مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

فضيلة الإصلاح بين الناس ومن ينتدب إليها

بسم الله الرحمن الرحيم

          فطر الله البرية على الاستجابة لقانون التعايش، وهيأهم لذلك بما قسم بينهم من مواهب ومكاسب، و قد قرر المولى هذه الحقيقة في سورة الزخرف لما قال:  “نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا” [الآية:32] وسخريا من التسخير، لا من السخرية[1]، أي تسخير بعضهم بعضا في حوائجهم المختلفة، وقضاء مآربهم المتباينة،  قال ابن جزي: “هو من التسخير في الخدمة، أي؛ رفعنا بعضهم فوق بعض ليخدم بعضهم بعض” . [2] وزاد البيضاوي بيان علة هذا الاحتياج وسر عدم الاستغناء، فقال: “ليستعمل بعضهم بعضاً في حوائجهم؛ فيحصل بينهم تآلف وتضام ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه”.[3]

              ولما كان التسخير وتبادل المصالح  ينشأ عنه اختلاط واحتكاك، ولازم الخلطة التصادم والنزاع، كان لا بد من قانون يتحاكم إليه في المنازعات و فض الخصومات، وهو ما تكفلت به الشرائع منذ الحقب الغابرات، فجاءت بذلك معالم الاهتداء واضحة، ورسوم التعايش منضبطة،  لكن قد يعن لبعض الأفراد والجماعات تمرد عن الشرع الهادي، لما يعتري النفوس العدوانية من بغي واعتداء، وتسلط و استئساد، وزهو واستعلاء، ينشأ عنها منازعة ذوي الحقوق،  فيتنكب بذلك  عن المتعارف عليه،  فتحصل بينهم وبين محيطهم ممن تربطهم به صلة التعايش والتسخير نفور ونزاع، يتضرر به السير العادي للعلاقات؛ شذوذ في التصـرفات ، وتشنج في السلوك والمعاملات، وأضرار ومفاسد تقوض صرح التآلف و التضام؛ اللذان رُصِدا مقصدا للتسخير والتعايش بين الأنام، وهنا يأتي دور تركيبة المجتمع،  خاصة من لهم صلة بالمتنازعين، فالمتعين في حق هؤلاء أن يسعوا للصلح بين الطرفين، وينتدب له من يأنس من نفسه  مقدرة على الاضطلاع بهذه المهمة، ويحسن فن الوساطة لفض الخصومات، أو يُرشح إليه من عقلاء الناس من يتمتع بأهلية الإصلاح، وحباه الله بكفاءة رتق  الصدع وجبر الكسـر، ولا شك أن هذا العمل من أجل الأعمال التي يجدها العبد في سجل أعماله، بل عدها المولى من أفضل الأعمال فقال: “لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا” [النساء:114]

           وعملية السعي في الإصلاح تدخل سائر العلائق، ما دامت هناك معافسة، واطراح للقانون المنظم لها، إلا أنه يشترط في الساعي للصلح أن يكون حكيما، خبيرا بمنهج الإصلاح الراشد، فأول خطى الإصلاح البحث عن نواة النزاع، السبب الذي نشأ عنه تشنج العلاقة، وترتب عليه تأزم سيرورة الحياة العادية، وهو أمر يغفل عنه جل الساعين في الإصلاح، والذي يصرم حبال الوصل غالبا هو الطرف المظلوم، وهو تصرف  بدهي، فلما تعييه السبل للأخذ بحقه، وييأس من قرنه وخصمه، ولا تجدي معه المحاولات، ولا كثرة الوساطات، يهجره ويقطع صلته به.. فيأتي من يسعى للإصلاح، ممن ليست له دراية بقانون الصلح ، إلى الطرف المظلوم، يلتمس منه العفو والصفح، والتجاوز عما فات، ويذكره بالنصوص الحاثة على الصلح، وما فيها من عظيم الأجر والثواب، حاثا له على نبذ الإحن الشيطانية، وما يلقيه في القلوب من نزغات، و يبثه من  عداوات، ولا يعرج على مظلمته، و لا على منشإ النزاع، ولا على الحق المسلوب، ولا المستحق المنهوب، وإن تعلق صاحب الحق بمظلمته أجيب: عفا الله عما سلف، وهذا من سوء التدبير في الصلح، لما فيه من إهدار الحقوق، وعدم الأخذ على يد الظالم، وإقرار الحيف النازل بالطرف المظلوم، فقد يستجيب الملتمَس منه الصلح لمطلب الساعي له تحت سيف الحياء، لكن لم تستأصل فتيل الخصومة، ولا أجهز على سبب الخلاف،  فيبقى في النفس وهج وسعار، ولم تشف الصدور باقتطاع مظلمتها، واسترجاع حقها، فلا يلبث أن تشب العداوة من جديد، كأشد ما كانت عليه قبل، وأدنى نزاع يوقظ الفتنة الرابضة، فيكون الصلح السابق بمثابة من دفن الجمر بالرماد، فسـرعان ما تسفيه الريح، وتدر الفتنة بقرنها من جديد.

        ثم إن هذا النوع من الصلح بين الأطراف المتنازعة فيه عدم مناصحة للظالم، و تشجيع له على ظلمه، كما  فيه نوع استمراء لما صدر منه، وغض الطرف عن العدوان، وهو غش و عدم مناصرة له، وإلا فإن نصرته تقتضي أن يحمل على كف غيه، و أن يبصـر بعيبه، ويأخذ على يده بشتى الوسائل المحققة لهذه الغاية، وذا مترجم قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه  أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُـرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»[4]

   ولأحمد  عَنْ أَنَسٍ، وَيُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ تَمْنَعُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ»[5] .

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،أَفرأيتَ إذا كَانَ ظالماً كيف أنصـره؟ قال: تحجُزُهُ أوْ تمنَعُه منَ الظلمِ، فَإِنَّ ذلكَ نصره”.[6]

           ظاهر هذه النصوص استشكال الصحابة رضوان الله عليهم كيفية نصـرة الظالم، ففهموا النصرة على ظاهرها؛ وأنها مؤازرة للشخص في الموقف، ومعاضدة له فيما يروم و يحاول، سواء كان محقا أومبطلا، فصحح لهم النبي صلى الله عليه وسلم المفهوم، وأناط النصرة بإحقاق الحق، فأبان أن نصرة الظالم أن تحجزه عن الظلم، وترده عنه، و أن تسعى في كف أذاه عن الناس، فذلك نصره في الحقيقة، لأنك تحول بينه وبين اصطحاب مظلمته إلى يوم القيامة، حيث لا تحلل له منها إلا من حر حسناته، وحديث المفلس صريح في هذا، فالحيلولة بينه وبين مواقعة هذا المصير نصرة له، بل هو النصرة على الحقيقة، لما فيه من استشراف إصلاح المعاد.

ومما ينبغي أن يتنبه له في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “انصـر أخاك ظالما أومظلوما” فسمى كلا من الظالم والمظلوم أخا، كما قرره الحق سبحانه في كتابه عند قوله: “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم”، ففيها تذكير بوشيجة الإخوة الإيمانية التي تسمو علاقتها فوق كل علاقة، حتى إنها عفت صدر الإسلام على علاقة أخوة النسب إذا ما تجردت عن رابط توافق المعتقد، وفي تصدير الحديث بالأخوة تذكير بلازمها الذي هو الحب والمناصحة والإشفاق وإخلاص الود..كل أولئك باعث على نصره ظالما أو مظلوما؛ أن ينصف من ظالمه مظلوما، وأن يسترد الحق من الظالم استباقا لوقوعه في الخذلان غدا.

[1] ومنه قوله تعالى في سورة ص، “وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سُخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ” [الاية:62-63]

[2] التسهيل لعلوم التنزيل، 2/258.

[3] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 5/90.

[4] رواه البخاري، 6952.

[5] المسند، رقم:11949

[6] رواه البخاري كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل و نحوه، رقم:6552.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق