مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

قبس من مشيخة عبد الرحمان بن خلدون (ت‍ 808 ه‍) في أخذ القرآن وأوجه أدائه

الحمد لله رب العالمين وبه نستعين وصلوات ربنا وسلامه على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد؛ فهذا عَفْوقلموبذْل لسان،يَنْظم شجون الحديث عن الحَراك القرائي المؤثَّل، الذي شهده القطر المغربيزمن العلامة المؤرخ عبد الرحمان بن خلدون(732 – 808 ه‍) بالقطر التونسي خاصة؛ إذْنَنْمي من خلاله خبر تلقِّيه أَبْجديات الكتاب العزيز بأوجهه المعتبرة،وجمعه طرق رواياته المشتهرة في سن يفاعته وإبَّان شبيبته وما إليه، ثم نُلقى – بعدُ- وَريف الظِّلعلى سيرة أعيان مشيخة الرجل ومعادن إفادته،تدليلاً ساطعا على انفساح وَفْضة الرجل في الأخذ والتحصيل، مع اتساع دركه ووعيه وحياطته بمسائل المنقول والمعقول – مما تشهد به أوضاعه ومشاركاته- خاصة فنون علم الذكر ومتعلِّقاته، فهو لذلك وغيره يَنتصب أنموذجا ماجدا مصوِّراًلمعالم الطراز القرائي المتفرد، السائد بالقطر التونسـي في طرائق العرض لمسائل الأداء واستيعاب الخلاف في طرقه ورواياته،جَرْيا على سَنن الرواد السابقين في استطالة وامتداد أمثال:ابن سفيان (ت‍ 413ه‍) ومكّي(ت‍  ‍437 ه‍) والمهدوي(ت‍ 440 ه‍) والحصـري(ت‍ 488 ه‍) وغيرهم من النُّقّاد الحذَّاق، وعليه؛ فإنَّ مترجَمنا ابنَ خلدونقد أدرجته الأقدار الربانية في مسالكالممالك السلطانية،فتوقَّل قُلل المناصب السياسية واعتلى ذروة المجالس العلميةوالدينية(مشيخة وكتابة وحجابة ووزارة وسفارة …) وطوَّف البلاد وجاب سهلها وحَزْنها،وهو صاحب قالة:(الرحلة مزيد كمال في العقل) طلبا للمجد والسؤدد، وحرصا على العلوّ في المنصب والمشهد …، ثم إنه على الرغم من اشتهار مُكْنة العلامة ابن خلدون وذيوع مكانته في المعارف الإنسانية جُملةً، إلا أنَّ الإشادة بملكته القرائية (اختياراته ومذهبه) ورصدمعالم ضلاعته فيها (رواية ودراية) لا تُزَارُ- من لدن الدارسين – إلاَّ لِماماًيَبْغي مُنصَرَفا، ثم هذه بسطة عَجْلى ونظرة وامقة، تقرِّب في دماثة أهم شيوخ الإقراء – ذوي الشأن والاعتبار -الذين تَلْمَذلهم العلامة عبد الرحمان بن خلدونفي أوليات حياته، بدءا بوالده الذي أدّبه بشمائله وأدناه من مجلسه وتجلَّته، ثم تنزُّلا عند أشهر شيوخ القرآن ومُسْندي أوجه قراءاته بالغرب الإسلامي وناحيته، قال ابن خلدون: (أما نشأتي؛ فإني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربيت في حجر والدي رحمه الله … وتعلمت صناعة العربية على والدي)[[1]].

من شيوخه الذين اسْتَرْفد البركة منهم وروى عنهم:

قرأ القرآن العظيم – حفظا واستظهارا -على الأستاذ المكتِّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن بُرَّال الأنصاري [[2]ثم شرع في قراءاته بالروايات الأربع عشـرة الشهيرةإفرادا وجمعا – على ابن بُرَّال، وذلك في إحدى وعشـرين ختمة،ثم جمعها في ختمة واحدة أخرى، ثم عرض عليه (رحمه الله) قصيدتي الشاطبي (ت‍ 590ه‍)؛ اللامية في القراءات السبع المسماة ب‍ حِرْز الأماني ووجْه التَّهاني، وكذا الرائية في الرسم الشهيرة ب‍عَقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد،وقد أخبره بهما عن الأستاذ أبي العباس البَطَرْني[3]شيخ تونس وغيره [[4]].

وقرأ على الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد الزواوي(ت‍ 753 ه‍) مقرئ فاس وقسنطينة وفارس ميدانهما[[5]] بما يسمى ب‍ الجمع الكبيربين القراآت السبع، من طريقيأبي عمرو الداني(ت‍ 444ه‍) وأبي عبد الله محمد ابن شريح(ت‍ 476 ه‍)، في ختمة لم يكملها، قال ابنخلدون: شيخ القراآت بالمغرب، أخذ العلم والعربية عن مشيخة فاس، وروى عن الرحالة أبي عبد الله محمد بن رُشيد، كان إماما في فن القراءات وصاحب ملكة فيها لا تجارى، وله مع ذلك صوت من مزامير آل داود، وكان يصلي بالسلطان أبي الحسن علي بن عثمان المريني[6] (ت‍ 749 ه‍) التراويح، ويقرأ عليه بعض الأحيان حزبه [[7]].

أفاد من الأستاذ أبي عبد الله محمد بن الصفارالتينملي(ت‍ 761 ه‍) [[8]]، من أهل مراكش، إمام القراآت لوقته، أخذ عن جماعة من مشيخة المغرب، كبيرهم شيخ المحدثين الرحالة أبو عبد الله محمد بن رُشيد الفهري (ت‍ 721 ه‍)، سند أهل المغرب وصاحب الرحلة الحجازيةالمسماة ب‍ مَلْء العَيبة، وكان يعارض السلطان أبي عنان المريني بفاس القرآن برواياته إلى أن توفي[9] (ت‍ 759 ه‍) كما أفاده الونشريسي [[10]].

أفاد من الشيخ المعمَّرالرحالة أبي عبد الله محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي [[11]](ت‍ 758 ه‍)، قال فيه ابن خلدون: شيخ وقته جلالة وتربية وعلما وخبرة بأهل بلده وعظمة فيهم،نشأ بفاس وأخذ عن مشيختها، وارتحل إلى تونس، … ولازم سنن الأكابر والمشايخ …، ولما جمع السلطان مشيخة العلم للتحليق بمجلسه والإفادة منهم؛ استدعى شيخنا أبا عبد الله بن عبد الرزاق، فكان يأخذ عنه الحديث ويقرأ عليه القرآن برواياته، في مجلس خاص إلى أن هلك رحمه الله [[12]].

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع


[1] التعريف بابن خلدون ورحلته غربا ومشرقا ص 17، 19.

[2]أصله من جالية الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إماما في القراآت، لا يلحق شأْوه، ومن أشهر شيوخه في السبع؛ أبو العباس أحمد بن محمد البَطَرْني، ينظر التعريف ص 17. 

[3]الدر النثير (شيوخ المؤلف ومدى تأثره بهم) 1/16، برنامج الوادي آشي (هذا ذكر من حضرني ذكره مما شرح في أول التأليف) 1/181، البرنامج للتجيبي ص 27، برنامج المجاري 1/143.

[4] التعريف ص 17.

[5]التعريف ص 46وتاريخ ابن خلدون 7/394، غاية النهاية 1/125 تر 580،

[6] قال الناصري في الاستقصا3/118 : (هذا السلطان؛ هو أفخم ملوك بني مرين دولة، وأضخمهم ملكا، وأبعدهم صيتا، وأعظمهم أبهة، وأكثرهم آثارا بالمغربين والأندلس).

[7] التعريف ص 21، المسند الصحيح الحسن لابن مرزوق ص 122.

[8] تاريخ ابن خلدون 7/700، التعريف بابن خلدون 60 – 60، شرف الطالب لابن قنفذ82، الوفيات للونشريسي124، لقط الفرائد لابن القاضي 211 (ألف سنة من الوفيات)، تاريخ القراء لسعيد أعراب ص 62، 91.

[9]التعريف ص 61

[10](الوفيات 122)

[11] نيل الابتهاج تر 548.

[12] التعريف 68.

د.مولاي مصطفى بوهلال

    • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق