مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

قواعدُ في صناعة الشعر! القاعدة الثانية: معرفة العروض والقافية (الحلقة الثالثة)

من آلات الشعر وأوكد أدواتهِ على من يتكلف نظمَه وصناعتهُ معرفةُ الأوزان؛ فيأمن من التخليط بينها، والتمييزُ بين الزحافات؛ فيعرف الحسن فيعتمده، والمستكره القبيح فيتجنبه، وكذلك معرفة أحكام القوافي وما يلزم فيها وما لا يلزم، وما يصلح من الحروف أن يَكون رويًّا وما لا يصلح، وما يستحسن فيها وما يستقبحُ كالسِّناد مثلًا، وكل أولئك لا يمكن ضبطُ أزمّته إلّا بمعرفةِ العروض والقافية، ولا تُضبط مسائلهما إلا بالرجوع إلى علم الخليل بن أحمد الفراهيدي- رحمه الله تعالى -.

والقدماءُ كانوا في غنًى عن العروض غِناهُم عن النحو والإعراب؛ لصحة طباعهم وسلامة أذواقهم، واستقامة سلائقهم، وفي ذلك يقول ابن طباطبا العلويّ – رحمه الله تعالى -: «مَنْ صَحَّ طَبْعُهُ وذَوْقُهُ لم يَحْتَجْ إِلَى الاستعانَةِ على نَظْمِ الشِّعر بالعَرُوض الَّتِي هِيَ مِيزَانه. وَمن اضطَرَب عَلَيْهِ الذَّوقُ لم يَسْتَغْنِ عَن تَصْحيحهِ وتَقْويمهِ بمَعْرفِة العَروضِ والحِذْقِ بهَا حَتَّى تَصِير معرفَتُهُ المُسْتفادةُ كالطَّبع الَّذِي لَا تَكَلُّفَ مَعَه»(1).

ويقول ابن رشيق القيرواني  – رحمه الله تعالى -: «والمطبوعُ مُستغنٍ بطبعهِ عن معرفة الأوزانِ، وأسمائها، وعللِها؛ لنُبُوِّ ذَوْقهِ عن المُزَاحَف منهَا والمُستكرَه. والضعيفُ الطَّبع محتاجٌ إلى معرفة شيءٍ من ذلك، يُعينهُ على ما يُحاوله من هذا الشأن» (2).

وأما من اختلّ طبعُه وفسَد ذوقُه كغَالب أهل العصر فيتأكَّدُ عليهم معرفةُ العروض والقافية؛ ليُميّزوا صحيح الأوزان من فاسدها، وليأمنوا من الخلط بينهَا، وليعرفوا الزحافات وتفاوُتَها في الحسن والقبح، وما يتعلّق بها من مُراقبة ومُعاقبة ومُكانفة؛ إذ بعض ما يجوز قدْ لا يستحْليه السّمع، وينبو عنه الطّبع.

 ولله در شارحِ الحاجبيّة الفيوميّ المقريّ حين قال: «لا يقالُ: قد يُستغنى عنه [أي العروض] اكتفاءً بالذوق والطبع السليم؛ لأنا نقول: لا نُسلِّم أنّ الطباع السليمة تكون كافيةً نقية في التمييز بين صحيح الوزن وفاسده، أو بينَ أنواعه؛ لأنَّ المتّصف بها قد يَسْتحْلي ما أبتْهُ العرب، أو يأبى ما استحْلتْه أو أجازته، تحمل ذلك أو اشْتبه عليه الأجناسُ بعضها البعض عنْد التغيير كالخزم والخرم، وكمضمر الكامل بسالم الرجز، وموقوصه بمخبونه، فلا يفرق بينها، فيخلط بإدخال جنس على جنسٍ كما وقع فيه جماعة من الفُحُولَةِ، فالرجوع إليه رجوعٌ إلى غير عالم، فهو أيضا مفتقر إليه، ولا يسعهُ الجهل به. ولئنْ سلَّمنا أنها كافية فقد يُفْقَدُ صاحبها أو يَخْفَى عند التجاذب، ولا طريق إلى الترجيح، فوجب حينئذٍ وضعُ قانون يكون حُجَّة يَفزَع إليه ذو الطبع السليم وغيرُه عند الالتباس، حتى كأنَّ المتمسِّك به قد شافهَ العرب الفصحاء وتلقاه منهم، وذلك القانون هو العروض»(3).

ويدلّ أيضًا على خطر علم العروض ورفعة قدره وتأكُّد تحصيلِه على من يتكلف نظمَ الشعر وصناعتَه أن المطبوعين قد يخونهم الطبع، ويخذلهم الذوق، فيقعُون في سقطات وهفواتٍ عروضيّة، كالمتنبّي في قصيدته الفائية التي مطلعها: [الطويل]

لِجِنِّيَّةٍ أمْ غادَةٍ رُفِعَ السَّجْفُ=@=لِوَحْشِيَّةٍ؟ لا ما لِوَحْشِيَّةٍ شَنْفُ

قال الصاحب بن عبّاد: «وفي هذه القصيدة سقْطة عظيمة لا يفطن لها إلا من جمع في علم وزن الشعر بينَ العروض والذوق، وهو:

تَفَكُّرُهُ عِلْمٌ وَمَنْطِقُهُ حُكْمٌ    ***     وَبَاطِنُهُ دِينٌ وَظَاهِرُهُ ظَرْفُ

وذلك أن سبيل عروض الطويل أن يقع (مفاعلن)، وليس يجوز أن تأتي (مفاعلين) في العروض إلا إذا كان البيت مصرعاً، اللهم إلا أن يضع هو عروضاً وتكون له دائرة منفردة. وهذه العروض قد أُلزِمت القبضَ، لعلل ليس هذا موضع ذكرها، ونحن نحاكمه إلى كل شعر للقدماء والمحدثين على عروض فما نجد له على خطأ مساغاً»(4).

*   *   *

وقد أُلفت في العروض والقافية كتب كثيرة، ومما يصلح للمبتدئِ:

– ميزان الذهب لأحمد الهاشميّ (ت:1943م)

– والمتوسط الكافي في علمي العروض والقوافي لموسى الأحمدي نويوات الجزائري، (ت:1999م)

– وأهدى سبيل إلى علمي الخليل، للدكتور محمود مصطفى (ت: 1360هـ)

ولهُ إذا اشتدّ عُودهُ أن ينظر في:

-الكافي في علمي العروض والقوافي، لشهاب الدين أحمد القنائي المعروف بالخوّاص (ت:858هـ)، وقد وضع عليه العلامةُ الشيخ محمد الدمنهوريّ (ت:1288م) حاشيتين: كبرى، سماها: «الإرشاد الشافي على متن الكافي»، وصغرى -وهي مختصرة الكبرى – سماها: «المختصر الشافي على متن الكافي».

– الوافي (أو الكافي) في العروض والقوافي للخطيب التبريزي (ت:502هـ)

– العيون الغامزة على خبايا الرامزة، لبدر الدين الدماميني (ت:827هـ)، وهو شرح على منظومة (الخزرجية) في العروض لأبي محمد ضياء الدين عبد الله بن محمد الخزرجي الأندلسي (ت: 626هـ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) عيار الشعر (ص:5-6)

(2) العمدة (1/218)

(3) شرح عروض ابن الحاجب، لأحمد بن محمد بن علي الفيومي المقري (ص:18-19)

(4) الكشف عن مساوئ شعر المتنبي (ص:67)

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وسلم

***

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق