مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةفهارس

صفحات مضيئة من فهرس المنتوري -2- كتاب الشرح الصغير لحرز الأماني ووجه التهاني لعلم الدين السخاوي (ت643ه‍)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وبعد:

يعتبر علم الدين السخاوي من الأوائل الذين شرحوا منظومة حرز الأماني ووجه التهاني لولي الله الشاطبي؛ إن لم يكن أولهم، وفي هذا المقال سأحاول – بحول الله – أن أُبين أن للسخاوي شرحين على هذه المنظومة المباركة، شرحا كبيرا، وشرحا صغيرا، وسأقدم لهذا المقال بمقدمتين مختصرتين؛ أبين فيهما منزلة هذه المنظومة بين كتب علم القراءات، ونبذة على الشروح التي اهتمت بها شرحا وتبيينا وتعليقا، ومكانة شرح السخاوي عليها من بين هذه الشروح.

منزلة لامية الشاطبي بين كتب القراءات

اشتهرت قصيدة ولي الله الشاطبي الرعيني (ت 590ه‍) في القراءات شهرةً لا تضاهيها قصيدة غيرها، «ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم، فقلَّ من يشتغل بالقراءات إلا ويُقدِّم حفظها ومعرفتَها»(1)، «وقد سارت الركبان بقصيدتيه، حرز الأماني وعقيلة أتراب القصائد، اللتين في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لا يحصون؛ وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء، وحذاق القراء»(2)، «ومن وقف على قصيدتيه، علم مقدار ما آتاه الله في ذلك، خصوصًا اللامية التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها, فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها أو قابل بينها وبين ما نُظم على طريقها, ولقد رُزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن؛ بل أكاد أن أقول: ولا في غير هذا الفن، فإنني لا أحسب أن بلدا من بلاد الإسلام يخلو منه؛ بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة به، ولقد تنافس الناس فيها ورغبوا من اقتناء النسخ الصحاح بها إلى غاية، حتى إنه كانت عندي نسخة باللامية والرائية بخط الحجيج صاحب السخاوي مجلدة، فأعطيت بوزنها فضة فلم أقبل»(3). «هذه القصيدة التي تحير فيها ذوو العقول، ولم يصل إلى فهم معانيها إلا الأذكياء الفحول، مع احتوائها على ما في الكتب المطولات والمبسوطات، وانفرادها بجواهر نفيسات، وتحرير أمور معضلات، والإشارة إلى توجيه بعض القراءات، وتصوف في أعلى الدرجات، وغير ذلك مما لا يهتدي إليه إلا ذوو الفهم والإشارات»(4).

شروح الشاطبية

هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية لهذه القصيدة المباركة، جعلت علماء القراءات من لدن عهد مؤلفها إلى يومنا هذا يتصدّون لشرحها، فمنهم من شرحها شرحا مختصرا، ومنهم من شرحها شرحا مطولا، ومنهم من كان شرحُه وسطا، وقد تتبع شروحَها، وعرّف بها تعريفا موجزا حسب وفيات مؤلفيها العلامة سيدي عبد الهادي حميتو في موسوعته الماتعة «قراءة الإمام نافع عند المغاربة من رواية أبي سعيد ورش»(5)، فذكر ما يزيد على مائة شرح لها، وبلغ اهتمامُ علماء القراءات بهذه اللامية بأن شرحها بعضهم مرتين، كما فعل علم الدين السخاوي (كما سيأتي معنا في هذا المقال)، وبعده أبو شامة الدمشقي، وقد ذكر هذا الأخير في شرحه الموسوم بإبراز المعاني من حرز الأماني، وهو يتحدث عن شرح السخاوي، أنه سمع من بعض أصحابه حكى لهم أنه سمع بعض الشيوخ المعاصرين للشاطبي يقول: «يا سيدي هذه يقيض الله لها فتى يبينها»، أو كما قال، قال: فلما رأيت السخاوي قد شرحها، علمت أنه ذلك الفتى الذي أشار إليه(6).

شرح السخاوي للشاطبية (الصغير والكبير)

جلّ من ترجم للسخاوي يذكر أنه شرح نظمَ الشاطبي في القراءات، ومنهم من يقول أنه هو أول من شرحها، ومنهم من يسمي هذا الشرح (فتح الوصيد في شرح القصيد)، وهو العنوان المنصوص عليه في مقدمة هذا الشرح(7)، وهو الشرح الذي كان سبب شهرتها كما ذكر أبو شامة الدمشقي، قال: «وإنما شهرها بين الناس وشرحها، وبين معانيها وأوضحها، ونبّه على قدر ناظمها، وعرف بحال عالمها، شيخُنا الإمام العلامة علم الدين، بقيةُ مشايخ المسلمين، أبو الحسن علىُّ بن محمد؛ هذا الذي ختم به الله العلم مع علو المنزلة في الثقة والفهم»(8). لكن لم يَذكر أحد من المترجمين للسخاوي، ولا الشراحُ الذين أتوا بعده – حسب ما اطلعت عليه من مصادر – أن للسخاوي شرحين على الشاطبية الكبرى؛ إلا أني وجدت أن في فهرس المنتوري تنبيها على هذه المسألة؛ فقد ذكر رحمه الله: «كتاب الشرح الصغير لحرز الأماني: تأليف علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي، قرأت بعضه على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن محمد بن عمر، وناولني جميعه، وحدثني به عن الأستاذ أبي الحسن علي بن سليمان القرطبي، عن القاضي تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الحسين بن رزين الحموي عنه»(9). قال محقق الفهرس معلقا: «وعنوانه: فتح الوصيد في شرح القصيد ..»، وسيتبين بعدُ أنه وهم من المحقق رحمه الله، وقال العلامة البحاثة سيدي عبد الهادي حميتو: «وأشير هنا إلى أمر مهم لم أر من نبه عليه، وهو أن لأبي الحسن السخاوي شرحين على الشاطبية؛ أحدهما الصغير، والآخر الكبير، والظاهر أن الذي في الأيدي هو الكبير لأنه في مجلدين كبيرين»، ثم قال حفظه الله: «ومع أن المنتوري لم يسند في فهرسته إلا الشرح الصغير، فإنه ينقل في شرحه على الدرر اللوامع لابن بري على الشرح الكبير، فيقول ..»، فأشار إلى ثلاثة نقول من الشرح الكبير، ثم قال: «ونقل أبو زيد بن القاضي عن المنتوري ما ذكره في شرحه على الدرر اللوامع أيضا، ولم يتعرض لقوله «الشرح الكبير» ببيان، كما أن الجعبري والذهبي وابن الجزري كلهم ذكر للسخاوي «فتح الوصيد»، و«الوسيلة في شرح العقيلة» وغير ذلك، ولم يذكر له أحد منهم على الشاطبية غير ما ذكر»(10).

مما سبق يتبين أن للسخاوي شرحين على الحرز؛ شرحا كبيرا وهو «فتح الوصيد»، وهو المطبوع المتداول بين الناس، وهو مقصود جلُّ من ترجم للسخاوي رحمه الله تعالى، وشرحا صغيرا، وهو الذي أسند المنتوري في فهرسه، وقد نقل المنتوري في شرحه على الدرر عن الشرحين الكبير والصغير، وسأسوق أولا النقول عنه من الشرح الكبير:

قال السّخاوي في الشّرح الكبير: «أشار بقوله: «بادره طالبا» إلى استحسانه للفرق بين ما يلزم فيه المدّ ولا يزول بحال، وبين ما هو بصدد الزّوال، لأنّه إذا وقف  على الكلمة الأولى زال المدّ»، قال: «وأشار أيضا إلى الفرق بين ما هو من كلمة، وما هو من كلمتين بقوله «بخلفهما» في ظاهر اللّفظ»(11).

وقال أيضا: «وهو أنّ النّون السّاكنة لقربها من الرّاء واللاّم، صارت معهما كالأمثال الّتي ينوب بعضها عن بعض، فأُذهبت الغنّة؛ وحين بعُدت من الياء والواو احتيج إلى إبقاء الغنّة، لتدلّ على الحرف المدغم الّذي اختصّت به»(12).

وقال أيضا: «قال الحافظ أبو عمرو: قرأت على أبي الفتح وعلى الخاقاني ذلك كلّه بين بين كسائر رءوس الآي الّتي لم يتّصل بالألف المنقلبة عن ياء فيها هاء كناية مؤنّث، طرداً لمذهب ورش في سائر ذوات الياء؛ وقرأت على أبي الحسن بالفتح في ذلك، جمعا بين اللّغتين لفشوّهما واستعمال العرب لهما، على أنّ قياس قول أبي يعقوب وغيره عنه في ذلك: الوسط من اللّفظ، وذلك طردٌ لمذهب ورش في ذوات الياء، إذ لم يراع في ذلك حَشوا ولا طرفا»(13).

وقال أيضا: «التّرقيق ضرب من الإمالة، والغرض به نوع من الغرض بها، وهو اعتدال اللّفظ بتقريب بعضه من بعض؛ فإن قيل: ما التّرقيق؟ فقل: تقريب الفتحة من الكسرة»(14).

 فهذه النقول عزاها المنتوري إلى الشرح الكبير، وهي موجودة بنصها في فتح الوصيد، فهذا مما يؤكد أن الشرح الكبير للسخاوي هو فتح الوصيد، وليس هو الشرح الصغير كما ذكر محقق فهرس المنتوري، وهذا الشرح أيضا أسنده المنتوري بالإجازة بالإسناد نفسه الذي أسند من طريقه الشرح الصغير؛ فقد ذكر رحمه الله في مقدمة فهرسه أنه بدأ بذكر ما رواه بالقراءة والسماع لجميعه أو بعضه من الكتب المفردة، ثم أتبع ذلك بذكر ما رواه بالإجازة من التآليف على اختلافها وشتى أصنافها(15)، والشرح الكبير داخل في القسم الثاني؛ فقد أورد رحمه الله تآليف علم الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب الهمداني السخاوي شارح الشاطبية، وقال: «حدثني بها الأستاذ أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر، عن الأستاذ أبي الحسن علي بن سليمان القرطبي، عن القاضي ثقة الدين أبي عبد الله محمد بن الحسين بن رزين عنه»(16)، وبهذا يعلم أن كلا الشرحين مسندان في الفهرس؛ إلا أن الشرح الكبير مسند بطريق الإجازة العامة لمؤلفات علم الدين السخاوي.

بقيت مسألة أخيرة، وهي: هل نقل المنتوري عن هذا الشرح أعني الشرح الصغير في شرحه على الدرر؟

فقد وجدت في شرح المنتوري على الدرر نقلا واحدا من الشرح الصغير للسخاوي؛ فقد ذكر المنتوري وهو يتحدث عن كلمة ﴿هَا۬نتُمْ﴾ قولَ الشاطبي رحمه الله:

وَلاَ أَلِفٌ هَا هَأَنتُمْ زَكَا جَنَى

  وَسَهِّلْ أَخَا حَمْدٍ وَكَمْ مُبْدِلٍ جَلاَ

ثم قال: «قال السّخاوي في الشّرح الصّغير: أخبر أنّ (البزّي)(17) وورشاً، ليس عنهما في هاء ﴿هَا۬نتُمْ﴾ ألف، ويفهم من هذا وجود الألف للباقين، ثمّ أخبر أنّ نافعا وأبا عمرو يسهّلان همزه. فقال: «وَسَهِّلْ أَخَا حَمْدٍ»، فيبقى الباقون على تحقيقه، ثمّ أخبر أنّ لورش وجها آخر، وهو إبدال الهمزة ألفا فقال: «وَكَمْ مُبْدِلٍ جَلاَ»، و«كم» إشارة إلى كثرة من قال بالبدل، فقد صار لورش وجهان: تسهيل الهمزة وإبدالها ألفا خالصة، وهذه الألف الموجودة في حال البدل، ليست المقصودة بقوله: «وَلاَ أَلِفٌ فِي هَا ﴿هَأَنتُمْ﴾ زَكَا جَنَى»، لأنّه أراد به: ليس في قراءتهما ألف بين الهاء والهمزة المحقّقة في قراءة قُنبل، ولا بين الهاء والهمزة المسهّلة أو المبدلة في قراءة ورش؛ ولقالون وأبي عمرو وجهٌ واحد، وهو تسهيل الهمزة والألف قبلها؛ ولقنبل وجه واحد، وهو تحقيق الهمزة من غير ألف قبلها؛ وللباقين وهم البزّي، وابن عامر، والكوفيّون، وجه واحد، وهو تحقيق الهمزة والألف قبلها»(18).

فهذا هو النص الوحيد الذي حفظ من هذا الشرح المفقود، ومن خلاله يتبين بعض معالم هذا الكتاب، فهو مختصر من غير إخلال فيه، فهو يعطي شرحا للبيت يَتبين من خلاله القارئُ خلف القراء السبعة في الحرف القرائي من دون إسهاب ولا تطويل، فعسى أن يظهر هذا الكتاب في مكتبة من المكتبات، لكي تتم الفائدة به، وأن يكون هذا النقل مفتاحا للكشف عنه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

  • وفيات الأعيان 4/ 71.
  • (2)  معرفة القراء الكبار 1/ 312.
  • (3)  غاية النهاية 2/ 22.
  • (4) المفيد في شرح القصيد 1/ 85.
  • (5) 2/ 179-213.
  • (6) إبراز المعاني ص8.
  • (7) فتح الوصيد 1/ 4.
  • (8) إبراز المعاني ص8.
  • (9) فهرس المنتوري ص69.
  • قراءة الإمام نافع عند المغاربة 2/ 182-183.
  • شرح الدرر 1/ 178-179، وينظر: فتح الوصيد 2/ 272.
  • شرح الدرر 1/ 431، وينظر: فتح الوصيد 2/ 408.
  • شرح الدرر 1/ 468، وينظر: فتح الوصيد 2/ 442-443.
  • شرح الدرر 2/ 535، وينظر: فتح الوصيد 2/483.
  • فهرس المنتوري ص 61.
  • نفسه ص 343-344.
  • كذا في شرح الدرر، ورجعت إلى نسختين خطيتين وهي موافقة لما أثبت في المطبوع، وصواب الكلمة: قنبل، وهو المرموز له بـ«زكا»، ويؤكده أيضا ما جاء في النقل بعدُ.
  • شرح الدرر 2/ 822.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق