن مباحثه المتعلقة بأجناس مسلمات الحجاج الأربع ألا وهي الوقائع أو الحقائق والشائع؛ أي «ما يحدث في العادة» والمستحسن «حيث لا نتعامل مع الأشياء على قدم المساواة»والمراتب من نفس الجنس« إن ألما ضعيفا مفضل على ألم قوي»أو من جنس مغاير «إن حب الحقيقة مفضل على حب أفلاطون» والمواضع العامة التي هي بديهيات عامة جدا يمكن أن تكون موضع قبول عند كل الناس [45]

وأهم تحويلات «بيرلمان» للبلاغة القديمة تتمثل في الخطاطة التي يقترحها لأنماط الحجج؛ وهذه الأخيرة يميز فيها بين جنسين كبيرين: الأول: هو الحجج الانفصالية حيث يتم الحجاج بما هو مخالف ومباين، وهنا يطرح «بيرلمان» الجزء الأكبر من مشروعه يميز فيه بين الحجج شبه المنطقية وهي تلك التي تقبل الصياغة الصورية أو المعتمدة أو الأوزان والقياسات والاحتمالات، والحجج القائمة على بنية الواقع أي الحجج التي تستند على ترابطات الوقائع وتوزعها في المكان أو الزمان أو في التعالقات الرمزية؛ إنها الترابطات الكنائية المستندة على ملاحظة ما هو قائم  [46]

 لقد استطاع «بيرلمان» لم شتات خطابة أرسطو بحشد كل المقومات الاستعارية تحت نفس السقف ، ألا وهو سقف الحجج الاتصالية القائمة على إعادة بناء الواقع، والتسميات التي خص بها الاستعارة هي الاستعارة والتناسب والشاهد، إلا أن السمة المميزة للاستعارة  عند «بيرلمان» هي قدراتها الحجاجية لقد كفت عن أن تكون مجرد محسن من المحسنات الترفية، إنها لا تغدو كذلك إلا حينما تفشل في أداء وظائفها الحجاجية، وهذا الجانب الحجاجي هو الذي جعله يختزل كل استعارة إلى تناسب، وهو المقوم الذي يجعله ملازما للحجاج. [47] ويؤكد «بيرلمان» هذه الفكرة بقوله:«إن القوة الحجاجية لهذه الاستعارات تعود إلى كونها تستخلص تأثيراتها من المادة التناسبية التي تقبل بسهولة، إذ إنها ليست معروفة وحسب بل إنها مندرجة بفضل اللغة في التراث الثقافي»[48] و«بيرلمان» يعتبر التناسب أشد فعالية في الإقناع وهو يتفوق في هذا المجال عن الاستعارة بحصر المعنى، أي تلك التي تتحقق فيها خاصية انصهار الموضوع في الشبيه، إن هذا الجنس الانصهاري أقل إقناعية وأشد غموضا، ولهذا فهو أكثر مناسبة للشعر لا الحجاج،  وحسب ما ذكر«محمد الولي» فإن «بيرلمان»يعتبر التناسب هو الأصل ربما لكفاءته الحجاجية، ويعتبر الاستعارية الانصهارية مجرد فرع، إن التناسب وبسبب صيغته شبه الرياضية يفرض الإقناعية لأن الأمر يتعلق بتشابه العلاقات لا المواد والجواهر[49]

لأجل كل ماسبق نقول إن محمد الولي في كتابه الموسوم بــ«الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية» قد أحاط بموضوعه من جوانبه جميعا؛ تاريخه ومسار تقدمه في الدارسات، وأبرز محطاته القديمة والمعاصرة، العربية والغربية ممثلا لذلك بما يناسب من نصوص وآراء ومؤلفات ذات قيمة علمية عالية وتحديدا النصوص البلاغية العربية القديمة، الذي جعله يحصر دائرة اشتغاله في عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني، مما جعل بحثه يتصف بالتركيز والعمق،  وأن قراءته للمنتج البلاغي الخاص بالاستعارة يصب في إطار مشروع تجديدي بلاغي، ومما توصلنا إليه؛ أن المنهج الذي اتبعه محمد الولي لقراءة الاستعارة مكنته من أن يستنج أن مفهوم البلاغيين العرب القدامى لها مفهوم متقدم يلتقي مع أحدث النظريات والتصورات الحجاجية والبلاغية، كما أنه يعيد قراءة المفاهيم ولا يقف عند حدود مقارنة ما هو عربي بما هو غربي، بل يقدم أيضا مواقف النقاد العرب ويعيد تقييم آرائهم فيها، ويضع  نصوصهم على ميزان النظريات المعاصرة دون انفعال يحيل على أنه مع أو ضد، فهو يجعل القارئ يشكل موقفه الخاص دون أن يحس أنه مدفوع إليه، وتلك غاية سامية تدل على أنه ناقد تبنى مشروع الإحياء سعيا وراء مشروع بلاغي عربي معاصر وتحديدا في شقه المتعلق بالاستعارة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 الهوامش:

[1] الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، محمد الولي، منشورات دار الأمان الرباط، ص: 481.

[2] الاستعارة في محطات يونانية ص:15.

[3]الاستعارة في محطات يونانية ص:21.

[4]الاستعارة في محطات يونانية ص:28.

[5]الاستعارة في محطات يونانية ص:61.

[6]الاستعارة في محطات يونانية ص:62-63

[7]الاستعارة في محطات يونانية ص: 63.

[8]الاستعارة في محطات يونانية ص: 64.

[9]الاستعارة في محطات يونانية ص: 64.

[10]الاستعارة في محطات يونانية ص: 88.

[11]الاستعارة في محطات يونانية ص: 58.

[12]الاستعارة في محطات يونانية ص: 92.

[13]الاستعارة في محطات يونانية ص: 96-97.

[14]الاستعارة في محطات يونانية ص: 88.

[15] الخطابة، أرسطو طاليس، ترجمة عبد الرحمان بدوي، دار الشؤون الثقافية العامة، آفاق عربية 1986وبغداد 1986، ص:197-198.

[16] الاستعارة في محطات يونانية ص:90

[17] الاستعارة في محطات يونانية ص:91

[18] الاستعارة في محطات يونانية ص:92

[19] الاستعارة في محطات، ص:55

 [20] الاستعارة في محطات، ص:55

[21] الاستعارة في محطات، ص:56 

[22] الاستعارة في محطات، ص: 153-154.

[23] الاستعارة في محطات، ص: 155.

[24] الاستعارة في محطات، ص: 156.

[25] الاستعارة في محطات، ص: 484.

[26] الاستعارة في محطات، ص: 158.

[27] الاستعارة في محطات  484-485.

[28] الاستعارة في محطات 486

[29] الاستعارة في محطات، ص: 466.

[30] الاستعارة في محطات، ص: 468.

[31] منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، ص:29

[32] الاستعارة في محطات، ص: 327.

[33] الاستعارة في محطات، ص: 463.

[34] الاستعارة في محطات، ص:9

[35] الاستعارة في محطات، ص: 173.

[36] الاستعارة في محطات، ص 12.

[37]ديوان أبي الطيب المتنبي، بشرح عبد الرحمن البرقوقي، 2/110.

[38] الاستعارة في محطات، ص: 455.

 [39]الاستعارة في محطات، ص: 459.

[40]الاستعارة في محطات، ص: 116

[41]الاستعارة في محطات، ص: 144.

[42]الاستعارة في محطات، ص: 144.

[43] الاستعارة في محطات، ص: 490

[44] الاستعارة في محطات، ص: 453.

[45] الاستعارة في محطات، ص: 491.

[46] الاستعارة في محطات، ص: 492.

[47] الاستعارة في محطات، ص: 493.

[48] الاستعارة في محطات، ص: 469.

[49] الاستعارة في محطات، ص: 470

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق