وحدة الإحياءدراسات عامة

قراءة في النقاش الدائر حول القطع والظن في العلوم الإسلامية

 ليس الهدف من هذه الدراسة الدفاع عن غريق، أو الانحياز إلى فريق، في قضية أشربت في مسائل العلوم، وهي قضية القطع والظن، وليس من أهدافها حصر النقاش واستقراء المجالات التي كانت ميدانا له. قراءتي لهذا النقاش تبدأ بالحديث عن الخلاف، فأقول:

الخلاف بين العلماء جزءٌ من الفن الذي جرى فيه ونشأ معه، لا يمكن إغفاله بحالٍ؛ لتعلقه بالقواعد والقوانين المعرفية لذلك الفن، ولما يترتب عليه من وجود مذاهب وآراء، ومناقشات ومناظرات، واعتراضات وتعقيبات، وردود ونقود وجدال، وغير ذلك من أوضاع الخلاف الفكري في المعارف والعلوم؛ ولذلك وجدنا كثيرا من بواكير التأليف ذات صبغة حجاجية.

ولكلِّ خلافٍ علميٍّ مُعتبرٍ سياقُه وأسبابُه، كما أنَّ المعارفَ والعلومَ تقتضيه؛ لتعذُّر الاتفاقِ في كلِّ قضيةٍ قضيةٍ، ومن هنا اهتم العلماء المتقدمون والمتأخرون بدراسة القضايا الخلافية وإنضاجِها، وتصحيحِها وتوجيهِها، ونقل أسبابها ومُسَبِّباتها، ونسبةِ الآراء إلى أصحابها، وتفسير مواقفهم، وتعليل اختياراتهم، وتخطئةِ ما نُسب إلى المخْتَلِفِين على وجه الخطأ، وغيرِ ذلك من مقتضيات البحث في الخلاف، مع الحرص على إدراج هذا النوع من الدرس في مؤلفاتهم ضمنا أو استقلالا في شتى فروع المعرفة، والتراث الإسلامي غنيٌّ بذلك.

 فهو، بهذا الاعتبار، منقودٌ من داخله، وقراءتُه تستلزم الوقوفَ عليه وفَهْمَه، وَفق أصول كل فن ومعارفه، وفي هذا غناءٌ عن كثيرٍ من النقاش المستأنَف؛ إذ من مظاهر الاجترار العلمي الذي شغل الدارسين اليوم نصبُ الخلاف فيما لا فائدة تحته، وحكايةُ أقوالٍ متعددةٍ لفظاً، يرجعُ حاصِلُها إلى قولٍ أو قولين معنىً، فالمشتغلُ بذلك قد ضيَّع الزمانَ، وأكثرَ مما ليس بصحيحٍ، فهو كلابس ثوبي زور.

ولذلك فمن المفيد أن أشير في بداية هذه الدراسة إلى أن من جملة التحديات التي يواجهها الدارسون اليوم؛ تغلغلُ القراءاتِ البعيدة عن حقيقة المعارف المتداولَة في التراث، وعدم الحفاظ على لغة الفنون؛ إذ لكل فن لغة، وهذه اللغة إنما تُكتسب بالتلقي لا من الكتب.

 والأصل أن قراءةَ التراثِ مقيدةٌ بضوابط فهمه، ومن ذلك ضبطُ معاني المفردات والاصطلاحات في الاستعمال، خصوصاً عند الأقدمين؛ لأن عدم ضبط معاني تلك المفردات والاصطلاحات، خلقَ التضييقَ بدلَ التدقيق، وأحدث في الساحة العلمية كثيراً من النقاشات والصراعات، وأغلبُ ذلك راجعٌ إلى استمساكٍ بالظاهر، فأدَّى إلى غموضٍ أو تناقضٍ في المعنى، وهذا لم تسلمْ منه، أيضا، نقولُ بعض العلماء، لكن يُعرفُ بالاستقراء، ولأن تفسيرَ النص، ومن ذلك تفسير كلام العلماء، لا يتوقَّفُ على تفسير ظاهره، وإنما لابد من الاهتداء إلى إدراك غرض المؤلف.

ثم إن مسلّمات العلوم والمعارف المتفق عليها لا تُعزى لعالم معيّن حين الحديث عنها؛ لأنها أصبحت ملكا مشاعا، لا تختص بمن قالها، وإنما يجب العزو في حال الاختلاف، ويرد تحقيق نسبة الأقوال في الخلافيات.

ومن نقول العلماء التي فسرت على ظاهرها، ما ذكره الزركشي في البحر المحيط[1]، نقلا عن الجويني، أن الشافعي كان يسمي الظاهرَ نصّاً، مع علمنا بالمغايرة بينهما يقيناً، والواقع أن الإمام الشافعي إنما لمح فيه المعنى اللغوي، كما قال ابن برهان في الوجيز، فإن النص لغة هو الظهور، ونظير هذا اصطلاح الأقدمين على أن التخصيص نسخٌ.

ومن جنس ذلك، عدم ضبط المقصود بالقطع والظن في كلام العلماء في كثير من فروع المعرفة، وعدم فهم سبب الخلاف في كثير من المسائل التي جرى فيها ذكر هذين اللفظين و مشتقاتهما، ولأجل مثل هذا وضع العلماءُ كُتُباً في اصطلاحات الفنون، وأخرى في الخلاف، والفرق بين النوعين أن الخلاف يكشف دوران المصطلح في الاستعمال وتَقَلُّبه على وجوه.

ولابد أن أهنئ في هذا السياقِ مؤسسةَ مبدعٍ في الدراسات المصطلحية في تجربتها العلمية المنهجية، انطلاقاً من تجربة مُبدعها الدكتور الشاهد البوشيخي مع مصطلحات النقد العربي لدى الشعراء الجاهليين والإسلاميين.

ومن بواكير الأعمال التي أشرف عليها، وتتصل بموضوعنا، ونشرتها هذه المؤسسة، الدراسةُ المصطلحيةُ التي قام بها، الدكتورُ حميد الوافي حول مفهومِ القطع والظن وأثره في الخلاف الأصولي، وهي دراسة تعنى ببعض أهداف هذه الدراسة التي حرّرتها وأجملتها: أشتاتاً ونماذجَ منسجمةً في أفكارٍ تُعنى بأهم مثارات النقاش الدائر حول القطع والظن في العلوم الإسلامية من غير ترتيب، ولم يقع القصد بها أن يُبتغى التتبع التفصيلي لكل نقاشٍ في الموضوع، وفي سائر العلوم الإسلامية، وإنما أردت ألا تخلو من لمحة علمية دالة صالحة.

أما دراسةُ الدكتور حميد الوافي، فأولُ ما أثارني فيها هو عنوانُها الذي يتفق تماماً مع ما أشرت إليه آنفاً من ضرورة استحضار كتب الخلاف في دراسة وفهم جريان المصطلح، وهذه الدراسة أفادتْ في بابها إفادةً كبيرةً، وفيها نتائجُ قيِّمة، وامتازت بجِدَة مباحثها، وكَشْفِها عن جريان مصطلحي القطع والظن في استعمال الجويني والغزالي والشاطبي، وإن تخلَّلها بعضُ الفوت في مصادر الإحصاء، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ؛ لأن النماذجَ المختارةَ متباعدةٌ في الزمن، وهذا التباعدُ يقتضي إحصاءَ مجموعةٍ كبيرةٍ من المصادر المتوفرة فوق ما اختاره الباحث، وإن كان قد برّر موقفَه بأنه لم يكن بانياً فيما اختاره على القطع يقيناً، وإنما حرصاً على الغالب تقريباً[2].

والقطع والظن طريقان لبناء المعرفة وترتيبها، ومسلكان في تحليل طريقةِ تحصيلها، ودرجاتٌ ومراتبُ في تحقيقها وتحقُّقِها، وقد يُعبّر عن القطع ببعض مشتقاته، كما يُعَبّرُ عنه بالعلم، أو اليقين، أو الجزم، أو نفي الاحتمال، أو انتفاء النقيض، وقد يُعَبِّرُ عنه البعضُ بالظن الغالب.

 ويُعَبَّرُ عن الظن بخلاف العلم، أو خلافِ اليقين، أو الاعتقاد الراجح.

والقطع يُعبَّر به عن المعرفة اليقينية، والمستفادة من البراهين اليقينية سواء أكانت تعتمد حُججا عقلية أو نقلية، والظن يُعبَّر به عن المعرفة الظنية، والمستفادة من الأمارات المرجِّحة لها.

هذا ما يبدو في ظاهر الكلام حسب طريقةِ المتكلمين في الاستعمال، ومنهجِهم في تمييز مواقع القطع من الظن، لكن اتباع الظَّنِّ المستنِدِ إلى عِلْمٍ هو اتباعٌ للعلم لا للظن؛ لأنَّ ترجيحَ ظنٍّ على ظنٍّ لابد له من دليل، فيكون ترجيحُه مستنداً إلى علمٍ ودليلٍ، فاتباع الظن الراجح اتباعٌ لما عُلم رُجحانُه، فيكون اتباعاً للعلم لا للظن، وهو اتباعُ الأحسن، قال تعالى في سورة الزمر: ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (الآية: 52).

وفي المقابل ذَمَّ اتباعَ الظنِّ المُجَرَّدِ الخالي عن العلم، قال في سورة النساء: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ﴾ (الآية: 156)، فنصب لأن العلم ليس باتباع الظن، وإنما الاتباع مصدر اتبعوا اتباعا، فكأنه قال: إلا أنهم يتبعون الظن اتباعا.

وقال أيضا: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ (النجم: 23)، وقال أيضا: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (يونس: 36).

والقطع والظن مفهومهما واستعمالهما، كما ذكرتُ آنفا، من أسباب الخلاف، وللعلامة الطيِّب ابن كيران ت1227ﻫ لطائفُ دقيقةٌ في ضبط المقصود باستعمال القطع والظن[3]، ومتى يُراد بالعلم الاعتقادُ الجازمُ المطابقُ الثابتُ؟ ومتى يرادُ بالظن الاعتقادُ الراجح؟ ومتى يُراد بالشك ما يقابلُ اليقين؟ إلى غير ذلك من وجوه الاستعمال، وذلك في تقييده الخامس في تفسير هذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾..

 فأبان عن فائدة زائدةٍ في صرف الشك والظن والجزم لشبهةٍ فاسدة، ترجع إلى الجهل المركب، والتقليد المحض، كما في وَصْف المبطلين في هذه الآية بالشاكين الظانين، مع أن مرتبةَ الشك ليست هي مرتبةُ الظن؛ ولكن سوّغَ ذلك حالُهم الذي لا ينحصر في الشك أو الظن، بل قد يكون جزءاً عن جهلٍ مركب، أو عن تقليدٍ يقبلُ التشكيك، وبالغَ السياقُ في نفي العلم عنهم مطابقةً والتزاماً؛ ليفيد أنَّ العلمَ اليقينيَّ فيه هو ما أنبأ اللهُ به ورسُولُه، وقابل بين العلم وبين ما عندهم؛ ليفيد أنه ليس بعلمٍ، وسماه كذِباً في آل عمران في قوله: ﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ إلى قوله: ﴿فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (ءال عمران: 59-60).

 وذلك جارٍ على ما ذكره أئمةُ أصولِ الدين وأصول الفقه من أن العلمَ لا يعارضه ما دونه من المراتب، بل يُطرح ما دونه في مقابله ويكون ما دونه كذبا؛ لأن العلم اليقينيَّ لا يُجامع الكذبَ ولا يَصِحُّ تخلُّفُ متعَلِّقِه عنه، والوهمُ، والشك، والظن، والجهل المركب، والتقليدُ، يصح كذِبُها وتخلُّفُ متعلِّقِها عنها…إلخ كلامه[4].

وموضوع القطع والظن في بناء المعرفة، هو كغيره من المعايير والبراديغمات التي تُختبر بها المعارف، وتُقاس وتُزَن كما هو معروف في المنهج الكلامي، نهجوه في تصنيف طرق الاستدلال في مصنفاتهم، ونفذ إليهم من علم المنطق، إلى أصول الفقه، إلى سائر العلوم الإسلامية، ولاسيما في المسائل المشتركة.

 ولأن كلَّ علمٍ بأدلته، والأدلةُ يعتريها القطعُ والظن، وقد صار تصنيفُ الأدلةِ ومناقشتِها، بهذا الاعتبار، متداولاً في العلوم الإسلامية وَفق النزعة العقلية التجريدية، ومُدوناً في الكتب والمصادر على ذلك الوصف، ويُفترض في الدارس أن يكون مُطلعا على ذلك، مُستوعباً له ما أمكن.

وهذا البناء المنهجي المنتزعُ من طريقة المناطقة في التمييز بين الأدلة العقلية بحسب قوة مدلولها، ساهم في توليد كثيرٍ من الخلاف في كثيرٍ من مباحث العلوم الإسلامية، وهو معروف في مباحث أصول الفقه بشكل أجلى وأوضح حتى بين المتكلمين أنفسهم.

وعبارات الأصوليين في بيان ذلك طافحة في كتبهم، من ذلك قول الغزالي في مبدأ اللغات ونشأتها: “أما الواقع من هذه الأقسام؛ فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي، أو بتواتر خبر، أو سمع قاطع، ولا مجال لبرهان العقل في هذا، ولم ينقل تواتر، ولا فيه سمع قاطع، فلا يبقى إلا رجم الظن”[5].

فالمادة المكونة لأصول الفقه، مثلا، تأثرت منهجيا بالمنهج الكلامي والمنطقي في تصنيف الأدلة وطرق الاستدلال بها بحسب القطع والظن، حيث تواضع المتكلمون على التفريق بين ما يفيد القطع، وما يفيد الظن، فاصطلحوا على الأول بالدليل، وعلى الثاني بالأمارة، ثم انتشر القول به وإعماله في تقييم الأدلة الأصولية، وغدت عبارة الأصولي مركبة على هذا التقييم في أغلب المباحث وأكثر المسائل.

وأغلب القول بالقطع والظن واقع في سياق الكلام على الأدلة ومدلولاتها حيثما وردت كما مر، وفي هذا السياق، يرد الحديث عن انقسام تلك الأدلة إلى نقلي وعقلي، لكن جملة الأدلة الشرعية ترجع إلى النقل أو السمع، ومطلوبها يستفاد من المعرفة المستندة لصريح المعقول وصحيح المنقول، وهي المعرفة الصحيحة المتكاملة؛ للاتفاق على أن العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح أبدا.

 وهذا مستفاد أيضا من الجمع بين القراءتين، الذي تسعى إلى تأكيده وترسيخه هذه الندوة المباركة في محورها الأخير؛ أي الجمع بين قراءة الوحي وقراءة الكون في بناء المعرفة، والقرآن والسنة فيهما من الأقيسة والأدلة العقلية ما قد يَذهل عنه الكثير من الناس، أو يَعرض عنه لمجرد كونه قد انقدح في ذهنه أنهما إنما يدلان بطريق الخبر فقط.

وإذا كان المنهج الكلامي قد صنّف الأدلة ومدلولاتها بحسب القطع والظن، فهو تصنيفٌ تُعرف به القوة الدلالية بحسب العقل، وهو تصنيف حسنٌ ومقبول من حيث المبدأ، وإنما الاختلاف في أثره بحسب الاختلاف في المتعلقات المنهجية والمؤثرات المذهبية.

وأثر موضوع القطع والظن في أصول الفقه أجلى وأوضح؛ لأن مداره على الأدلة، ويبحث فيها من جهة الثبوت والدلالة، والقطع والظن هو مُجلّى ذلك البحث المقصود منه التحري وتنظيم الفكر الاجتهادي، وغاية القول بالقطع والظن هو تمييز المقطوع من المظنون من جهة الثبوت، وتقديم الأول على الثاني من جهة الدلالة.

ويُعبّر بالقطع والظن في الأدلة من جهة الدلالة وما تفيده في الأعم والأغلب، وأغلب الخلاف في أثر ذلك، أو في فهم المقصود من كلام العلماء كلاميين وغيرهم. ويُعبّر عن القطع والظن في الأدلة من جهة الثبوت بالتواتر والآحاد في الأعم والأغلب، ولا خلاف في ذلك معتبر.

وهذا التنظيم الفكري في بناء المعرفة يلقانا أيضا في سائر العلوم الإسلامية في قضايا كثيرة ناقشها أهل العلم باعتبار القطع والظن؛ ففي علم أصول الدين، يلقانا النقاش الدائر في بعض الأسئلة الواردة، من مثل: هل يكفي في مسائل أصول الدين الظن؟ وهل التواتر شرط في ثبوت العقيدة؟

ولا شك أن استحضار الأصول الفكرية في النقاش الدائر في أصول الدين، كاف في الكشف والبيان عن رأي المخالف والموافق، فأغنى ذلك عن التمثيل، والاستطراد والتطويل.

وفي علم أصول الفقه، يلقانا النقاش الدائر في مسائل عديدة، من مثل: العمل بالقطع، هل هو عمل باعتقاد الرجحان، أو برجحان الاعتقاد؟ وهل نصوص الكتاب والسنة تفيد القطع؟ أم تفيد الظن؟ أم تفيد القطع والظن؟ وهل الفقه ظنون؟ وهل تصنيف طرق الاستدلال بحسب القطع والظن صحيح؟ وهل خبر الواحد مظنون من جميع الوجوه، أم ليس بمظنون من كل وجه؟ وهل أخبار الآحاد تفيد العلم؟

وبعضُ الخلاف لفظيٌّ، وسؤاله عقليٌّ، من مثل النقاش الدائر في نوع العلم الذي يفيده الخبر المتواتر، هل هو ضروريٌّ أم نظريٌّ؟ لأن القائل بأنه ضروريٌّ لا ينازع في توقفه على النظر، والقائلُ بأنه نظريٌّ لا ينازع في أن العقل يضطر إلى التصديق به[6].

وكلام الأصوليين عن المتواتر والآحاد، وما يفيد كل واحد منهما هو كلام عن الخبر بوجه عام، سواء كان المراد به السنة أو أقوال الصحابة والتابعين أو كلام سائر الناس؛ لأن مرادَهم هو البحثُ في الخبر الذي يُمكن أن يُحتج به، ومعرفةُ قطعيته أو ظنيته ثبوتاً ودلالةً، وهذا يندرج عندهم ضمن البحث في الأدلة، والبحث في الأدلة عندهم أوسع وأشمل من مجرد البحث في نوع واحد.

وبناء على هذا المعيار يمكن أن نفهم الخلاف في إفادة خبر الواحد العلم، والخلاف فيما يتصل بالخبرين؛ نسخا أو تخصيصا أو تقييدا إذا تفاوتا باعتبار القطع والظن، أو تفاوتا فيما يوجب العلم أو العمل، كما يجب تمييز كلام العلماء في مناقشة مثل هذا باعتبار كلامهم في سياق الوقوع الشرعي أو في سياق الجواز العقلي.

ثم إن تقسيم الأصوليين للسنة إلى متواتر وآحاد بالنظر إلى عدد الرواة، هو تقسيم صحيح، ومعيار صريح، ولا شك في اعتماده؛ لأن تحقق التواتر بكثرة العدد هو محل اتفاق، لكن أغلب النقاش الدائر في هذا الباب كان بالنظر إلى تعلق الأحكام به، ومن هذه الجهة اعتبره بعض العلماء تقسيما فاسدا؛ لأن الأدلة الشرعية الكلية لم تفرق بين المتواتر والآحاد في الاحتجاج والاتباع والعمل.

وبالرغم من ذلك؛ فلا يحسنُ أن يكون خبرُ الواحد وإفادتُه للعلم محلا للنقاش والإكثار من الجدال، وربط ذلك بأصول الدين، وجعله دليلاً على منهج الإنسان وعقيدته؛ إذ لا علاقة لهذه المسألة بالعقيدة، ولأن العلماءَ متفقون في الجملة على أن خبرَ الواحد يفيد الظن؛ ولأن قول الجمهور بأنه يفيد الظن، ليس على إطلاقه، ولأن قول جماعة أهل الحديث وأهل الظاهر بأنه يفيد العلم، محمول على اعتبار القرائن. فالخلاف في هذه المسألة خلافٌ لفظي ومحتملٌ وسائغ، ومما يدل على ذلك ما يلي:

أولا؛ اتفاق العلماء على وجوب العمل بخبر الواحد، ولم يخالف في ذلك سوى طوائف شاذة لا يعتد بخلافها.

 فمن قال إن خبر الواحد يفيد العلم، فهذا أمر واضح؛ لأن العلم والقطع واليقين يوجب العمل.

ومن قال إن خبر الواحد يفيد الظن، قال بوجوب العمل به؛ لأن كثيرا من الأحكام الشرعية ثبتت بطريق الظن لا بطريق القطع، والأمة مجمعة على وجوب العمل بالظن.

ثانيا؛ اتفاق العقلاء قاطبة على أن خبر الواحد في كلام الناس يفيد الظن.

ثالثا؛ اتفاق العلماء على أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به القرائن، ولا يُلتفت ههنا إلى قول المخالف الذي لا يفيد العلم عنده إلا العقل.

رابعا؛ اتفاق العلماء على أن خبر الواحد في الحديث النبوي يفيد العلم إذا احتفت به القرائن.

خامسا؛ إن القرائن التي تُزن بها قوة الأدلة، هي قضية اعتبارية نسبية متفاوتة، والعبرة في كل علم بأهله، فإذا قال أصحاب الحديث: هذا الحديث يفيد العلم؛ لأنه قد احتفت به قرائن، وأنكر هذا المتكلمون أو الأصوليون، فإن هذه القضية نسبية، لكن العبرة في كل فن بالمتخصصين فيه.

وبناء على ذلك، فالقول بأن خبر الواحد يفيد الظن، قولٌ باعتبار الخبر في ذاته، لا باعتبار قرائنه؛ لأنه حيثما احتف عندهم الخبر بالقرائن، رفعته درجة.

وقول جماعة من أهل الحديث وأهل الظاهر بأن خبر الواحد يفيد العلم، قولٌ باعتبار ما احتفّ به الخبر من القرائن ولفّه؛ ولأن الحديثَ المجرد عن ذلك غيرُ موجود عندهم.

وفي علم القراءات، يلقانا النقاش الدائر في بعض الأسئلة الواردة، من مثل: هل التواتر شرط في ثبوت القراءة؟ أو هل التواتر شرط في صحة السند؟ وهل تجوز المفاضلة بين القراءات الثابتة؟ وهل كان بعض الأئمة كالطبري يرد بعض القراءات المتواترة؟.. إلخ.

على أن منشأ الخلاف في مثل هذه المسائل في علم القراءات مرتبطٌ بالخلاف في موضوع العلاقة بين القرآن والقراءات، هل هما حقيقة واحدة أم حقيقتان متغايرتان؟

قال الإمام الزركشي في البرهان[7]: “واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد، صلى الله عليه وسلم، للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما”.

 وقد اقتفى أثر الزركشي في هذا الشيخ شهاب الدين القسطلاني في لطائف الإشارات لفنون القراءات[8]، والشيخ الدمياطي في إتحاف فضلاء البشر[9]، وارتضاه من المحْدثين الدكتور صبحي الصالح[10] والأستاذ إبراهيم الأبياري[11] ومحمد الآصفي[12].

وذهب ابن دقيق العيد إلى اعتبار القرآن والقراءة حقيقة واحدة، فقد نقل عنه ابن الجزري في منجد المقرئين[13] أنه كان يجوز القراءة بالشاذ، ويرى شرعية التعبد بها.

والذي يهدي إليه النظر ويرشد إليه التأمل، وتقوم له الدلائل القول الأول، وبيان ذلك من وجوه:

ـ إن تعريف القرآن يختلف عن تعريف القراءات، كما أوضح ذلك الزركشي في البرهان، واختلاف التعريف يدل على اختلاف المعرف.

ـ إن تعريف القراءات يتسع ليشمل، إضافة إلى القراءات المتواترة، ما يسمى عند أهل الأداء بالقراءة الشاذة، وقد اتفق القراء على عدم تسمية القراءات الشاذة قرآنا.

ـ إن كل قرآن قراءة وليس العكس.

على أن القول بتغاير حقيقة القرآن والقراءات غير مسلم به من جميع جوانبه ومناحيه، وهذا راجع إلى ضرورة تحقيق معنى التغاير بين الحقيقتين، فإذا كان المراد بالتغاير نفي التطابق الذي يصل إلى حد الانفصال التام فهذا ليس مناطا للتفرقة بين القرآن والقراءات؛ إذ إن القراءات الصحيحة التي استجمعت أوصاف القبول ما هي إلا جزء من القرآن، ومن ثم صح التعبد بها، وأن الاختلاف بين القراءات إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وأن كل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر، وبذلك ثبت أن بين القرآن والقراءات ارتباطا وثيقا هو ارتباط الجزء بالكل، وعلاقة حميمة لا تنفصم عراها متمثلة في كون كل منهما وحيا من عند الله.

 ولا شك أن تكرر لفظة “الوحي” في تعريف الزركشي لكل من القرآن والقراءات يوحي بهذا الارتباط، ويفي بمقتضياته، كما أنه نقل عنه أنه قال: “ولست في هذا أنكر تداخل القرآن بالقراءات، إذ لابد أن يكون الارتباط بينهما وثيقا، غير أن الاختلاف، على الرغم من هذا، يظل موجودا بينهما، بمعنى أن كلا منهما شيء يختلف عن الآخر لا يقوي التداخل بينهما على أن يجعلهما شيئا واحدا، فما القرآن إلا التركيب واللفظ، وما القراءات إلا اللفظ ونطقه، والفرق بين هذا وذاك واضح بيِّن”[14].

وبهذا الإيضاح منه، رحمه الله، تتبين حقيقة قصده بمعنى التغاير، وأنه ليس المراد به التغاير التام، كما أنه ليس بين القرآن والقراءة اتحاد تام، بل بينهما تداخل لم يقو على جعلهما شيئا واحدا، وكلاهما وحي من عند الله.

وخلاصة القول أن من قال بأن القرآن والقراءة حقيقةٌ واحدة، قال هذا باعتبار كونهما وحيا، وأن الاختلافَ بين القراءات اختلافُ تنوع، وأن القراءاتِ كلَّها حقٌّ وصواب، وأن كل الأوجه نزلت من عند الله، وهذا الاعتبار يقول به، أيضا، من قال بأنهما حقيقتان متغايرتان، لكن بالنظر إلى الأوجه السابقة وبيان معنى التغاير، يتبين مقصودهم.

فإذا عرفنا العلاقة التي بين القرآن والقراءات، وضبطنا مفهوم التطابق أو التغاير عند أصحاب القولين في موضوع تلك العلاقة، وخرّجنا كل قول باعتباره، وعرَفنا مناط الخلاف الواضح بين مفهوم التواتر عند الأصوليين والمحدِّثين، ولاحظنا تأثر غالب المتأخرين من القراء بالمعنى الذي يفهمه الأصوليون من التواتر، ولاحظنا، أيضا، ما ذكره ابن الجزري في سياق حديثه عن شرط صحة السند؛ اتضحت لنا بعد ذلك حقائق الأشياء بكل سهولة؛ لأن التحقيق في مثل هذه المسائل مرتبط بالمباحث المذكورة لاستجلاء أسباب الاختلاف فيها وحسن الفهم لها.

وباختصار؛ فإن من علماء القراءة من اشترط التواتر في ثبوت القراءة، ومنهم من اكتفى بصحة السند.

أما ابن الجزري؛ فقد ظهر من كلامه أنه لا يشترط في سند القراءة التواتر الذي يشترطه بعض القراء في صحتها، وقد كان في أول أمره يذهب إلى اشتراط التواتر، وعدم تسويغه ما ذهب إليه أبو شامة في المرشد، ثم رجع عن ذلك بعدما ظهر له فساده، وممن ذهب إلى عدم اشتراط التواتر مكي بن أبي طالب، وأبي شامة المقدسي المذكور آنفا، وجمهور السلف والخلف.

ويقول ابن الجزري، في سياق الرد على من اشترط التواتر: “وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وزعم أن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، وأن ما جاء مجيء الآحاد لا يثبت به قرآن، وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذا ثبت لا يحتاج فيه إلى الركنين الأخيرين من الرسم وغيره، إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وجب قبوله، وقطع بكونه قرآنا سواء وافق الرسم أو خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم، ولقد كنت قبل أجنح إلى هذا القول ثم ظهر فساده، وموافقة السلف والخلف”[15].

وممن انتصر لشرط التواتر الإمام علي النوري في غيث النفع في القراءات السبع، والشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي في المحاذي، والشيخ عبد الفتاح القاضي في البدور الزاهرة، والأستاذ سعيد الأفغاني في مقدمة تحقيقه لحجة القراءات لأبي زرعة، وغالب المتأخرين.

وخلاصة القول في هذا الباب أن الخلاف في اشتراط التواتر في القراءة مبني عند القراء المتأخرين على عدم ضبطهم معناه المقصود عند السلف، وعدم ضبطهم، أيضا، المقصود من الخبر كيفما كانت طريقة نقله، وقد نبه الوالد على هذه المسألة في تحقيقه الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني[16]، وبينها بيانا شافيا.

ونشأ عن الخلاف عند القراء في اشتراط التواتر الخلافُ في مفهوم الشاذ من القراءات، فاستعملوه استعمالا قريبا من معنى الشاذ عند المحدثين، قال الشيخ عبد الفتاح القاضي: “ومن هنا يعلم أن الشاذ عند الجمهور ما لم يثبت بطريق التواتر، وعند مكي بن أبي طالب ومن وافقه ما خالف الرسم أو العربية ولو كان منقولا عن الثقات، أو ما وافق الرسم والعربية ونقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولكن لم يتلق بالقبول، ولم يبلغ درجة الاستفاضة والشهرة”[17].

ونُقل الخلافان المذكوران في الكتب الجامعة قديما، كما نُقلا حديثا في الكتب الجامعية والمدرسية، فنشأ عن ذلك اضطراب في فهم المقصود من كلام العلماء عند كثير من الدارسين والمبتدئين.

ومن ذلك، أيضا، الاضطراب الحاصل في فهم المقصود بالشاذ عند القراء، وعدم ملاحظة الفرق بين مفهومه عند القراء ومفهومه عند المحدِّثين.

فتعريف الشاذ عند المحدثين أنه ما خالف فيه الراوي رواية الجماعة ولو كان ثقة، والشاذ عندهم من أنواع الضعيف، يدل على ذلك مفهوم قولهم في تعريف الحديث الصحيح: هو الحديث الذي اتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معللا.

قال الحافظ العراقي في ألفيته[18]:

فالأول المتصل الإسناد              بنقل عدل ضابط الفؤاد

عن مثله من غير ما شذوذ           وعلة قادحة فتوذي

وسبب ضعف الحديث الشاذ هو ما فيه من مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، والمقصود بالضعيف هنا الضعيف الذي لا ينجبر ضعفه، وهو الضعيف المتروك الذي لا يصح الاعتماد عليه؛ ولذلك فلا قيمة له من ناحية استفادة الأحكام الشرعية منه، وأما كونه نصا لغويا يصلح للاستشهاد والاستئناس لبعض الأحكام فلا ينكره أحد، وبهذا يفارق معنى الشاذ عند المحدِّثين معنى الشاذ عند القراء، فإن الشاذ عند القراء صالح لاستنباط الأحكام الشرعية، وفي ذلك يقول الشيخ عبد الفتاح القاضي: “وإذ علمت أن القراءة الشاذة لا تجوز القراءة بها مطلقا، فاعلم أنه يجوز تعلمها وتعليمها وتدوينها في الكتب وبيان وجهها من حيث اللغة والإعراب والمعنى، واستنباط الأحكام الشرعية منها على القول بصحة الاحتجاج بها”[19].

 فترك الشاذ من القراءات خاص بمجال الصلاة والتلاوة التعبدية، وفي ذلك يقول أبو عمرو الداني في منبهته[20]:

فلا تجوز عندنا الصلاة            بحرفه ذاك ولا القراءة

كأنه ليس له اتصال             بالمصطفى فهو لذا محال

هذا الذي عليه الاجتماع         وقاله الأصحاب والأتباع

يضاف إلى هذا وجه آخر، وهو أن الشاذ عند المحدثين كثيرا ما يخالف ما روته الجماعة بلفظه ومعناه، بخلاف الشاذ عند القراء فإنه في الغالب خلاف في كيفية النطق بألفاظ القرآن.

والحق أنه لا يشترط التواتر في ثبوت القراءة، وأن وصف القراءة بالتواتر عند القراء ملحوظٌ فيه مقصودهم من ذلك، وأنه لا ينطبق على الشاذ عند القراء ما ينطبق على الشاذ عند المحدِّثين.

وفي علم الحديث، يلقانا النقاش الدائر في قضايا المصطلح المدونة عند المتأخرين من أهل الاستقراء، ومن ذلك تقسيم الخبر إلى متواتر وآحاد؟

وأول ما يحسن التنبيه عليه هو أن كلام المحدِّثين في المتواتر والآحاد من السنة لا من غيرها.

والتقسيم المذكور ملحوظٌ في كتب المصطلح الجامعة، لاسيما بعد الخطيب البغدادي، وهو وإن كان منتزعا من الأصوليين في المسائل المشتركة بين العِلْمين، فلابد من التنبيه، أيضا، على الأمور التالية:

أولها؛ إن هذا التقسيم من باب الاصطلاح، ولا مشاحة في ذلك، ولا يضر بالمصطلح الحديثي كما يزعم البعض، كما لا تنعدم فائدته في أبواب فقه الحديث، ألا ترى أن المحدثين قد تواضعوا على أن التواتر ضابط في ثبوت الصحبة؟ وقد جعلوه ضابطا مستقلا لما أفاده من فائدة زائدة في باب المفاضلة، وإنما أثرُ الاصطلاح ملحوظٌ في أبواب الفقه وأصوله، وأغلبُ الخلاف بين المذاهب في مباحث السنة راجعٌ إلى اختلافِ الأحناف مع الجمهور في طريق تقسيمها.

الثاني؛ إن استعمال التواتر في عبارات المحدِّثين المتقدمين هو استعمال بمعناه اللغوي، وأول من استخدمه بمعناه الاصطلاحي الفني عند الأصوليين هو الخطيب البغدادي، وإنما لم يذكره المحدثون قبله بهذا المفهوم؛ لأنه لا يكاد يوجد في روايتهم، ولا يدخل في صناعتهم، كما قال ابن أبي الدم الشافعي ت642ﻫ.

الثالث؛ إن كتب المصطلح الجامعة قد اصطلحت على تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، وجرت شروحها ومختصراتها على ذلك، وهذا الاختيار معتمده على طرائق تعلُّم وتلقي المعرفة، ولا شك أن التقسيم والتنسيق والترتيب يُعد في عرف التأليف دعامة كبرى في تقريب المعرفة.

وقد عرفنا أن مبنى ذلك الاختيار على الكيفية التي يحصل بها العلم للإنسان، والتي إما أن تحصل مباشرة، وإما أن تحصل من طريق الخبر، وملحظُ المحدِّثين في ذلك هو حديث ابن عباس المشهور: “ليس الخبر كالمعاينة”، فبنوا كلامَهم في علم المصطلح على مُفاده، وقرّروا مسائل علمهم فيه على ضوئه.

 ولا يليق بنا أن نعود إلى الوراء، وأن نضيِّع الزمان في مثارات النقاش، وأن ننعتَ هذه الجهود العظيمة بالجفاء في فهم وشرح كلام المتقدمين؛ لأن في ذلك إساءةً بالغة للمتأخرين وجهودِهم في خدمة التراث الحديثي، كما يُعَدُّ هذا الموقف دعوةً للتحجير على اصطلاح الناس في تقريب المعرفة وتيسير فهمها، مع أن صاحب هذا الموقف ومن تبناه من الدارسين لا يمكنه أن يستغني عن تلك المصادر والشروح والمختصرات التي ازدانت بها الخزائن العلمية.

وفي علم اللغة والنحو والتصريف، يلقانا النقاش الدائر في قضايا من مثل نقل اللغات، وهل تثبت اللغة بطريق الآحاد؟

قال السيوطي في المزهر[21] نقلا عن الرازي في المحصول: “والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلائل على خبر الواحد أنه حجة في الشرع، ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة؛ وكان هذا أولى، وكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال اللغات والنحو، وأن يفحصوا عن جرحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رواة الأخبار، لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه؛ فإن اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للاستدلال بالنصوص.

ثم قال الإمام: والجواب عن هذه الإشكالات كلها أن اللغة والنحو والتصريف تنقسم إلى قسمين: قسم منه متواتر… وقسم منه مظنون؛ وهو الألفاظ الغريبة، والطريق إلى معرفتها الآحاد، وأكثر ألفاظ القرآن، ونحوه وتصريفه، من القسم الأول، والثاني فيه قليل جدا؛ فلا يتمسك به في القطعيات، ويتمسك به في الظنيات. هذا كلام الإمام فخر الدين، وقد تابعه عليه صاحب الحاصل، فأورده برمته، ولم يتعقّب منه حرفا…” إلى آخر كلامه.

ويلقانا، أيضا، النقاش الدائر في مثل الاحتجاج بالحديث في اللغة؛ لاحتمال روايته بالمعنى.

ومن ذلك، أيضا، افتعالُ معركةٍ بين النحاة والقرّاء في موضوع الاحتجاج ببعض القراءات المتواترة في العربية قديما وحديثا، ووصف النحاة بالطُّغاة؛ بدعوى ردّهم تلك القراءات المتواترة، وتلحينهم القرّاء الأئمة!

والحق أنه لم يقصد النحاة إلى تصحيح القراءة بالعربية، فهم مسلِّمون لها، ويؤثرونها على ما لديهم من قواعد وأقيسة استقرائية، وإن خالفتها، وأنه كما لا تُصحّح عندهم العربيةُ بالقراءة، لا تصحّحُ القراءة بالعربية وأقيستها؛ لأن القراءةَ عندهم كسائر كلام العرب الثابت المرويّ عمّن يُحتجّ بلغته، فالكل دليلٌ نحويٌّ، ويُعامل معاملةَ الدليلِ النحويِّ في الاحتجاج به بشرطي الاعتداد به وكفايته.

فكلام بعض النحاة في بعض القراءات، من مثل قوله: “ليست بقوية”، مراده أنّها ليست بقوية في قياس النحو، أو المنع من القياس عليها، ولم يبتغ بذلك الطعنَ في سندها وثبوتها قراءةً.

ثم إن فهم المكتوب عن النقاش الدائر في هذا الموضوع لا يُفهم إلا وَفق منظومة من المسلَّمات لابد من مراعاتها، من مثل: كون القراءةَ سنةٌ متبعة، وأن النحو قياسٌ، والقراءةَ روايةٌ، ومن مثل ضبط مفهوم الاختيار في القراءة، وأن القراءةَ تتعدّد للقرّاء وللقارئ الواحد، وأن القرّاءَ بشرٌ مجتهدون، يجوز عليهم من فعلهم الخطأُ في التلقِّي والاختيار، وأن لغاتِ العربِ كلَّها حجةٌ، وأن النحاةَ ينظرون للقراءات على أساس أنها مادةٌ لغوية، وأن القراءةَ مبناها على الترخص والتسهيل، وأنَّ كلَّ ما ورد من أن القرّاء “قرأوا كذا” لا يعدو الوصف، ولا يُعد قاعدةً يُبنى عليها الكلام الطبيعي؛ لأن لبناء القواعد ضوابطَ لا تتحقّق مع كل مسموع…

وأنه ليس كلُّ ما جاز في القراءة يجوز في النحو، ونبني عليه القاعدة، وأن النحاة يدرسون اللغة الطبيعية المعيارية، والقرّاءَ همُّهم لغة الوحي.

وسيلاحظ المطلع على الخلاف باعتبار القطع والظن، أن من أسباب هذا النقاش ما يرجع إلى عدم فهم المصطلح، وعدم ضبط المقصود به من كلام العلماء، واستعماله بالمعنى الذي يفهمه الأصوليون في كل سياق.

 فالنقاش الدائر، مثلا، في موضوع جواز المفاضلة بين القراءات الثابتة، قديما وحديثا، دافِعُه عند المانعين هو عدم جواز رد القراءة الثابتة، بينما القراءات قائمة على الاختيار، وأن المفاضلة ليست لذات القراءة، وإنما في الأجر والثواب[22].

ومن أسباب ذلك، أيضا، اضطراب كلام المؤلفين من المتأخرين في غالب الأحيان في موضوع اشتراط التواتر في ثبوت القراءة الصحيحة؛ لأنهم ينقلون من كلام الأقدمين ما يفيد أنه ليس شرطا في الثبوت، ويصرون هم على أنه شرط في ثبوته[23].

 ومن أهم الأمور التي يناقشُها هذا البحث، مشكلة الاستقراء، لاسيما وأنَّ أغلبَ المعارف البشرية، كما يذكر البعضُ، هي معارف استقرائية، وأن تفسير عملية الاستقراء يساعد على تفسير أغلبِ معارفِ الفكر البشري، والعلوم الإسلامية، كما هو معلوم، قد انضبطت قواعدها الكلية، وتقعيد هذه القواعد إنما تم من طريق الاستقراء؛ لأنه لا تقعيدَ بدون استقراء.

 ويلقانا في سياق الفكر الحديث الذي يمثله الفيلسوف الإنجليزي “ديفيد هيوم” في المناهج العلمية النقدُ اللاذع لمنهج النظر بالاستقراء، وأنه ليس وسيلةً يقينيةً للحصول على علمٍ قطعيٍّ، وأن الفكرَ الحديثَ غيرُ متفائلٍ بأيِّ حلٍّ لإنقاذ المعرفة البشرية من براثن الشكوك والظنون.

وهذه التصورات تستند إلى أن دلالةَ الاستقراء لا تكون بالضرورة صحيحة، كما أنها لا تنطلق بالضرورة من مقدمات منطقية.

والإشكال مطروحٌ عند بعض الدارسين في بحث دلالة الاستقراء التام في علوم الشريعة، وكيفية تحقُّقِ معنى التمام والكلية في الاستقراء في أبواب الشرع؛ لأنه يتعذَّرُ ذلك على كل تقدير في مجال العلوم الإنسانية كما في مذهب المُحْدَثين، فكيف يَتحقّق تتبعُ ذلك في كل الجزئيات والفروع في العلوم الشرعية من دون نقصٍ؟ لاسيما وأن الإمام الشاطبيَّ قد صرّح في تعريف الاستقراء بأن مفهومَه مشتركٌ بين العلوم العقلية والنقلية.

 ومما صعّب تيسيرَ الفهمِ، وفتحَ باب الإشكالِ والوهم، توظيفُ الأصوليين للمنهج الفلسفي والمنطقي في كثيرٍ من القضايا الشرعية وَفق ما رسمه أهلُ الفلسفة والمنطق، وعلى وَفق الأشكال والتقسيمات المعروفة عندهم، من مثل اعتبار التناقض والعكس، وغيرِ ذلك مما لا يُسْتَتَبُّ جريانه في المعنى والقصد الشرعي كما نصّ على ذلك الشاطبيُّ نفسُه.

وهذا إشكالٌ آخر مرتبطٌ بالمصطلح المتواضع عليه واستعمالاته وعلاقتِه بمفهومي القطع والظن.

وبالرغم من أن الأصوليين قد قسَّموا الاستقراء تقسيما منطقيا، وتحدثوا عن الاستقراء التام حديثهم عن القياس المنطقي، لكنهم إذا أطلقوا العبارة، فمرادُهم هو الاستقراء الناقص؛ لكفايته؛ ولأنهم لاحظوا الفرق في الاستعمال في المجال التداولي بين العلوم العقلية والنقلية، ومنهم من صرّح بذلك كالإمام الغزالي، ومنهم من لم يصرِّح وفُهم كلامه على ظاهره، لكن كلام الإمام الشاطبي هو الذي يفصح عن مفهوم الاستقراء (التام) في مجال العلوم الشرعية، وهو الاستقراء الناقص المقطوع بنتيجته، وهذا في واقع الاستعمال عند الشاطبي وغيره؛ لأن الجزئيات التي لم تدخل تحت التتبع والملاحظة، داخلةٌ تحت الحكم الذي أُسس عن طريق الملاحظة باعتبار نظائرها.

 ومن المعلوم أن الشاطبيَّ قد أبان عن المقصود بالتمام والكلية في دلالة الاستقراء في علاقتها بدلالة العموم، وأنها مرتبطةٌ بالجانب المعنوي من الخطاب الشرعي، وأن حصولَ المعرفة القطعية بدلالة الاستقراء لا يُشترط فيه استنفادُ جميع الجزئيات وحصْرها؛ وإنما يكفي أن يَتتبعَ المُستقري جزئياتٍ ظنيةً كثيرةً حتى يحصلَ له العلم القطعي؛ لأن العوائدَ التي جرت بها سنةُ الله أكثرية لا عامة، والشريعةُ وُضعت على هذا المقتضى، فينبغي إجراءُ القواعد العامة على العموم العادي الأكثري، لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئيٌ ما.

وأهم سلوك إجرائي يُيسِّر فهم موضوع القطع والظن في العلوم الإسلامية هو منهج الاستقراء في فهم مقصود كلام المتقدمين بهما، وهو مدار الدراسة المصطلحية كما مرّ.

وتمييز مواقع القطع من الظن في المعارف أشبهُ بتمييز مسائل الأصول (وهي المسائل الخبرية أو العلمية) من مسائل الفروع (وهي المسائل العملية)، وإن كانت المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية؛ لأنَّ هذه التسميةَ مُحْدَثةٌ، ولا ضير في ذلك، كما أن ذلك التمييزَ مُحْدَثٌ، ولا ضير فيه أيضا؛ إذ جرى عليه كثيرٌ من الفقهاء والمتكلمين، وهو في كلام المتكلمين والأصوليين أجلى وأوضح، لاسيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة، ومسائل الأقوالِ المتنازعِ فيها؛ لأسبابٍ منهجية: كلامية، أو مذهبية فكرية متأثرة بالتمييز بين أهم أدوات المعرفة الأربع التي هي الوحي، والعقل.

وأما جمهورُ الفقهاءِ فيُركِّزون على الأعمال، ويذكرونَها على التفصيل؛ لأن العملَ بها لا يتم إلا بذلك، ويَكرهون الكلامَ في كل مسألةٍ ليس فيها عملٌ، وذلك على مذهب الإمام مالكٍ وغيره من أهل المدينة.

والأصل أن التمييز بين الأصول والفروع، أو بين القطعيات والظنيات لا يكون إلا إذا دعتِ الحاجةُ إليه، كما في باب التعارضِ الذي يتأتى فيه النسخُ إنْ عُلِم التاريخُ، والتعارضِ الذي يتأتى فيه الترجيحُ باعتبار مرجِّحات السند التي ترجعُ إلى كثرةِ رواةِ أحدِ الخَبَرَين كما عند المالكية وغيرهم، (وإن كان منهج الأصوليين على اختلافهم فيما يرد من اختلاف الأخبارِ لا يَخْرُجُ عن ثلاثةِ أحوالٍ: الجمع إن أمكن، والنسخ إن عُلم التاريخ، والترجيح).

وإذا ثبت أصلُ الترجيح، فإنَّ القرائنَ التي يقع بها لا تنحصر؛ لأن المدار في جميعها على ما يغلب على ظنِّ المجتهد ترجيحه؛ ولأنها قوانينُ تقترن بدليلٍ ودليلٍ، وسَنَدٍ وسندٍ.

ويلقانا ذكر القطعي والظني في كلام الأئمة والعلماء كثيراً في المسائل العَمَلية، أي: في تفريع الأعمال؛ لأن العملَ يستلزمُه كما أشرنا آنفا، وبذلك ينفهِمُ ما تقرّر على لسان الإمام مالك وبعض تلاميذه من أن العملَ أقوى وأثبتُ من الحديث، ويُطْوى النقاشُ الدائر في أصلِ عمل أهل المدينة، وتَنفهمُ وتتضحُ حججُ المالكية في تقديم العمل المستمر[24] (أو المتصل أو المستفيض) على أخبار الآحاد العدول، فاحتجاجُهم بأقوال أهل المدينة وتقديمِها على الأخبار من هذا الوجه؛ لما تقرّر عندهم بالنقل المتواتر أن ذلك العملَ هو سنةُ الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعملُه وإقرارُه؛ ولذلك قال ابنُ القصّار في مقدمته في الأصول[25]: “وأخبارُ أهل المدينة أخبارُ تواترٍ، فكانت أولى من أخبار الآحاد”، وقال في موضع آخر: “وأهل المدينة يحصلُ لهم في نَقْلِهم صفةُ التواتر؛ فلهذا كان خبرُهم مقدماً على خبر غيرهم”؛ ولذلك نصّ الطوفي على معنى تقديم الإجماع، وهو العمل.

وإذا تقرّر هذا؛ فإن مآخذَ المالكية في تقديم العمل على أخبار الآحاد صحيحةٌ أيضا بالنسبة للحديث المتواترِ من جهة النظر.

ومآخذُ المالكية صحيحةٌ ومنضبطةٌ، وإنما الذي أجّج النقاشَ في هذه المسألة عند الدارسين، حتى سُوِّدت به الكتب الدراسية، أسبابٌ، منها اضطرابُ النقل عن بعض أعلام المالكية؛ كأبي بكر ابن العربي في عارضة الأحوذي[26]، حين قوله: “ولا ترك مالكٌ قط حديثا لأجل مخالفة أهل المدينة له بعملهم وفتواهم…”، ولعل إطلاقَ هذا النفي خرجَ مخْرج الغضب؛ لأن حديثه في خيار المجلس، وفي سياق الردِّ على المنتقدين للمالكية في عدم أخذهم بهذا الحديث، وخاصة الشافعية.

وبناءً على أصلِ عملِ أهلِ المدينة، وتقديمِه على الحديث عُلِّلت مواقفُ الإمام مالكٍ من الأحاديث التي حدّثَ بها وليس عليها العمل، من مثل تحديثه بها قبل أن يَتبيّنَ حالَها بالنسبة للعمل، كتحديثه بحديث العُمْرَى، وقولِه بعد التبيُّن: “ليس عليه العمل، ولوددت أنه مُحِي”، ومن مثل تحديثِه بها خشيةَ أن يُتهم بأنه خالفَها لجهله بها، فحدّثَ الناسَ بها ليُعْلِمَهم أنه تركَ العمل بها مع عِلْمِه بها لمخالفتها العملَ كما في حديث “البيعان بالخيار”.

وما من شك في أن ترك مالكٍ العمل بهذا الحديث قد أعقبته تخريجاتٌ من المالكية، وتعقيباتٌ ومناقشاتٌ وردودٌ ونقودٌ من المالكية وغيرهم، وطوّل العلماء ذيولاً حول ذلك بما لا طائل تحته.         والتحقيقُ أن مالكاً ترك العمل بالحديث المذكور بناءً على أصله في تقديم العمل المتصل على خبر الآحاد؛ لأنه أقوى، أو لأن العملَ المخالفَ له دليلٌ على نسخه؛ لأنه يستحيل عنده أن يعمل أهلُ المدينة على خلاف حديث صحَّ عندهم إلا وقد علموا ناسخاً له، أو أن هذا الحديثَ مخالفٌ لقياس القاعدة الشرعية التي تمنع تعليق البيع على الجهالة، وقاعدة الغرر والجهالة قطعية كما قال الشاطبي في الموافقات[27]، لكن هذا التعليلَ الأخيرَ ضعيفٌ؛ لأن مدة الخيار عند المالكية ترجع إلى تفاوت السلع وحاجيات الناس رعايةً لمقصد البيع والشراء.

ثم إن من الحديث ما كان بعضُه مخالفاً للعمل، وبعضُه موافقاً له، فيعمل مالكٌ بالموافق منه دون المخالف. وتفسيره في كلام ابن عبد البر في التمهيد[28]، تعليقا على صنيع مالك بحديث عَقْل الجنين، قال: “وهو حديث اختصره مالك، فذكر منه دية الجنين التي عليها الأمر المجتمع عليه عنده، وترك قصةَ المرأةِ إذا ضُربت فألقَتِ الجنينَ المذكور؛ لأن فيه من رواية ابن شهابٍ إثباتُ شبه العمد، وإلزامُ العاقلة الدية، وهذا شيءٌ لا يقول به مالكٌ؛ لأنه وجد الفتوى والعمل بالمدينة على خلافه، فكره أن يذكر في موطئه بمثل هذا الإسناد الصحيح ما لا يقول به”.

ولذلك يبدو جليا من خلال هذه الأمثلة أن أكثر النقاشِ الدائرِ حول أصل عمل أهل المدينة مما لا طائل تحته، وبعضُه تشغيب، لا يُحَصَّل من ورائه على شيء لازم.

ومما لم تدع الحاجةُ إلى التفصيل فيه الأصول والقطعيات التي وجب الإيمان بها مُجملة، اللهم إلا فيما يتصل منها بالأعمال كما ذكرنا، كما في التمييز بين القراءات المتواترة من غيرها؛ لأن العملَ يستلزمه، كما في الصلاة والتلاوة، وهذا لا يعني المنع المطلق من التفصيل أو التمييز، لكن إذا وقعا بلا نزاع فحسنٌ، وإن وقع التنازع في ذلك فهو مفسدة.

وأما سائر وجوه الاختلاف، كاختلاف التنوع، والاختلاف الاعتباري واللفظي، فأمره قريب، وهو كثير وغالب في المسائل الخبرية.

وإذا رجعنا إلى الاختلاف الواقع في المسائل العلمية والعملية باعتبار القطع والظن، يمكننا أن نقول بأنَّ أوَّلَ نقاشٍ مُصاحبٍ لهذين المصطلحين الفَنِّيَيْن: القطع والظن، يتصل بالجانِبَيْن؛ المنهجي والمفاهيمي المستفادَيْن في الاستعمال.

والأصل في مثل هذا أن يَنْفَهم باستحضار أصل الخلاف كما ذكرنا في البدء، وقد جرى منهج المتقدمين والمتأخرين على ذلك في النقل، كما كان يفعل الغزالي والزركشي وغيرهما، مثل الخلاف في تخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد، فمبناه على الخلاف في دلالة العام على أفراده، هل هي قطعية أم ظنية؟

 ولابد أيضا من استحضار الأصول الفكرية المؤثرة؛ لتجدر هذا التأثير في العلوم والمعارف، ولأن كثيرا من المسائل الخلافية لا ينحسم فهمُها فَهْماً سليما، ولا يُتحقَّق من قصد الموافق والمخالِف فيها إلا على هذا الوجه؛ ولأن آثار الخلاف السِّلبية في القطعيات لا تلزم إلا طرفا واحدا، لا جميع الأطراف.

ثم إن القول بالقطع أشدُّ خطرا؛ لاسيما في المسائل العمَلية؛ لأن من المسائل ما لا يمكن العملُ فيها بقول مجمع عليه؛ اللهم إلا ما كان عليه الصحابة؛ لتعذر العلم بإجماع غيرهم غالبا؛ ولهذا اختلف الأصوليون نظراً في الإجماع على أحد قولي السلف، كما منعوا من إحداث قول ثالث، وفي المقابل قرّر العلماء بأن النزاع الحادث بعد إجماع السلف خطأٌ قطعا، كخلاف الخوارج.

وقد نُسبت أحكامٌ وأقوالٌ وآراء لكثير من الأئمة والعلماء في الفكر الإسلامي باعتبار القطع، وهي لا تفيد في الواقع إلا الظن، كما نُسبت إليهم أخرى باعتبار الظن، وهي لا تفيد في الواقع إلا القطع، وهذا أشبه بكثير من المسائل التي يظنُّ بعضُ الناس الإجماع فيها، ولا يكون الأمر كذلك.

كما أنه قد يُتوهم استعمال ذينك اللفظين في كلام العلماء بمعناهما الاصطلاحي الفني، والأمر بخلاف ذلك، كما في تفسير كلام الشافعي في باب الإقرار، وقوله: “إني ألزم الناس أبدا اليقين، وأطرح عنهم الشك، ولا أستعمل عليهم الأغلب”، فإنه لم يُرد باليقين القطع كما يتبادر في الظاهر.

واتصل الخطأ في فهم كلام كثير من الأئمة والعلماء، وتسلسل في الخالفين، لاسيما عند الدارسين الذين لا دراية لهم بلغة العلماء، واشتد الخطب، واختلط الفهم في المنقول المتناقِض عن بعضهم، حتى عن بعض المتكلمين كالإمام الرازي الذي لم يثْبُت على شيء كما يحصل له في كثير من المسائل حسبما ذكر ابن تيمية في “مجموع الفتاوى”[29]..

 وقد رجع عن كثير من آرائه في آخر حياته كما هو مذكورٌ في “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”[30] للطبيب المؤرخ أحمد بن القاسم المعروف بابن أُصَيْبِعَة (ت668ﻫ)، منها ما يتعلق بالاحتجاج بالأدلة اللفظية في أصول الدين؛ ولذلك نجد الأصفهاني في الكاشف على المحصول[31] يفسر كلام الرازي بتفسير، وأنه الحق، ويحمله على حسن الظن، ثم يصرِّح بغير مراده ومقصوده، ونجد الزركشي في البحر المحيط[32] يُفسره بتفسير آخر، وأن رأيه يفيد بأن الأدلة اللفظية تفيد اليقين إذا اقترنت بها قرائن، بينما نجد الشيخ محمد بخيت المطيعي في سلم الوصول[33] يؤول كلام الرازي بما يفيد خلافه في الواقع.

ومن المعروف أن من أوائل المسائل العلمية التي ناقشها العلماء في موضوع القطع والظن قضية المعارف، هل هي اضطرارية؟ وهذه القضية مركبة عن قضية شائكة مرتبطة بمراتب الإدراك، وهل للقطع مراتب؟ فنتج عن ذلك السؤال عن العلوم، هل تتفاوت أو لا تتفاوت؟ وإذا كانت لا تتفاوت، فهي ضرورية على مذهب الجويني، وقد قال أبو بكر النقاش في تفسير قوله تعالى من سورة الزخرف: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 36): “وفيها أيضا دلالة على رد قول من زعم إن المعارف اضطرارية”.

وتفسير النقّاش غايةٌ في الأهمية بالرغم من النقد الموجه إليه في باب الرواية، وقد عوّل عليه الأندلسيون والمغاربة أكثر من غيرهم، وهو من أهم التفاسير التي فاتت الجمع التفسيري الذي أنجزته مؤسسة مبدع.

ومما يحسن التنبيه عليه، في سياق الحديث عن القطع الذي يتفاوت أو لا يتفاوت، أن ما يفيد العلم والقطع، من حِسٍّ أو عادة أو تواتر، فهذا يتفاوت في الضروريات؛ كالتفاوت في العلم بالشيء المشاهد، وفي النظريات، كالتفاوت الحاصل بين العلم النظري بالشيء ومعاينته؛ ولذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: “ليس الخبر كالمعاينة”.

ولا يذهبُ الوهمُ إلى أن المعنى في قوله تعالى: ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ (البقرة: 259) بمزيد الإيمان بالبعث؛ لأن الإيمانَ بالشيء لا يكون إلا مع اطمئنان القلب به، أي: عدمِ اضطرابِه بتجويز النقيض بوجهٍ ما؛ إذ الإيمانُ علمٌ يقينيٌّ، وكلُّ علمٍ يقينيٍّ لا يتفاوتُ في نفسه عند المحققين كما في جمع الجوامع[34] للتاج السبكي؛ أي من حيثُ الجزمُ، وإنما التفاوت بأمورٍ خارجيَّةٍ، ككثرة المتعلِّقاتِ وقِلَّتها، وقِلَّةِ تخلُّلِ الغَفَلاتِ وكَثْرتِها على ما ذكره العلامة الطيب ابن كيران في تقاييده[35].

وما ورد من زيادة الإيمان ونقصانه، فإنما هو باعتبار أمورٍ خارجة عن حقيقته عند هؤلاء المحققين، وهو المختار الذي يجب التعويل عليه، وبه ينزاح الإشكال في فهم معنى الطمأنينة في الآية، ويذهب بسببه كل خيال، ويتجاوب به أطراف الكلام.

ولذلك؛ فإن الله، عز وجل، حينما قصّ ما جرى لإبراهيم، عليه السلام، من هذا السؤال، قدّره بالإيمان بقوله له: ﴿أَوَلَمْ تُؤْمِنْ﴾ ليرتب عليه جوابَه المفيدَ أنه على غايةٍ من الإيمان بقوله: ﴿بَلَى﴾، فانتفى احتمالُ أن يكون السؤالُ سؤالَ استبصارٍ في حق نفسه؛ إذ لا يَحتاجُ إلى ذلك من ثَبَتَ له حقُّ الإيمان بقوله: ﴿بَلَى﴾، فلم يبق لقوله: ﴿لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ إلا أن تكون الطمأنينةُ اطلاعاً على ما انبهم عليه من حالِ غيره، ولو[36] حُمل على الاطمئنان في إيمانه لكان منافياً لقوله: ﴿بَلَى﴾.

ولا ضير في تسمية ما يفيد القطع أو العلم بالظن الغالب أو الراجح، وإن كان احتمال النقيض منفيا، كما أن هذا الظن القوي له حكم القطع واليقين في الاعتقاديات، بخلاف غيره من درجات الظن.

ومن آكد الأمور المتصلة بموضوع القطع والظن في أصول الفقه وغيره من العلوم، والتي يجب استحضارها في فهم المراد بهما: القرائن المحتفة بالنص أو الكلام؛ أي القرائنُ المعضِّدة للاحتمال، والقرائنُ النافية له، ويمكن أن نسميها بقرائن التقوية وقرائن التضعيف.

 ولذلك اختلف الأصوليون في اليقين؛ هل يتفاوت أو لا يتفاوت؟ وإنما محل هذا الخلاف بينهم إذا لم تحتف باليقين قرائن، فإذا لم يُقرأ على هذا الوجه وُضع الخلاف في غير موضعه؛ وبعُد الفهم، وحصل الخبط والخلط.

وقد نصّ العلماء على أن القرائن في الأخبار تقوم مقام المُخْبِرين في إفادة العلم واليقين، بل القرائن قد تكون أقوى من مجرد العدد الكثير؛ لأن إخبارهم قد لا يفيد العلم واليقين إذا احتفت به القرائنُ النافية، كأن يجتمع رؤساء الجند، فيخبرون عن أمر تكون إذاعتُه سياسةً ودهاءً، وهو الاتفاق على الكذب، فلا يحصل اليقين بخبرهم، مع أنهم لو كانوا متفرقين خارجين عما هم فيه من الاتفاق على الكذب لحصل اليقين بخبرهم.

فإذا حصل العلم واليقين بخبر العدد الكثير، دلّ على حصول العدد الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، وهو ما اتفق عليه الجمهور من عدم جواز كتمان أهل التواتر ما يُحتاج إلى نقله ومعرفته، خلافا للشيعة الإمامية، مع أن هذه المسألة ناقشها الأصوليون من باب افتراض الجواز العقلي؛ أي هل يجوز على عدد التواتر الكذب في خبره جوازاً عقليا؟ فمنع الجمهور من جواز الكذب عليهم في العادة، لا لذاته؛ إذ لا يلزم من فرض وقوعه منهم محالٌ لذاته، وإنما يمتنع ذلك عليهم عادة، فهو من الممتنعات العادية، كانقلاب الحجر ذهبا، لا من الممتنعات لذاتها كما بيّن الإمام الطوفي في شرح مختصر الروضة[37]، ولذلك قيّدوا تعريف المتواتر بالعادة.

ولا شك أن كثيراً من القرائن كانت محلَّ أَخْذٍ ورَدٍّ بين العلماء، ومن ذلك النقاشُ المفصّل بين الأصوليين في بابِ الأخبار من كُتُبهم فيما يتعلق بحد التواتر والقرائن المعتبرة التي تَبلغُ بالخبر درجةَ القطعِ، والنقاشُ الدائرُ في أخبارِ الآحاد وإفادتِها للعلم أو عدمِ ذلك، مع أن القول بإفادتها للعلم لم يُفهم مقصود القائلين به؛ لأنه لا يقتضي أن خبرَ الآحاد يفيد العلمَ من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين، وإنما هو خاصٌ بخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، كما قال ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة[38]، ومُخَرَّجٌ باعتبار القرائن الخاصة التي تحوطُ بالمُخْبِر، وهم الصحابة وكذلك العدول الثقات، وبالنظر أيضا إلى سائر الضمانات التي حَفِظت الوحي من خلال علوم الحديث الدقيقة التي ميّزت خبرَ الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل خبرٍ سواه.

فإذا انفهَمَ القصدُ على هذا الوجه، فلا معنى لتأويل قولهم بإفادة العلم بوجوب العمل كما ذكر الباجي في الإحكام[39]؛ لأن العمل بأخبار الآحاد معلومٌ وجوبه بالقطع واليقين، ولا معنى أيضا لتأويله بمعنى الظن أو العلم الظاهر دون الباطن، أو غير ذلك من التأويلات، في حين جزمَ القاضي عبد الوهاب في الملخص[40] بأن الخلافَ لفظيٌّ، فصارَ الخلافُ في أنه هل يسمى علماً أم لا؟

ومن ذلك أيضا النقاشُ الدائرُ حول حمل مفهومِ النص على اللفظ الدال على معناه دَلالة قطعية، بحيثُ لا يحتمل التأويل؛ فإنه ليس محلَّ اتفاقٍ بين الأصوليين؛ إذ ذهب بعضهم، كأبي علي الطبري (ت350ﻫ) وأبي محمد بن اللبان الإصبهاني (ت446ﻫ)، إلى أن النصوص النقلية بالمعنى القطعيِّ عزيزةٌ ونادرةٌ، حتى قالوا: لا يوجد ذلك إلا في ألفاظٍ معدودة، وخطؤُهم في ذلك أنهم نظروا إلى اللفظ في ذاته، ولم يلتفتوا إلى القرائن الحالية أو المقالية المصاحبة له.

وقد حكى الباجي مذهبَ القائلين بالندرة والعزة، وقرّر أن الصحيح خلافَه كما عليه جمهور المالكية؛ لأن المقصودَ من النصوص، حملا على ذلك المفهوم، كما حكاه إمام الحرمين، هو الاستقلالُ بإفادة المعاني على قطعٍ، مع انحسام جهاتِ التأويلات، وانقطاعِ مسالك الاحتمالات.

ومن الغريب أن بعض المباحث والمسائل قد جرى فيها النقاشُ حملا على معيار القطع والظن، بينما منشأ الخلاف بخلاف ذلك!

ولهذا؛ فالحامل المستأنف لهذه المداخلة المتواضعة، هو التنبيه على أن موضوع القطع الظن في العلوم الإسلامية قد دخله التأويل في تفسير مواقف العلماء وآرائهم ومناهجهم التي اختطوها في الفهم والتحليل، وأخذ نصيباً وافراً من الجدل والمناظرة والخلاف في كثير من القضايا والمسائل، وبعضُهم اضطرَّ أن يَتَّخِذ مواقفَ فيها كثيرٌ من التطرف، من مثل المواقف التي اتخذها ابنُ حزم في هجومه على المالكية حينما تعرّض لحجية عمل أهل المدينة، خلطاً منه بين مفهوم العمل وبين فعل منفرد قد يكون صحيحا، على أن أكثر الخلاف بينه وبين الأئمة هو خلاف مبدئي نظري صوري أكثر مما هو عملي.

ومن أسباب النقاش في موضوع القطع والظن أيضا ما سبق إلى تصوُّرِ بعضِ الناس من ردّ بعضِ خبر الشرع حملاً على ظاهر لفظ اصطلاح الظن في اللغة، ويمكن أن نشبه هذا بالنقاشِ الدائرِ في موضوع استعمال صيغ المبالغة أوصافاً وأسماء لله تعالى مثل: توّاب وغفور، فزعم بعضهم أنها مستعملة بجانب الله على سبيل المجاز؛ إذ هي موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها حين يوصف الله بها، وقال بعضهم: المبالغة فيها بحسب تعدد المفعولات التي تفوق تصورات الخلائق.

والحق أن هذا النقاشَ سبَبُه هو الفكرة التي سبقت إلى تصوّر الناس حول الصِّيغ التي سماها علماء العربية صِيَغَ مبالغةٍ، مع العلم بأن العرب قد استعملوا هذه الصِّيَغَ ولم يقولوا: إنها صيغُ مبالغة، بمعنى أنها تدل دواماً على ما هو زائد على الواقع والحقيقةِ حتى ترِد الإشكالات التي أوردها المستشكلون حول الصفات الإلهية.

وباستطاعتنا أن نقول: إن هذه الصيغ موضوعة في الأصل للدلالة على كمال الصفة، وهذا الكمال لا يوجد في الناس، أو للدلالة على الكثرة والوفرة في أجزاء الصفة، دون أن يكون ذلك على سبيل المبالغة، فإذا أُطلقت على غير مستحق الكمال فيها كان هذا الإطلاق على سبيل المبالغة، وإذا أُطلقت على مستحق الكمال أو الكثرة فيها فهو إطلاق على وجه الحقيقة ولا مبالغة فيه، فما يسمى بصيغ المبالغة إذا أطلقت على الله، عز وجل، فهي مطلقة بحسب وضعها اللغوي، ولا مبالغة فيها، وبهذا ينحلُّ الإشكال من أساسه، وسبب الإشكال التقيّد بتعريفات اصطلاحية لغوية دون الرجوع إلى التبصر بأصل الاستعمالات العربية وتحرير المراد من الاصطلاح[41].

ومن ذلك، أيضا، ما ذهب إليه بعض البلاغيين على سبيل المغالاة، في الدرس البلاغي، من إن قصر الموصوف على الصفة قصراً حقيقيا لا يتأتى؛ لأنه ما من موصوف إلا وله صفات كثيرة، حتى خرج بعضهم بذلك عن ذوق الدرس البلاغي، فقالوا: إن الصفة المنفية لها نقيضها البتة، وهذا النقيض من الصفات، فإذا نفيت جميع الصفات لزم ارتفاع النقيضين.

 فاشتد النقاش، ودخلت المسألة في مماحكات كلامية ينبغي أن ينزه عنها الدرس البلاغي؛ إذ هي من الشوائب التي تعكر صفوه ويكدر ذَوْقَه، ولو تنبه هؤلاء إلى قول الجرجاني في الدلائل[42]: “واعلم أن قولنا في الخبر إذا أُخِّر، نحو: ما زيد إلا قائم، أنك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد زيد عليها، ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني أنك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام، والتي هي منه بسبب، نحو: أن يكون جالسا أو مضطجعا أو متكئا أو ما شاكل ذلك، ولم تُرِدْ أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل؛ إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم، أن يكون أسود أو أبيضَ أو طويلا أو قصيرا أو عالما أو جاهلا، كما أنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد، لم تُرِدْ أنه ليس في الدنيا قائمٌ سواه وإنما تعني: ما قائمٌ حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك”.

أقول: لو تنبهنا وتنبه البلاغيون إلى هذا القول، ما خرجوا بالمسألة عن نطاق الدرس البلاغي، وما خاضوا بها الخوض الذي خاضوه.

 وخلاصة القول: أن المنفي عنه في القصر الحقيقي التحقيقي ما هو بسبيل من المقصور عليه، وواقع في دائرته ويتبادر إلى الذهن عند سماع أسلوب القصر، فإذا قلت: ما شاعر إلا زيد، فإنك لا تعني نفي الشاعرية عن كل من ولدته حواء في كل العصور وكل الأمم، إنما تعني نفي الشاعرية في حدود ما يشير السياق والقرائن، كذا ذكره أبو موسى في دلالات التراكيب[43].

وكذا إن قلت: ما زهير إلا شاعر، لا يعني أنك تنفي عن زهير كل صفة غير الشعر، وإنما يعني أنك تنفي عنه كل ما هو بسبيل من صفة الشعر، كالخطابة والكتابة، وكل ما هو في نطاق القول والإبداع مما يحدده السياق وتشير إليه القرائن، أما القصر الحقيقي الادعائي فهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحيث لا يتعداه إلى غيره ادعاء ومبالغة، فالمقصور يختص بالمقصور عليه وينفي عن كل ما عداه مما هو بسبيل منه نفيًا يقوم على المبالغة والتجوّز، ولا يقوم على المطابقة الحقيقية للواقع كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: 28).

 فقد قُصرت خشية الله على العلماء، ونُفيت عن كل من عداهم، ولا يعني هذا أن غير العالم لا يخشى الله تعالى، بل قد يكون غيرُ العالم أشد خشية لله من العالم، ولكن سياق الآيات في التنويه بشأن العلماء وتعظيم منزلتهم والحث على النظر والتأمل.

وبعد؛ فقد عرفنا أن القطع والظن يتصلان في الاستعمال اتصالا وثيقا بنظرية المعرفة، فهما يمثلان قضية معرفية واصفة للمعارف والعلوم، يعتريها الخلاف في كثير من المسائل إثباتا أو نفيا، وتتنازعها المذاهب قبولا أو ردا.

وقد عرفنا أيضا أن القطع والظن قضيةٌ منهجية، ارتبطت بالدليل والمدلول، وطرأ عليها في الاستعمال تطورٌ في المصطلحات الدالة، ولها ارتباط في المفهوم بنظريات علمية أخرى، كنظرية الاحتمال، ونظرية القرائن، ونظرية الاستقراء، ونظرية الاعتبار، ونظرية الاحتياط….إلخ، ولها ارتباط في الاستعمال بأهم قضايا العلوم الإسلامية، كما في أبواب الاجتهاد من علم الأصول، كالتعارض والترجيح والتأويل..

 ولها ارتباط بإشكالية التأثير والتأثر بين العلوم والحضارات، ومن ذلك حركة تأثير علمي الكلام والمنطق في العلوم الإسلامية؛ ولذلك ففهمها ودَرْكها موقوف على فهم دقيق، واستيعاب وثيق، لمفهومي القطع والظن في الخطاب التداولي في العلوم الإسلامية قديما وحديثا، وتفسير دقيق لمقصود العلماء بهما في الاستعمال عند شرح مواقفهم المرتهنة بسياقاتها، وتفسير آرائهم بحسب سباقاتها، وبيان حججهم وفق أغراضهم من البيان والإيضاح، مع الاستعانة في ذلك بالدرس المصطلحي وما نقله العلماء في تفسير الخلاف، وهاهنا أؤكد حضور إشكالية الفهم، وهي بلا شك تتطور، لكن يجب أن تفهم المعارف والعلوم في إطار منظومة متكاملة، وعلينا أن نتجاوز ما لا طائل تحته مما يُضيِّع الزمان، في حين لا تجد الأمة أجوبة عن سؤالاتها الآنية في هذا العالم المتغيّر بتحدياته الكثيرة.

الهوامش

[1]. بدر الدين الزركشي، البحر المحيط، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط2، (1413ﻫ/1992م)، (3/436).

[2]. حميد الوافي، مفهوم القطع والظن وأثرﻫ في الخلاف الأصولي، القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ط1، (1432ﻫ/2011م)، ص12.

[3]. ينظر: أبو عبد الله محمد الطيب ابن عبد المجيد بن كيران الفاسي، أجوبة وتقاييد في تفسير الكتاب العزيز، دراسة وتحقيق: الحسن الوزاني، الرباط: مركز الدراسات القرآنية/الرابطة المحمدية للعلماء، ط1، (1432ﻫ/2011م)، ص191 وما بعدها.

[4]. المرجع نفسه، ص200.

[5]. الغزالي، المستصفى، صححه: محمد عبد السلام عبد الشافي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1413ﻫ/1993م)، ص181.

[6]. ينظر: الطوفي، شرح مختصر الروضة، تحقيق:عبد الله التركي، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط1، (1407ﻫ/1987م)، 2/79 وما بعدها.

[7]. بدر الدين الزركشي، البرﻫان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل،(ط2، (1391ﻫ/1972م)، 1/318.

[8]. شهاب الدين القسطلاني، لطائف الإشارات لفنون القراءات، تحقيق: الشيخ عامر عثمان وعبد الصبور شاﻫين، القاﻫرة، (1392ﻫ/1972م)، 1/171-172.

[9]. الدمياطي، إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر، صححه وعلق عليه: محمد الضباع، مصر، ص5.

[10]. صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، بيروت: دار العلم للملايين، ط10، 1977م، ص159.

[11]. إبراﻫيم الأبياري، تاريخ القرآن، بيروت: دار الكتاب اللبناني، (1402ﻫ/1982م)، ص147.

[12]. علي محمد الآصفي، دراسات في القرآن الكريم، مكتبة النجاح، (1385ﻫ/1965م)، ص219.

[13]. ابن الجزري، منجد المقرئين، تحقيق: محمد حبيب الله الشنقيطي وأحمد محمد شاكر، بيروت: دار الكتب العلمية، (1400ﻫ/1980م)، ص20 وما بعدها.

[14]. ينظر: شعبان محمد إسماعيل، القراءات: أحكامﻫا ومصادرﻫا، القاهرة: دار السلام، 1986م، ص21.

[15]. ابن الجزري، النشر في القراءات العشر، أشرف على تصحيحه ومراجعته: علي محمد الضباع، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، د. ت، 1/13.

[16]. أبو عمرو الداني، منبهة الإمام المقرئ أبي عمرو الداني، دراسة وتحقيق وتعليق: لحسن بن أحمد وكاك، ط1، (1430ﻫ/2009م)، 1/220-227.

[17]. عبد الفتاح القاضي، القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب، بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، (1401ﻫ/1981م)، ص10.

[18]. ينظر: السخاوي، فتح المغيث، تحقيق: علي حسين علي، القاهرة: مكتبة السنة بالقاﻫرة، ط1، (1415ﻫ/1995م)، 1/12.

[19]. القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب، م، س، ص10

[20]. منبهة الإمام المقرئ أبي عمرو الداني، م، س، 2/488-489.

[21]. السيوطي، المزﻫر في علوم اللغة وأنواعها، ضبطه وصححه: فؤاد علي منصور، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1418ﻫ/1998م)، 1/92.

[22]. ينظر: عبد الفتاح إسماعيل شلبي، الاختيار في القراءات: منشؤه ومشروعيتﻫ وتبرئة الإمام الطبري من تهمة إنكار القراءات المتواترة)، مكة المكرمة: مركز بحوث الدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، (1417ﻫ/1996م)، ص70.

[23]. منبهة أبي عمرو الداني، م، س، 1/225-227.

[24]. والمستند إلى الدليل الشرعي، لا مجرد العمل، وقد عبّروا عنه بالعمل الذي طريقه النقل والحكاية والتقرير، الذي تؤثره الكافة عن الكافة، وعملت به عملا لا يخفى، ونقله الجمهور عن الجمهور عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

[25]. ابن القصار المالكي، المقدمة في الأصول، تحقيق: محمد السليماني، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1996م، ص77.

[26]. أبو بكر بن العربي المالكي، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، ( 1418ﻫ/1997م)، 6/6.

[27]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز، مصر: المكتبة التجارية الكبرى، ط2، (1395ﻫ/1975م)، 3/21-22.

[28]. ابن عبد البر، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، الرباط: وزارة الأوقاف المغربية، (1387ﻫ/1967م)، 6/478.

[29]. ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن محمد بن قاسم العاصمي وابنه محمد، القاهرة: طبعة المساحة العسكرية، 1408ﻫ، 6/55.

[30]. ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: نزار رضا، بيروت: مكتبة الحياة، 1965م، ص468.

[31]. محمد الأصفهاني، الكاشف عن المحصول، رسائل ماجستير بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 3/982.

[32]. البحر المحيط، م، س، 1/57-58.

[33]. بخيت بن حسين المطيعي، سلم الوصول لشرح نهاية السول، مطبوع بهامش نهية السول للأسنوي، 4/59.

[34]. تاج الدين السبكي، جمع الجوامع في أصول الفقه، تحقيق: عقيلة حسين، بيروت: دار ابن حزم، ط1، (1432ﻫ/2011م)، ص218.

[35]. أجوبة وتقاييد في تفسير الكتاب العزيز، م، س، ص182.

[36]. في المطبوع المحقق (ومن)، تحريف. وقد أحصيت حوالي عشرة أخطاء من هذا القبيل وقع فيها المحقق في هذا التقييد الخاص بقوله: (ولكن ليطمئن قلبي)، والذي لا يشغل أكثر من أربع ورقات.

[37]. الطوفي، شرح مختصر الروضة، م، س، 2/102.

[38]. ابن القيم، مختصر الصواعق المرسلة، اختصره: الشيخ محمد بن الموصلي، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، (1405ﻫ/1985م)، ص466 وما بعدها.

[39]. أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق: عبد المجيد التركي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، (1407ﻫ/1986م)، ص324.

[40]. ينظر: البحر المحيط، م، س، 4/264.

[41]. ينظر: عبد الرحمن حبنكة الميداني، البلاغة العربية: أسسها وعلومها وفنونها)، دمشق: دار القلم، وبيروت: الدار الشامية، ط1، (1416ﻫ/1996م)، 2/456.

[42]. دلائل الإعجاز، م، س، ص266.

[43]. محمد محمد أبو موسى، دلالات التراكيب: دراسة بلاغية، مكتبة وﻫبة، ط2، (1408ﻫ/1987م)، ص54.

الوسوم

د. أنس وكاك

عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء

 وأستاذ التعليم العالي بكلية اللغة العربية بمراكش

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق